القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

رواية: الارض الجريحة.. الحلقة التاسعة

 
الأربعاء 09 اب 2023


زاكروس عثمان 

خاف سپاسکو ان يفعل به الرحيل ما فعل بصديق طفولته نهارو واسرته، إذ بعد ما فقد الناس الثقة بباعة السياسة، أخذت تخرج في قوافل الى اوروبا، بقي نهارو في عامودا بلا رفيق او صديق، سأل نفسه لماذا يبقى، لأجل من يبقى ان كان الراعي يصاحب الذئب، ومع انه لم يجد في سؤاله حجة مقنعة تبرر رحيله، إلا انه باع بيته ودخل الى تركيا ليتابع طريقه الى المانيا، ولأنه لم يكن مقتنعا بالفكرة رجع الى عامودا وقرر شطب فكرة اللجوء من ذهنه، لكن الاحوال سارت من سيء الى اسوأ، ابنه ترك المدرسة وذهب الى هولير، هناك بقي بلا عمل ولا مأوى، وانقطعت ابنته عن الجامعة عقب انتشار الضباع على الطريق، ليست هناك حلول امام نهارو ان اراد البقاء عليه او يعمل سمسارا في سوق السياسة او يشتغل في تهريب البشر الحشيش الدخان او السلاح، 


اعمال ليس في وسعه القيام بها، اجبرته الاوضاع من جديد على الاستسلام لقرار الهجرة، وهو نادم سلفا على خياره هذا، بقي عدة اشهر مترددا حتى ارهقته الحيرة، وكي يرتاح ذهب واتفق مع مهرب حتى يوصله الى المانيا، وما كان سعيدا بهذا الاتفاق، ما زال يسال نفسه هل ابقى ام ارحل، في هذه الاثناء طلب منه المهرب مغادرة عامودا، حينها تمنى لو يحدث له أي شيء يمنعه عن الرحيل لكن لم يحدث شيء، لم يبقى امامه حجج للمماطلة و بات عليه المسير، بقيت زوجته توصيه ان لا يركب البلم، تحذره من خداع المهربين ان لا يطاوعهم ان طلبوا منه نقله داخل صهريج شاحنة او براد لعبور الحدود، لان الناس تختنق فيها، اراد ان يستسهل الامور ليهدأ روعها ويطمئنها بان طرق التهريب باتت اقل خطورة، وان المهرب وعده ان تكون تنقلاته على طول الطريق بالسيارات وأن يرتاح في الفنادق والشقق، تظاهرت الزوجة بانها اطمأنت إلى كلامه، وكأنها لا تسمع كل يوم بالأهوال التي تجري لللاجئين، بالأمس كانت حاضرة في عزاء ابن شيرينا ميرسيني الذي قتلته الجندرما التركية اثناء محاولته عبور الحدود، واليوم تحدث التلفزيون عن طفلة تائه عثر عليها الرعاة على الحدود من طرف روژئاڤا، عادت الزوجة تنصحه تارة بسلوك طريق بري ولكنها تتذكر ان مهاجرين كثر يموتون بردا في غابات البلقان، لتتخلى عن الفكرة وتطلب منه ان يركب البحر بشرط ان يقل سفينة كبيرة وليس قوارب الموت، وهي تعلم ان الامواج تلقي كل يوم بمزيد من الجثث على الشاطئ، إنها محتارة فالموت موجود على كل الطرق، خافت الزوجة ان يحدث مكروه لزوجها ندمت لأنها اقترحت عليه فكرة الهجرة وطلبت منه البقاء، ولكنه اخبرها ان وقت التراجع قد فات.
 باع نهارو كل ما يملك ورهن ارضه لتغطية مصاريف رحلته، وبعد جهد جهيد توفر المبلغ، ومع ذلك ظل يمني النفس بمعجزة تصرف نظره عن الرحيل، لكن الزمن زمن المسوخ وليس زمن المعجزات، طلب منه المهرب الاستعداد للسفر، لم يطاوعه قلبه ان يغادر عامودا ويترك زوجته واطفاله خلفه، نظر إلى مكتبته وهو يسال كتبه ماذا سيحدث لها بعد رحيله، هل تنجو من الحريق ام انها ستكون ايضا وقودا للحرب، وضع مخطوطاته ونتاج قلمه امامه وانشغل بها ليلة كاملة، انها ثمرة عشرات السنين من عمره، صعب عليه ان يودع قصيدة امضى في نسجها ليال طويلة، ان يترك مقالة كتبها امام ضوء شمعة، ماذا سيفعل بأفكاره هل يتركها مبعثرة على مئات الصفحات المكدسة امامه، شعر نهارو بقلق شديد على جنين اول رواية كوردية زرعها في رحم افكاره، ها هو سوف يترك جنينا غير مكتمل النمو ويرحل، وهو الذي عشق كتبه عشق حبيب لمحبوبته، جمع نهارو كتبه ووضعها في علب كرتون، وطلب الصفح منها لأنه سوف يتركها بلا راع، وهو يسأل نفسه: ترى هل سوف يلمس هذه الكتب مرة اخرى ام انها ستندثر باندثاره. 
اخذ نهارو اسرته الى القرية كي يوصي عمه بها في غيابه، وقف هناك على بيادر القرية جال النظر في بيوتها بيتا بيتا، هناك قبل ثلاثين عاما كان يلعب الكرة، وهنا كان يرعى خراف جده، وعلى مشارف القرية كان يساعد زوجة عمه في جني نبتة قنيبر الشهية، القرية وجوده وها هو يوشك على مغادرة هذا الوجود، قال في سره: لست قادرا على الاستغناء عنك، صعب علي ان ابتر جذوري من اعماقك والقي بنفسي في مهب الريح، لست واثقا اين تلقي بي الاقدار، ترى هل استطيع العودة حين تذريني الرياح، فيما هو ساهم زف وقت الرحيل، دقائق معدودة لم يشهد اصعب منها في حياته، نظر الى عيني زوجته وهي تذرف الدموع، الى وجوه اطفاله الذين لم يدركوا بعد لماذا سوف يبتعد عنهم، انهم لا يعرفون ما هي المانيا وماذا يعني الرحيل، جدتهم قلقة من رحيله تطلب منه البقاء، صَمتُ جدهم يشرح حزنه، مؤلم للغاية ان يترك اناس ربوه صغيرا، شاهدوه يكبر امام انظارهم، يتزوج ابنتهم، حياة طويلة بينه وبينهم، كيف ينزع طفل من حضن امه وكلاهما يدركان ان التلاقي صعب، كيف ينزع الظفر من اللحم دون وجع، كيف يقول لهم الوداع وهم وجوده كيف يغادرهم خاويا من كيانه وهو ليس متأكدا بانه سيعود ذات يوم، احس نهارو بان روحه تنسلخ عنه بعيدة وتترك له جسد خاو، الحيرة تعتصره في اللحظات الاخيرة ما زال لا يصدق بانه راحل، ما زال يسأل هل ارحل ام ابقى، الاهل يعرفون قرارة نفسه ويتألمون مثله لهذا لم يرغب بتعذيبهم اكثر، لم يعرف كيف ودع عمته وعمه، عانق اطفاله وحين التفت إلى زوجته قبل طفلته الصغيرة في حضنها، اراد ان يقبل زوجته قبلة كبيرة وقعت انظارها بأنظاره غلبهما البكاء، في تلك اللحظة مرت امام اعين نهارو اثنان وعشرون سنة بحلوها ومرها عاشها مع زوجته، وما كان احدهما يستغني عن الاخر، واليوم يودعها وهو لا يدري ان كان سيلتقي بها ثانية، عانقها وركب السيارة وطلب من السائق الانطلاق، ابتعدت العربة عن القرية وغابت عن اعين اهله فاجهش في البكاء إلى حد الشبع. 
وصلت العربة إلى عامودا، ضم المهرب نهارو إلى لاجئين آخرين، واتجهت العربة إلى سري كانيية، اوصاهم المهرب بحسن التصرف مع اسايش الادارة الذاتية الديمقراطية حين يصلون إلى حواجزهم، حتى لا يضعوا العراقيل امامهم، كانت الاسياش الكوردية التي تسيطر على المنطقة تمسك الحدود من طرف بنختي، وفي الجهة المقابلة سرختي كانت الجندرمة التركية تسيطر على الحدود، حيث تشدد الحراسة بمحاذاة القرى الكوردية، وتطلق النار على اللاجئين ويقتلون اعداد منهم، ويعذبون من يتم القبض عليهم، وصلت العربة إلى منطقة تقع منتصف الطريق بين الدرباسية وسري كانية، دخلت قرية سكانها عرب حيث اخبرهم المهرب ان الحراسة التركية هنا تكون اخف من الحراسة الموجودة بمحاذاة القرى الكوردية، سلم المهرب نهارو ورفاقه إلى مهرب آخر كان ينتظرهم فدخل بهم إلى احد البيوت الى ان جاء المغيب، حيث أحضر المهرب فتى صغير و طلب منهم ان يرافقوه إلى الحدود كي يدخلهم إلى الجانب التركي، لم يصدق نهارو ان يكون مرشدهم لعبور الحدود احد الاطفال، تحدث بذلك إلى المهرب فاكد له ان الطريق سيكون آمنا، لكن نهارو يعلم صعوبة و خطورة العملية، قادهم الفتى الى حقل قطن يقع على الحدود تماما، ثم استطلع المكان واتصل بالجانب التركي، اخبرهم ان الطريق آمن، وطلب منهم بعد العبور ان يتجهوا الى مصباح حيث ينتظرهم شخص هناك، وفي لحظة غروب الشمس داس الفتى على السياج الشائك وطلب من نهارو ورفاقه ان يركضوا بأقصى سرعة للابتعاد عن خط الحدود مسافة كيلومترين، فانطلقوا واستغرب نهارو من الصمت والهدوء الذي يسود المكان، لأنه يعلم بالعادة ان الجنود الاتراك ينتظرون اللاجئين ليقوموا بمطاردتهم وإطلاق الرصاص عليهم اثناء محاولاتهم دخول الحدود التركية، ركضت المجموعة ودخلت في ارض طينية لزقة جعلتهم يتركون احذيتهم خلفهم ويتابعوا الجري حفاة إلى ان ابتعدوا عن الحدود مسافة آمنة، لم يصدق نهارو انهم عبروا بهذه السهولة، اتصل بالمهرب فطلب منهم عدم التوجه إلى الضوء والتوقف والاختباء لأن الجندرمة احست بوجودهم وهي تبحث عنهم، جلست المجموعة في الحقل وسط مياه الري اكثر من ساعتين، اتصلوا بالمهرب وكان مشغولا بلعب الورق، طلب منهم التوجه الى تلة في الجوار وبعدها يجدون طريق حيث تنتظرهم سيارة تكسي هناك، وجدت المجموعة ثلاثة تلال توجهوا الى واحدة منها وجدوا في الجوار حركة كثيفة، رجعت وتوجهت الى تلة اخرى وعثروا على الطريق، واخطروا المهرب بذلك، بعدها تلقوا اشارة ضوئية من السيارة التي كانت تنتظرهم، توجهوا إليها وركبوها وانطلق السائق مسرعا، في الطريق تخلص نهارو ورفاقه من ملابسهم المتسخة، قال لرفاقه تخلصنا من الجندرمة التركية فهل نتخلص من الجندرمة التي في ذواتنا سأله احدهم: هل توجد جندرمة في دواخلنا، اجابه لا اعرف ولكن احس انها موجودة هناك ايضا، وصلت السيارة الى قزل تبه ومنها توجهت الى غازي عنتاب ثم ازمير، اتصل نهارو برقم موبايل كان المهرب اعطاه اياه كي يتصل به حين تصل مجموعته إلى ازمير، وبعد الاتصال جاء فتى واخذهم الى فندق قذر وطلب منهم دفع الايجار، مع ان المهرب كان تعهد بدفع اجور الفنادق، اتصلوا به فقال لهم: انتم تدفعون اجور النقل والسكن في تركيا وانا ادفعها في اليونان، لم يكن بوسع المجموعة فعل شيء اما ان يدفعوا اجار الفندق او يناموا في الشارع، احتج رفاق نهارو فقال لهم: كل مهرب سوف يسلمنا إلى مهرب آخر انهم شبكة مجهولة تتقاسم العمل على مراحل، انهم يتواصلون عبر الموبايل، ولا يعيرون اللاجئ اي اهتمام نحن بالنسبة لهم بضاعة وظيفتهم نقلها من مكان الى اخر، كي ينالوا اجورهم ولا يهم ان وصلنا سالمين او موتى، إذ بعد تسليم اللاجئ ذقنه للمهرب يبدأ هذا بالتهرب من وعوده، حينها قررت المجموعة دفع الاجار كي يرتاحوا ويغتسلوا.
ذهب نهارو ورفاقه في نوم عميق وفي صباح اليوم التالي نزلوا إلى ساحة المدينة حيث يجتمع مئات اللاجئين، هناك التقوا الكثير من الكورد والسوريين والجميع عازمون على ركوب البحر والذهاب الى اليونان، استمع نهارو الى احاديث اللاجئين كي يكون على اطلاع بالأمور، تحدثوا له عن قصصهم مع المهربين وقوارب الموت حيث ينجح بعضهم في المحاولة الاولى بالوصول الى جزر اليونان، وقسم اخر يتم القبض عليهم ليتم اعادتهم إلى تركيا، فيما يبتلع البحر اعداد غير قليلة منهم بعد غرق قواربهم، ومن كتب له النجاة يعود إلى تركيا ينتظر فرصة اخرى لمحاولة العبور، التقى نهارو عشرات اللاجئين ممن علقوا منذ شهور في ازمير واخبروه انهم حاولوا العبور مرة وثلاثة وستة دون ان ينجحوا بالوصول الى اليونان، حيث صرفوا ما بحوزتهم من اموال وانقطعوا عن النقود، واضطروا للشغل كي يوفروا اجرة ركوب البلم، تلقى نهارو نصائح بشأن ركوب البحر، كما حذروه من النصابين والمحتالين الذين يتواجدون في الساحة بكثرة بهدف اصطياد اللاجئين، بدأ قلبه يخفق مخافة ان يعلق في تركيا وليس بحوزته نقود كافية ولا يوجد احد في القرية يرسل له نقودا ان احتاج لها، حيث ترك اسرته خلفه بلا معيل. 
عند الظهيرة اتصل به احد الاشخاص اخبره انه قادم ليأخذهم الى البحر، طلب منه شراء بالون ومنفاخ وسترة نجاة، ثم جاءت سيارة تكسي اخذتهم إلى اطراف المدينة وجلسوا بين الاشجار حيث ضمهم المهرب إلى خمسين لاجئ آخر، عند قدوم الليل جاءت شاحنة صغيرة لها صندوق خلفي مغلق صعدت إليها المجموعة وكانت تضم اطفال ونساء ورجال مع حقائبهم وبالوناتهم، لم يكن متسع للجلوس في الصندوق المعدني، بقي الرجال واقفين على اقدامهم، اغلق السائق الباب وانطلق بالشاحنة، التي تحشر اكثر من خمسين انسان في علبة معدنية مغلقة، فَسِدَ الهواء بداخلها واصبحت حرارتها رطبة خانقة، وما عاد بمقدور ركابها التنفس، زاد السائق من سرعة الشاحنة، ادرك نهارو من حركتها اللولبية انها تصعد طريق جبلي، كلما اجتازت منعطفا تطيح بالركاب وتجعلهم يصطدمون ببعضهم البعض، صرخت فتاة صغيرة اوقفوا الشاحنة سوف اقذف قلبي من فمي، اغمي عليها وهي تتصبب عرقا، ما عاد بمقدور الركاب تحمل البقاء في العلبة المغلقة، اخذوا يطرقون جدرانها لإجبار السائق على التوقف وفتح الباب، لكنه لم يعبه بصراخهم وتابع طريقه، النساء والاطفال يبكون، استمر هذا الجحيم الصغير ثلاثة ساعات الى ان توقفت الشاحنة وفتح السائق الباب وهو يشتم الركاب، هرع الجميع نساء ورجال يتبولون ويتغوطون مكشوفين في العراء، وبعد تنفس الصعداء وجدوا انهم على طريق ترابي ضيق وسط غابة نائية، اشار السائق إلى احد الوديان وطلب منهم ان يسيروا بداخله حتى يصلوا البحر حيث ينتظرهم اشخاص هناك، سار نهارو مع المجموعة وهو يدرك ان صمت الغابة يشير إلى انها بعيدة عن العمران حيث لا قرية او مدينة في الجوار، وصلت المجموعة إلى البحر بعد منتصف الليل، مع ان الهواء كان ساكنا، خال لنهارو ان الموج يضرب الشاطئ بعنف، وهو يسمع من اعماق البحر اصوات رعود وانفجارات، سأله احد رفاقه خائفا: يا ابن الله هل تسمع البحر ان كان غضبه على الشاطئ بهذه الشدة كيف يكون وسط المياه، قال: لا ادري ولكن لو كتب لنا النجاة في هذه الليلة سوف نكون محظوظين جدا. 
عند الشاطئ جاء شخصان طلبوا من المجموعة شد البالونات إلى اجسادهم وارتداء سترات النجاة، ثم احضروا قوارب مطاطية من وسط الغابة، كان المهربون جمعوا حوالي مئة وخمسين لاجئا في النقطة، سمع نهارو المياه انخطف قلبه هلعا، نظر الى الامواج قال لنفسه من كان يصدق انني سوف اركب قوارب الموت، انعكس ضوء الفجر على صفحة البحر، تبين له ان المسافة بين المياه التركية واليونانية ليست طويلة، طلب المهرب من المجموعة صعود القارب، واشار إلى ضوء مصباح في الجانب اليوناني عليهم التوجه اليه حيث يصلون اليه خلال نصف ساعة، حذرهم من التوهان في البحر، قام المهربون بتحميل القوارب فوق طاقتها اعترض بعض اللاجئين لكن المهرب وجه اليهم الشتائم واخرج مسدسه وقال: من يريد الركوب ليتوجه الى البلم ومن لا يريد لينصرف من هنا، تبادل نهارو ورفاقه النظرات وهم مترددين هل يركبون القارب ام لا، ان لم يصعدوا سوف ينقطعون في الغابة وهم لا يعرفون كيف يعودون الى ازمير، قال لرفاقه: لا فرق بين مهرب واخر والقوارب هي هي هيا نصعد، نزلوا الى الماء لصعود القارب غاصوا في الماء حتى الرقبة، تشبث نهارو ببدن القارب اللزج لم يتمكن من صعوده إلا بعد ملامسة قدمه لصخرة كبيرة رفعته إلى الاعلى فامسك به شابان في القارب وساعدوه بالانزلاق الى داخله حيث ازدحم بالنساء والاطفال والرجال. 
انطلق البلم والسماء غبش، ابتهل بعض اللاجئين الى الله كي ينجيهم من غضب البحر، هبطت معنويات نهارو إلى الصفر قال لنفسه ها انت تركب قوارب الموت وتسلم مصيرك الى الحظ، بقي احساسه محايدا لم يشعر بالتفاؤل ولا بالتشاؤم ولم يتوقع شيء، المياه واسعة بلا قرار وحياته مرهونة بقطعة مطاط وقليلا من الهواء، سار البلم في المياه والامواج تعصف به تأخذه يمينا ويسارا، ثم هدأ البحر وما عاد يصدر ذاك الدوي المخيف، ارتفعت معنويات نهارو، اطمئن المهاجرون لينتهي الصمت الذي خيم عليهم فبدأ بعضهم بالغناء، ورغم شعورهم بالأمان ظلوا قلقين من غدر المياه، ربما البحر يظهر غضبه في اية لحظة، شعشع الضوء فألقى نهارو نظرة من حوله وجد الجبال تحيط بالبحر من ثلاثة جهات ما دفعه إلى الشعور بالراحة حيث وضع في حسابه اذا تعرض البلم للغرق فسوف يتجه سباحة الى اقرب جبل دون ان يعلم ان الجبال بعيدة عنه عشرات الاميال، ربما خدع نفسه بفكرة السباحة لينعم بالسكينة، فاستسلم للأحلام والخيالات يفكر في زوجته واطفاله، احس بفراشة تحوم فوق راسه وتقول له لا تخف انني معك.
سار القارب ساعة ولم يصل النقطة اليونانية، نادى احد الركاب: يا شباب انا من الساحل السوري ولي خبرة في قيادة المراكب، قاربنا لا عطل فيه لكن ربانه غير ماهر، انه لا يسير في لاتجاه الصحيح، هجم بعض الركاب على الربان وكادوا يلقوا به في المياه، اعترف بانه ربان مزيف حيث عرض عليه المهرب ان يركب القارب مجانا على ان يتظاهر بانه ربان ليطمئن الركاب، طلب الشاب ان يسمحوا له بقيادة البلم بدلا من الربان المزيف، فوجه القارب الذي يحمل ستين راكبا بالاتجاه الصحيح، وبسبب وزنه الزائد وصغر محركه سار ببطء شديد، طلع النهار خاف الركاب من الوقوع في قبضة خفر السواحل التركية قبل بلوغهم المياه اليونانية، انتابهم القلق من نهوض البحر حيث اخذت المياه تغمر باطن البلم، انطفأ المحرك وانسكب البنزين واختلط مع المياه في قاع البلم حيث تجلس النساء والاطفال، اطفال رضع يكاد يختنقون امهات تبكين، مضت ثلاثة ساعات الى ان اقترب القارب من جزيرة يونانية، قام الركاب حسب تعليمات المهرب بإلقاء المحرك في البحر وفتح ثقوب في بدن القارب، كي لا يعيد اليونانيون الركاب الى الجانب التركي، نزل اللاجئون من البلم وغادروا المياه صاعدين الجبل الى ان جاء البوليس اليوناني ليتم نقلهم إلى مخيم ضيق طولاني محاط بسور معدني يطل على البحر من جهة وفي الجهة الاخرى يشرف عليه جبل شاهق، اخذ البوليس الهواتف من المجموعة ووزعوا عليهم بطانيات ثم اغلقوا بوابة المخيم وانصرفوا، كان المخيم مليئا بالأوساخ تنتشر في غرفه رائحة البول والبراز، اضطر اللاجئون الى مد البطانيات على الحصى خارج الغرف.
خرج نهارو من البحر سالما دون ان يشعر بنشوة النجاة، ما زال غير متأكد من انه اتخذ القرار الصحيح، لم تكن حياته بالنسبة له ذو اهمية انما لم يرغب بالموت خوفا على زوجته واطفاله الذين لأجلهم اصبح لاجئا، وفيما هو يقطع مراحل من الطريق صوب المانيا كان يلتفت إلى الخلف مثل سلوقي يخرج الى الصيد بلا رغبة، قال لنفسه بسخرية: ايها الكاتب انت ايضا هربت مثل هؤلاء البؤساء، ما الفرق بين عقلك وعقولهم ما عدا انهم يظنون بان اوروبا خلاصهم تراهم فرحين بعبور البحر سالمين وانت ليس بمقدورك الفرح لأنك تدرك بان اوروبا ليست طريق النجاة، فيما هو ساهم هكذا شعر بجوع شديد حيث لم يذق طعاما او شرابا منذ خروجهم من ازمير، لم يوجد في المخيم دكان او مطعم، عند المساء احضروا لهم خبزا يابسا ومعكرونة لم تكن صالحة للاستهلاك، فاكتفى بتناول كسرات من الخبز، انشغل نهارو بالمناظر الخلابة المحيطة بالمخيم، ليقتل الوقت ويتخلص من السآمة، شاهد في قمة الجبل عددا من الماعز البري، تذكر الاسكندر الكبير الذي خرج من هذه البلاد واكتسح العالم. 
جاء الليل ونام نومة لا اسوأ منها، في اليوم التالي نقلوا اللاجئين الى مخيم أخر، هناك سجلوا اسمائهم والتقطوا صور لهم وسلموا كل واحد منهم كتابا يسمح لهم بموجبه المكوث والتجول في اليونان مدة معينة وبعدها على اللاجئ مغادرة اليونان والا يلقى القبض عليه، ثم نقلوا اللاجئين من المخيم الى مدينة كيوس للسفر الى العاصمة، هناك تفرق الصحبة وبقي شاب وصبي مع نهارو حيث رافقوه لحجز تذاكر سفر، فوجد ان تذاكر اليوم كلها مباعة، اضطر لحجز بطاقات لليوم التالي، ثم ذهبوا للبحث عن فندق ولم يفلحوا بالعثور على فندق شاغر لكثرة اعداد اللاجئين، سأله الصبي: خالووو اذا لم نعثر على فندق اين نمضي الليلة.
نهارو: بسيطة يا روح خالو ننام مثل كل هؤلاء البشر في الشارع.
الصبي: امي حذرتني من عصابات في الشوارع تخطف الناس وتبيع اعضاء اجسادهم.
نهارو: يسرقون القضيب والخصيان، ما دام امك تعرف ذلك لماذا ارسلتك وحيدا إلى طريق الموت يا ولد.
الصبي: يا ويلي خالو ماذا علي ان افعل.
نهارو: لا تخاف سوف نضعك في حقيبة ونربطها بأقدامنا فلا يجرأ احد على الاقتراب منك. 
الصبي: خالو انا جوعان.
 نهارو: لنبحث عن مطعم.
تجول الرفقة في المدينة واعجبوا بجمالها وسحرها، رجالها ودودون، نسائها لطيفات، دخل الصحبة مطعما انتبه نهارو إلى ان سحنة الگرسون مشرقية، سأله ان كان يجيد العربية فقال انه اردني، ساعدهم الرجل في الحصول على منامة مقابل دفع مبلغ اضافي، بعد تناول الطعام ذهبوا إلى الفندق، اغتسلوا واخذوا قسطا من الراحة، ثم خرجوا جولة في شوارع المدينة، سأله الصبي: خالووو لماذا نساء هذه المدينة كلهن قحبات.
 نهارو: وما ادراك انهن قحاب.
الصبي: الا تجدهن كلهن عاريات.
نهارو: هؤلاء ملائكة اما القحاب هن امهات الذين اخرجونا من ديارنا واوصلونا الى هنا. 

يتبع 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 3


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات