القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

رواية: الارض الجريحة.. الحلقة السابعة

 
السبت 05 اب 2023


زاكروس عثمان 

أشعل سپاسکو سيگارة ليخنق الحيرة التي تثقل صدره، سحب نفسا طويلا ثم نفث الدخان على شاشة الكومبيوتر ليحجب خيال وجهه الظاهر عليها، فعل النيكوتين فعله في جسده، تذكر أول مرة اشتهى فيها تدخين سيگارة، وأدرك لماذا كان جده يدخن بصمت ولماذا كان والده يدخن بكآبة ولماذا كان عمه ينفث دخان سگائره على جهاز الراديو، وقتها لم يفهم سپاسکو لماذا بعض الزهور تهجر السهوب الخضر لتنموا على الدمن، حيث لم يعرف أن الرياح تسوق الحشائش إلى مصيرها فتلقي بالأشواك في البساتين وتنفي زهرة العندكو إلى المزابل، تذكر انه سأل زوجة عمه ذات مرة: لماذا يكثر الحسك بين الحقول.


العمة: كي يخدش ساقيك ويوجع قدميك فلا تعود قادرا على المشي كي تقطف حلمك.
سپاسکو: لماذا تموت الزهور على المزابل.
العمة: محكوم علينا أن لا تبصر اعيننا أشياء جميلة.
سپاسکو: لماذا.
العمة: انها مشيئة القرف. 
سپاسکو: ما هو القرف.
العمة: عدالة إلهية.
سپاسکو: هل يمكن الهروب من القرف.
العمة: عمك حاول ذلك فتحولنا إلى متسولين.
سپاسکو: ربما لأنه هرب من الأشواك حافيا.
العمة: بل لأن القطيع لم يتبعه.
سپاسکو: عندك سيگارة.
أشفقت العمة عليه إذ دخن الكثيرون قبله ولنفس السبب مزيدا من السگائر حين وجدوا كل الطرق مسدودة أمامهم، قالت في نفسها: أيها البائس سوف يجف عمرك وانت تحاول إقناع القطيع بالبحث عن طريق اخر غير طريق المزابل، يا اسفي ربما تكون محاولاتك مثل مطر يهطل هباءا على صخور جرداء.
سحب سپاسکو جرعة ثانية من دخان السيگارة واحتجزه في صدره، شغل جهاز الكومبيوتر وجد القطيع ينشر غسيله على الإنترنت، اضطر أن يلحق به ليقدم له علف إلكتروني خال من الشوائب لكنه فوجئ بأن كل خروف أجرب كل نعجة عرجاء كل تيس غبي كل كبش عنين بات فيلسوفا يتبع سياسة الاكتفاء الذاتي ولا يحتاج علف الآخرين، كثرت المعالف الالكترونية والمحزن أن القطيع أقبل على السام منها وعاف الدسم، اعتقد الجميع أن المعالف الافتراضية يمكنها أن تحفظ القرية وتُعَلم القطيع كيف ينجو بنفسه من الافتراس.
نظر سپاسکو إلى حال القرية كيف أصبحت أسمال بالية، أطلق ضحكة مُرة وقال لنفسه: حال المعالف الجديدة كحال منشورات عمي التي بقي القطيع يجترها نصف قرن لكنها لم تساعده على الخروج من المتاهة الزمنية التي علق بها، حينها تذرع الرعيان بالقيود التي تمنع النعاج عن المسير، اليوم حين تكسرت القيود تخبط القطيع دار حول نفسه و سقط، احتارت النعاج خلف أي راع تمشي، اخذ كل راع ينادي القطيع كي يتبع حماره، ولكثرة الحمير تفرقت النعاج ولم تدرك أن بعض الرعيان فاسدون وبعضهم عميان وبعضهم الآخر حمير ابناء حمير، لو كان بينهم راع صالح ما ارتضى بتشتيت القطيع، لم تتعلم النعاج من الأسماك أن تسبح في سرب واحد حتى تحمي نفسها من هجمات الحيتان، لان القطيع ظل حبيس الجبال ولم يحاول خوض غمار البحر كي يتقن اساليب النجاة.
هزَّ الأسى صورة الكوردي الميتافيزيكي السوپرمان المعلقة في ذهن سپاسکو، فما عاد متيقنا من قدرة الكباش على مناطحة المراحل، وحدها القرون والجسارة لا تكفي لتحقيق النصر، الراعي الصالح حريص على كباشه لا يزجها في منازلة لا طائل منها ولا يفرط بقرونها الذهبية في مناطحة بطلب من الآخرين ما لم يقبض الثمن سلفا، استغرب سپاسکو كيف أن الرعيان لم ينتبهوا إلى أن الكباش تناطح الصخر منذ دهور دون ان تصرع أية مرحلة، نطحنا ونطحنا حتى باتت رؤوسنا صخورا ولكن لم نفتح ثغرة، يبدو أن القرون وحدها لا تكفي ربما يلزمنا بحر يحكي لنا انه حتى الحيتان تسير إلى التهلكة إن تولاها كبير في مخه لوثة يسوقها من حيث لا يدري بدل الاعماق إلى الشاطئ فينتحر القطيع، ردد سپاسکو: همممم الرعيان خاصتنا حيتان عندهم لوثة، تلزمنا افكار البحر.. ثقافة الأسماك.. حكمة السلاحف، فالموج لا قرون له ولكن علمه يرعب أكبر البواخر، كاذب من قال ان المال قرون الرجال، قرون الرجال في عقولهم، قرون النساء في قلوبهن، قرون المجانين على السنتهم وقرون القطيع في مداركه، ألقى سپاسکو بنفسه على الأرض يتمرغ بالتراب باكيا، خاطبه الحمار: ما بك أيها المجنون اراك مثلي تتمرغ في التراب.
سپاسکو: فكرت في تجار الكلام لماذا يمارسون السياسة.
الحمار: إن عثرت على إجابة مقنعة أتعهد لك بأنني سوف اقطع ذيلي.
سپاسکو: لا أعرف هل يجدونها هواية مسلية أم وجاهة.
الحمار: حاليا اضف احتمال آخر.
سپاسكو: ما هو.
الحمار: العلف.
سپاسکو: أم هي مهنة يرتزقون منها.
الحمار: حاليا اضف السياحة والسفر.
سپاسکو: لماذا لا يجد أحدنا انهم يتخذون السياسة طريقا لفك حبال المشانق عن اعناقنا.
الحمار: خيو انا شخصيا اراهم يشدون الحبل على عنقي أكثر. 
سپاسکو: لماذا لا يحس بقية القطيع بإحساسك بصراحة أنا أيضا مخنوق من أفعالهم السوداء.
الحمار: تعال نتمرغ معا.
تمرغ الصديقان في التراب من كرب سياسيي سوق السبت ومن الحسرة على قطيع يظن أنه خُلقَ ليكون فداء لرعيان مزيفين، فيما عيون ذئبة رمادية في رأس حفيد ارطغرل تقدح شررا، كيف لا و كوباني خازوق من فلفل حار يقض مضجعه، ضربة هزت اركان قصر السلطنة الجديد واستقرت دودة القلق حرقصا في دبر السلطان، ومن حينها خاصمه النوم وراح يربط الليل بالنهار ليجد صرفة لأبناء الجن الذين بالأمس اتعبوا أجداده و اليوم يسببون له الصداع، أدرك حفيد ارطغرل أن جيوشه الجرارة وحدها لا تكفي للانقضاض على أبناء الجن، راح يفعل مثل ما يفعل كل ذو صاحب سلطان يفتح خزائن السلطنة لشراء الأتباع، نزعت استنبول سروالها وكشفت عن كسها لإغواء الأقوياء، شبع سپاسکو والحمار من التمرغ في التراب فقال لصاحبه: اقول لك سرا.
الحمار: ما هو.
سپاسکو: أنا معجب باردوغان .
الحمار: مااااذا هل أنت غبي أم خائن.
سپاسکو: يا حمار الرجل مستعد لفعل أي شيء لحماية دولته وخدمة قومه.
الحمار: ولكنه يعادينا.
سپاسکو: يا جحش المطلوب من رجل الدولة هو خدمة قومه وحماية دولته وليس خدمة الجيران فكيف تتوقع من عدو أن يخدمك او حتى يسمح لك بالتنفس.
الحمار: حاحاااحا أظن أني فهمت قصدك أنت معجب به لأنه يضع مصلحة قومه ودولته فوق كل شيء.
سپاسکو: نعم يا ليت يظهر أردوغان كوردي يخدم بلاده وقومه بدل طوابير هؤلاء السياسيين الذين يضعون البلد والشعب في خدمتهم ويضعون أنفسهم في خدمة هذا العدو او ذاك.
الحمار: يا أخي لا يوجد حل تعال نعود نتمرغ في التراب.
سپاسکو: تمرغ لوحدك لدي أعمال مؤجلة يجب الانتهاء منها.
الحمار: أية أعمال.
سپاسکو: ذاك الِقدر الذي وضعوه منذ مئة عام على الاثافي يطبخون خراف القرية بداخله ترنح، ربما عبوة البنزين التي أشعلتها حبات البطاطا تكون فرصتنا لنقفز هاربين من ذاك القِدر الذي يطبخون فيه خرافنا ولائم للآخرين، أنا في حيرة من أمري، تارة أجد هذا الاشتعال شمعة وتارة أخرى تنقبض نفسي منه فالحرائق التي يشعلها البدو غالبا لا تترك خلفها غير الرماد.
الحمار: من لا يحسب حساب الحرائق لن يملك شيء غير التردد حين يرتفع الدخان ويغطي سمائه.
سپاسکو: نعم أخي لسنا مستعدين لحريق أكبر منا، ولكنه وصل إلينا ونحن مجبرون على فعل شيء.
الحمار: حا ئو حا ئو حاااا.
سپاسکو: لماذا تضحك عفوا لماذا تنهق.
الحمار: لا ابدا.. إنما هي جحشنة مني هيا انصرف إلى اشغالك. 
انصرف سپاسکو وهو ليس على ما يرام، تحولات عجيبة تجري في كيانه أخذته حمى الندم بدأ يهلوس: انا لست انا بل فيلم فانتازيا بلا سيناريو بلا مخرج بلا مضمون، انا فيلم ممل بلا بداية ولا نهاية، دب لا يعرف أي دور يلعب، ليس ثمة جمهور بل هو منفردا يشاهد نفسه، ويلك سپاسکو سابقا كنت حمارا والآن صرت كائن مرعب تخاف من نفسك.
اوجع التعب ظهر السيگارة العاشرة، أسند سپاسکو خاطره على صوت يلدا عباسي وهي تروي ما حدث لأبناء الجن في ليلة من عصر غابر، اغنية شجية تقول: هاجم لصوص تركمان قرية كوردية في خراسان، قتلوا الاهالي واحرقوا الديار وخطفوا الفتيات، بينهم گولنار الحسناء التي كانت التقت حبيبها الراعي بهمن في الغابة، واخبرته انها حَلِمت بانها لن تلتقي به ثانية، عادت گولنار إلى القرية، وفي الليل وقع الهجوم، عند عودة الراعي العاشق إلى قريته لم يشاهد سِوى الخراب، بحث عن گولنار دون جدوى، فأخذ يناجي الحبيبة: 
انا اليوم في غاية الحزن... يا حبيبتي... يا گولنار. 
ارنوا ببصري اليكِ... يا حبيبتي يا رفيقتي.
ولا اجدك... يا گولنار... هموم قلبي سحيقة.. يا حبيبتي يا گولنار.
قد نالت القبلات من روحي... يا حبيبتي يا رفيقتي. 
لن يكون اللقاء الى يوم القيامة يا گولنار.
قتلوا الغزلان، خطفوا النساء، يا حبيبتي يا رفيقتي گولنار.
ذَرفتَ الدمع... يا حبيبتي يا رفيقتي گولنار.
باعوكِ في الأزقة و الأسواق. 
هذا هو حال القطيع لم يتغير، رعاة يتخاصمون، كباش تتناطح، خراف تتنازع إلى أن يوضَع السكين فوق رقاب الجميع حينها يواسي نفسه بالغناء دون أن يسأل لماذا نُساق إلى الذبح بهذه السهولة، لا أحد يسأل الجميع يعرفون ذنوبهم، والقطيع يذهب برجليه إلى المقصلة، رتل سپاسکو اغنية الراعي العاشق وبكى شعبا نصف تاريخه غناء حزين ونصفه الأخر رقص مجنون، تاريخ يجتر دماء ودموع، والقطيع عنيد يخون نفسه و لا يندم ولا يتوب. 
تابع سپاسکو هلوساته: يا لنا من قطيع اهبل نضع كل خطايانا في رقبة الحجل ونحن الذين نكسر ظهر كل من يحاول رفع القرية عن أثافي عذابها الأبدي، كم أنا عاجز مثل اساتذتي المجانين الذين ذهبوا إلى الموت باكرا بعد أن اعياهم البحث عن مفتاح هذا اللغز الكريه الذي يبقي القرية مائدة للخصوم، القِدرُ على النار والوليمة هذه المرة كبيرة والرعيان يتسابقون على تقديم الكباش والخراف لكل من يلوح لهم بالدولار وما اكثر التجار، شيء عجيب رغم أن رأسي صندوق فارغ إلا أنه بات اثقل من مؤخرة الحسناء كيم كارديشيان، ظننت أن الهموم توضع في القلب لا اعرف كيف وَجَدت طريقها إلى رأس مهجور مقفل الابواب.
سقطت هلوسات سپاسکو قطرات في خاطر آسيا، هي ايضا سكبت همساتها في خاطره تقول: حين تفيض الهموم عن القلب تشق طريقها إلى الرأس ومن ثم إلى الروح وحينها حتى الجنون الملون لن بنفعك.
سپاسکو: لا أحد يزرع الهموم في كيانه ولكن الرياح تحب نثر البذور الخبيثة في كل بقعة، قريتي موبوءة وأنا مثل كل مجانينها قلق عليها الأمر ليس بيدي بل هي عظامي تصرخ القرية القرية.
آسيا: وماذا عساك أن تفعل لها، هل القلق يعالج اوجاعها أنا لم أجد من هو أكثر قلقا من السيد بان كي مون ولكن قلقه زاد من عدد الذبائح ولم يخفض منها.
سپاسکو: لست بقوة مؤخرة كارديشيان كي اهز العالم بغمزة مني ولكن اضم قلقي إلى قلق أبناء جلدتي لعل النهر يؤدب الرعيان المزيفين ويغرق ما يفيض عن الحاجة.
آسيا: أنت عشق كاميكازي مرعب.
سپاسکو: هل حدث لك انك خفتي من نفسك.
آسيا: حدث ذلك بعد أن عثرت عليك في حلمي حينها لم اعد اعرف هل اتخذك عشيقا ام ابنا ام تكون ابنا وحبيبا، من يمارس الحب مع الجن عليه أن يخاف من نفسه.
سپاسکو: يا هبلة نحن لا نؤذي إلا من يصب الماء المغلي على صغارنا.
آسيا: لست أخاف من الموت فالحياة خدعة من خدعه، انما احاول الانفلات من الحياة والموت لأهرب الى الابدية، هناك لا اعلم كيف يكون الحب ربما يكون انت وانا.
سپاسکو: دخول إلى الموت...... خروج من الحياة، نفس الشيء فالخراء شقيق الروث، تلك الأبدية التي نفينا منها ليست أكثر من عبث يزيد تصدعات نفسي، كلما تتوسع شقوق روحي، كلما اسمع انهيارات كياني، اهرب من انكساراتي الى دنيا طفولتي.
آسيا: انه طبع المهزوم يهرع الى الماضي ولا ينظر الى المستقبل. 
سپاسکو: منذ أشهر وأنا اخوض معركة مصيرية مع نفسي و كلانا يخسر الحرب، في نكبتي هذه احتاج إلى دواء يسعفني.
آسيا: أي دواء.
سپاسکو: الفناء.
آسيا: إن عثرت عليه لا تنسى أن تأتي لي منه بجرعة.
سپاسکو: لا تستعجلي اظنه قادم إلينا، إذ ليس في العالم من يفتح له الباب غيرنا.
آسيا: بكم تقدر عدد أبواب الجنة.
سپاسکو: باب واحد.
آسيا: أين هو.
سپاسکو: على شفتيك.
آسيا: ماذا تنتظر هيا ادخل.
سپاسکو: كيف ادخل وانا احمل جحيم أشغال، اغلقي الباب فالجحيم وباء ينتقل بالعدوى ولا أريده أن يصل إليك.
آسيا: طوبى للرعيان المزيفين، هيا أذهب إلى أشغالك.
لم تكن ثمة اشغال محددة لدى سپاسکو ليقوم بتأديتها ولكنه أحس بأن شؤون الكون كله ملقاة على عاتقه، وعليه وحده ترتيبها، هو يعرف أن الذئاب حين تأتي لا ترحل بسهولة حتى لو تم ردعها في الهجمة الأولى بل تظل تحوم حول قطيع يحرسه كلب عجوز ينتظر ذئبا يفترس نعجة ليترك له بعض العظام، ويل لقطيع يتولاه راع مخنث يتلذذ بتسليم خرافه إلى الذئاب نتيجة خلل في مؤخرته، تعيس هو القطيع الذي ابتلي بكبش أهوج يحميه من الذئاب ولكنه ينطح النعاج ولا يعرف كباش غيره فما عاد القطيع يعلم هل الكبش معه أم ضده، الموت موت سواء كان بأنياب ذئب ام بقرون كبش، إنها الفوضى التي تنتشر في المراعي حين تقترب الذئاب من القطيع، وهي الشغل الشاغل لسپاسکو الذي يريدها أن تكون فوضى مبدعة، ولن يكون ذلك ما لم تتصالح الألوان وإلا فأن اللوحة ستبدو سريالية بتكلف، سأل سپاسکو نفسه: من هو الرسام الموهوب الذي يستطيع بريشته السحرية أن يقنع الألوان بأن لكل منها متسع في اللوحة ولا داع أن تسيل بعض منها خارج الإطار.
القت رمانة الريبة بنفسها من الغصن على رأسه وفرقت حبات سؤال في ذهنه: هل يكون الرسام خرپو.. زرپو.. شحتو.. محتو.. منجولئ أم هو سنبیل بوق، أطرق سپاسکو برأسه وقال: الوضع مسموم وكل خوفي هو أننا سوف نقدم اللون المعهود ونترك الآخرين يرسمون اللوحة خاصتنا كما يرغبون.
بقيت عيون الذئب في رأس حفيد ارطغرل تقدح شررا، أطلق ما اجتمع في جوامع غازي عنتاب من كلاب مسعورة و ثعالب جائعة، دفع بها إلى سري كانيية، وكان المتغطرسون لهم بالمرصاد، نبحت كلاب السلطان وفرت مذعورة، صاحت الجنية التي شدت مفاتيح المدينة على خصرها: ايها الكلاب اخبروا الخنازير القابعة في اسطبلات استنبول إن الطريق إلى دمشق لا يمر من هنا. 
اتصل ثرثار برفيقه: هااا طمني لا تقل أنهم هذه المرة ايضا لم يدخلوا المدينة، أنا تواق أن أجدهم يبيدون المتغطرسين ويدخلون درباسيية وعامودا و قا...، قاطعه رفيقه: جماعتنا أكلوا خرا وهربوا ثانية والسلطان غاضب، رد الثرثار: ماذااا فروا من جديد ئاخ ئاخ من هؤلاء المتغطرسين ئاخخخ سوف اموت غيظا منهم انهم يفسدون علينا كل شيء.
قرر المتغطرسون تأديب تجار السياسة بقتل أبناء عامودا التي دفعت يوما داميا مهرا لهذه الثرثرة، أما الصِبيَان الذين نفخوا في النار مقابل الدولار، فروا والتحقوا بمعلميهم في استنبول وطار بعضهم إلى أوروبا بجواز سفر دبلوماسي.
طار الثوار وتركوا خلفهم النازحون يزحفون إلى الحدود، جوازات سفرهم ليل دامس وتأشيرات دخولهم مُهرب مخادع، ليجدوا أنفسهم في عالم آخر، دوله عكس المعلومات التي يذكرها غوغل، لن يخبرهم غوغل عن الأسلاك الشائكة كيف استقبلتهم بحفاوة مزقت جلودهم، كيف أن وحول الخنادق اكرمتهم حتى الاختناق، كيف أن حرس الحدود خرجوا يرحبون بهم بالرصاص والعصي والكلاب البوليسية والشتائم، ان كان هناك حقا عالم يسمى عالم البرزخ فهو حكما طريق النزوح، نمل يخط دروب مرارة يزحف من حيرة إلى حيرة، حلم يرتجف، وجسد اعمى يقتحم جمهوريات الغابة ليعاقبه الثلج، نازح متخم بالزوابع يتلمس مصيرا، يسوقه الجليد إلى صدر البحر عل سلطعون حظه يتشبث بنهد جزيرة أو يغرق بين احضان موجة دافئة، أفواه برائحة الكبريت تسوق النمل، وعلى السياج ترقد حسابات وتنهض غابة مزدانة بالصدف، العبور قطفة حظ .. حديد معاند .. رمق أخير أو رصاصة فلسفة تأتي في الظهر، التراجع في ملعب الشوك كارثة والإقدام حماقة، الخيار الوحيد سطل شتائم وبرميل الم، دم يصرخ ندما ... طز لا تصغي اليه، تابع إيها النمل .. برا .. بحرا .. جوا، هذه مشيئة قملة ديمقراطية احتلت وجودك.
حقق السماسرة والمتغطرسين مرادهم بفتح جرح جديد في مقبرة شرمولا، وكأن جراح عامودا العصية على الشفاء لا تكفيها، لم يكن بوسع سپاسکو فعل شيء فهو القاتل وهو القتيل، اعتذر من المدينة وخرج منها ليمضي ليلته في العراء وهو ينظر إلى أنوارها المكلومة، يصغي السمع إلى فحيح افعى التفت على جذع الصباح، اقشعر بدن سپاسکو خوفا من نهار يحمل سموم الأمس إلى قطيع لدغَ من الجحر ذاته مرتين وثلاث واربعة و... مئة مرة، صاح سپاسکو: كيف أحمل العصا أن كان رأسه ملوث بالخراء وأسفله ملوث بالخراء تبا للسماسرة تبا للمتغطرسين، جاء الصباح وإذ بعامودا ليست تلك التي عرفها أبنائها، وإذ بأبنائها ليسوا الذين عرفهم سپاسکو، بقي في العراء يسمع نحيب عامودا، لم يتحمل تابع السير إلى القرية واستلقى على رسوم بيته الذي ولد فيه حيث أراد أن يسأل ذكريات الطفولة هل القاتل والقتيل في عامودا هم من احفاد هابيل وقابيل، أغمض حواسه وجاءت جنية البيت العجوز التي رفضت مبارحته حتى بعد تحوله إلى خرائب، تهدهد سپاسکو وتلقي في اسماعه صورة أمسه الجميل: قبل المغيب كانت اسراب العصافير ترجع من البراري تحط على أشجار المشمش في بستان جدك، ويبدأ مهرجان الصخب الاف الطيور تزقزق في جوقة واحدة، ترفرف من شجرة لشجرة من غصن لغصن، إلى أن يجد كل طير غصن يرتاح عليه، صخب لذيذ إلى حد الإزعاج استغرق نصف عمرك، بَقيتَ حريصا على سماعه كل مساء، زقزقة تغطي افق القرية تصل الى عنق السماء، يسمعها البعيد قبل القريب، سيمفونية تبدأ بإيقاعات صارخة ومع غروب الشمس تخفت رويدا رويدا، وكأن الأفق يضبط الإيقاع على انوار الغروب، وحين تغرب الشمس تنتهي السيمفونية ويحل السكون، سوى رفرفة جنح عصفور طائر عاد متأخرا، او عزف منفرد لطائر ولهان ينادي خليلته ان تأتي اليه لتقضي الليلة معه على غضن واحد، لحظات ثم يهجع الجميع، فلا تعود تسمع في الروضة سوى حفيف الريح، او حبات مشمش كرهت النضوج فالقت بنفسها على الأرض منتحرة، وتنهض أنت في النهار التالي تلتقط منها ما يرضي والدتك كي تنجو من عقاب تأخرك في العودة الى المنزل.
مرضت الأشجار بعد وفاة جدك وعانت من شيخوخة مبكرة، لم يوجد بين اخوالك من يجيد الاصغاء الى انين الشجر، اخبرت والدتك بان أشجار جدك تبكي، فقالت: يا لك من كاذب منذ متى تعلمت الأشجار البكاء، ولم تمضي بضعة سنين حتى عقرت الأشجار واحدة تلوا الأخرى، جاء الربيع فلم تورق ولم تزهر، قامات فارعة عارية، خجلت الغصون فتقوست على نفسها، وارتضت الأشجار أن تبقى جرداء واقفة في ارضها، غابة جرحها جهل الاخوال وكيدهم واحقادهم، هجرتها الطيور ليس ثمة يمامة او عصفور او نحلة او حتى دبور ولم تعد القرية تسمع أغاني الجنادب في شقوق الأرض، رحلت السيمفونية مع رحيل جدك وغاب العندكو، حينها دبر الأخوال مذبحة للغابة والقوا بأشجارها على حافة الطريق، هذا كان أسهل لهم من الاتفاق على توزيع البستان فيما بينهم بدلا من ان يقول كل واحد منهم الغابة لي وحدي، مذ قطعوا الأشجار انقطع حبل الانتماء بينك وبين القرية فلا عدت تتذكرها او تحن اليها او تفكر ان تعرج اليها مع انها لا تبعد عنك سوى خطوات معدودة من الوفاء.
 تابع سپاسکو حديث الجنية العجوز وهو بين الصحو والنوم، قال في نفسه اليوم بعد هزيمتي احس ان اشباه أخوالي نجحوا في قطع حبل السرة بيني وبين وطني الذي خلى من عصافيره ويماماته وجنادبه، كم أنا شجرة جرداء عارية في ربيع نكحه زمن الزعران.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 2


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات