القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: متاهة

 
الأحد 22 كانون الثاني 2023


أحمد إسماعيل اسماعيل

لقد ولدت عجوزاً.
وكان ذلك منذ زمن بعيد، ولكن ها أنا ذا اليوم أعود طفلاً، كما حدث أن عدت قبلها شاباً ومراهقاً.
إنه لشي مفرح حقاً، أكاد أطير من شدة السرور، لقد عدت طفلاً بعد أن أمضيت سنوات طويلة من عمري، بل عقوداً من السنين، وأنا عجوز. 
كنت خلال تلك السنين أعيش وسط الناس، الصغار منهم والكبار، أشبه بفرخ البط القبيح، الفرخ الذي استمر قبحه زمناً. ولم ينقلب إلى جمال وحسن حتى بعد أن عادت إليه طفولته كما يحدث لي الآن!
يا إلهي، ما الذي يجب أن أفعله؟


هل أذهب إلى الأطفال حيث يلعبون في الشارع وأطلب منهم مشاركتهم اللعب، فقلبي يكاد يقفز من مكانه وأنا أراهم من خلال النافذة المطلة على الشارع يلعبون ويلاحقون بعضهم بعضاً، إنهم مثل سرب طيور ملونة لا تكفُّ عن الزقزقة. 
ولكن كيف أفعل ذلك وهم ينادونني بالعم، وبعضهم يناديني: يا جدي!
سأصبح أضحوكة الحي، سيلاحقونني في الشوارع وهم يسخرون مني مثلما يفعلون مع مجنون الحي "عصفورو". لو أقدمت على فعل ذلك.
في زمن مضى، زمن بعيد جداً، كنت أتجنب أطفال الحي ولا أشاركهم في اللعب، وأبتعد عنهم، فأنا كبير وهم صغار، يقضون جلّ أوقاتهم في اللهو، ولا يتحدثون سوى عن شقاوتهم في الشارع، وعما يعانون في البيت من قسوة آبائهم، وصرامة معلميهم في المدرسة.
 لا أذكر كيف وجدت نفسي في ذلك الزمن أجالس الكبار بدلاً من مخالطة ممن هم في سني، فعلت ذلك بُعيد وفاة والدي وأنا في سن مبكرة، كنت حينها في الصف الخامس الابتدائي، أذكر أن صديق أبي الذي كنا نناديه بالعم، اصطحبني معه إلى المقهى، وهتاك قدم لي البيرة، وقال لي آمراً: "هيا اشرب، هذا كأس والدك، وأنت اليوم كبير العائلة، ويجب أن تمثل والدك في كلّ شيء".
كان المقهى العمالي الذي دخلناه، والكائن في شارع الحمام، أو شارع البلدية كم سيطلق عليه الجيل الجديد بعد هدم الحمام القديم، يعج بالرواد: رجال من مختلف الأعمار، موزعون على طاولات متناثرة، يلعبون بالنرد والشدة وهم ينفثون الدخان من أفواههم ويطلقونه من أنوفهم، كما لو أن أنوفهم دراجة نارية قديمة، يتصايحون ويتبادلون الشتائم المقذعة مثل الأطفال في حينا. 
لم يكن هذا المنظر غريباً بالنسبة لي، إذ كنت قد اعتدت على مشاهدته من الخارج، من وراء نوافذ المقهى الكبيرة والعريضة، وذلك كلّما مررت بجانبه وأنا أتجه نحو حارة اليهود، وحين أعود من سوق "عزرا" وقد فرغت من بيع الكعك لأطفال البدو القادمين من منطقة "جنوب الرد" صحبة آبائهم.
أما الآن، فأنا داخل هذا المكان، وواحد من عناصر هذا المشهد، جالس أحتسي البيرة، لأصبح، وبعد سنة، أجيراً "كرسون" يعمل فيه، يحمل قناني البيرة لرواد المقهى، ويمسح الطاولات قبل جلوسهم إليها، وبعد أن يفرغوا من تناول الطعام، لأعود ببقايا اللحوم المشوية إلى المطبخ وأنا أستنشق الرائحة وأتلمظ، وأغافل الأعين لألتقط ما تبقى منها قبل الدخول إلى المطبخ، أبتلعها بسرعة دون مضغ كثير، خشية ضبط أحد من الزبائن لي، أو معلمي صاحب المطعم وأنا أفعل ذلك. وكم من مرة غصصت بما ازدردت حتى كدت أختنق! 
كان عمي في هذه اللحظات يأمرني أن أجرع البيرة مثلما كان يفعل أبي، دفعة واحدة، فأنا الآن أجلس على كرسيه. كنت وأنا أستمع إليه بصمت، أرتشف بحذر ما في الكأس المترعة بالسائل البني المائل إلى الصفرة، وأسترق النظر في الوقت عينه، إلى الخارج، خشية وقوع نظر أحد ممن يعرفني عليّ؛ وأنا داخل المقهى، جالس إلى طاولة كبيرة، صحبة رجل ليس من عائلتي، أحتسي معه البيرة. كان إفراغ كأس واحدة من هذا السائل في جوفي كفيلاً بإزالة خوفي من ضبط أحدهم لي وأنا أجرع البيرة في هذا المكان، وخاصة أبي الذي تراءى لي وهو يقتحم المقهى بجسده الطويل والضخم، دون أن أخشى صفعاته القوية التي كان ينهال بها علي في البيت لأقل هفوة تصدر عني.
أبي الذي مات تاركاً خلفه عائلة كبيرة بلا معين ولا سند. جعلني أنا ابن الثانية عشرة من عمري، أعمل في السوق وسط رجال كبار، البسطاء منهم والجلفين، والذين كنت أنصت دائماً لأحاديثهم الغريبة عن العمل ومشاكله، والمصاريف الكثيرة، وأعباء البيت وشقاوة أطفالهم، وعن النساء ودلالهن، وضرورة ضبطهن بحزم، فالمرأة مثل غزال البراري، إنها كائن عجز الرجال كلّهم، حتى أقواهم، ومنذ زمن أبينا آدم، عن تدجينه، حتى ظننت وأنا أصغي لأحاديثهم عن المرأة، أن التاريخ هو صراع الرجل والمرأة، لا صراع الطبقات كما سأقرأ يوماً في كتيبات صغيرة، كانوا يغمزون لي بمكر وهم يرددون النصيحة ذاتها: انتبه من المرأة، لا تنس قطع رأس القط من أول ليلة، وإلا ستتحول في صباح اليوم التالي إلى قط، ثم يطلقون الضحكات المجلجلة، ويتبادلون مواضيع أخرى، حزينة ومفرحة مثل الأطفال: أطفال لهم لحى وشوارب.
صحيح أنني كنت أتجنب مخالطة الصغار، ولكنني كثيراً ما كنت أجد نفسي مندفعاً إلى اللعب معهم، وخاصة عندما كانوا يلعبون بالكرة في الشارع، أقف حينها على الرصيف، غير بعيد عنهم، وذلك أثناء عودتي إلى البيت عصراً، أو مغادرتي له صباحاً، وأنا أتخيل نفسي بينهم، في وسط هذا الملعب الأسفلتي الضيق والطويل، أدفع الكرة أمامي وأنا أتجه بها نحو مرمى الخصم، والأطفال خلفي يركضون ولا يلحقون بي، وما إن أصل إلى المرمى وأسدد الكرة نحوه، وأحرز هدفاً، حتى تعلو الهتافات وهي تردد اسمي.
ويحدث كثيراً أن أشاهدهم وهم يلعبون بالكرات الزجاجية "الدحاحل" في الشارع، وعلى رصيف بيتنا، وأنظر إليهم من مكاني، خلف نافذة بيتي المطلة على الشارع، فيصلني صوت ارتطام الكرات مثل جرس الكنيسة في حي البشيرية المقابل لحينا الشعبي. وكم من مرة تمنيت فيها الخروج إليهم ومشاركتهم اللعب، فقد كنت دائماً على ثقة من فوزي الساحق على الجميع، وكسب كلّ ما لديهم من كرات زجاجية.
ولكن كيف أفعل ذلك وأنا أجد ابني الصغير وهو يلعب معهم؟ يقذف الكرة من بين إصبعيه الصغيرتين، وقد جلس القرفصاء، في وسط الشارع، لينهض بعدها ويقفز مثل قرد صغير ويصيح: أصبتها، أصبتها.
يا إلهي ما أشد قسوة هذا الزمن الذي يسحقنا في هذا المكان؛ وهو ساكن لا يتحرك مثل هواء الصيف! 
بالكاد ألجم نفسي عن الخروج إليهم كي لا أثير سخرياتهم الممزوجة بالدهشة وأنا أتصرف مثلهم، فأنا الآن أب، ويجب أن أكون أباً صارماً وقوياً مثل بقية الآباء في الحي والمعلمين في المدرسة.
يغمرني الفرح حين أشارك أولادي اللعب في صحن الدار بكرة القدم، أو بالكرات الزجاجية، وحين أبادلهم النكات، وكان لزاماً عليّ أن أنسب ذلك إلى حبّي الشديد للأطفال، كي أخرج من إطار لوحة الآباء الصارمة في الحي.
بقدر ما كانت شيخوختي في بداية عمري مبعث إعجاب الجميع، ومضرب المثل، وأنا أتحدث مثل الكبار، وأتصرف مثلهم، وأعمل في الصيف وأثناء العطل المدرسية، وأدرس في بقية الأوقات، لأقدم ما أجنيه من نقود إلى أمي، فإن طفولتي، وأنا في هذا العمر المتقدم، لو حدث وأطلقتها كما فعلت مع شيخوختي، فستنقلب إلى سخرية شديدة، وقد أتهم بالخرف، كما يحدث للعجائز حين تعود لهم طفولتهم.
ما أشد أنانية الكبار وغباءهم، لا يحبّون العالم إلا عندما يكون على مثالهم، لا شيء يستحق التقدير لديهم سوى ما هو كبير، لا فرق بين طفل وكهل، ولا بين فتاة وامرأة عجوز. 
كلّ هذا يهون أمره، أن تتهم بالخرف لأنك تتصرف مثل الأطفال، فذلك أهون من أن تكون فتى مراهقاً وأنت في خريف العمر، ترتدي من الأزياء ما يرتديه المراهقون، وتسرح شعرك مثلهم، بل وتفغر فمك مثل الأجدب وأنت تحملق في كلّ فتاة تصادفها، أو امرأة جميلة مكتنزة الجسد تشاهدها في مجلس ما. فذلك كفيل بأن يجعل منك في نظر الجميع؛ أبا الشيطان وأخاه. 
وهذا ما حدث لي، أشبه بانقلاب طبيعي في غير أوانه، ربيع يتقدم الشتاء، وخريف يسبق الصيف، فأخذت أبذل قصارى جهدي في كبت تلك الحالات الغريبة التي تعتمل في داخلي، والتي كانت أشبه بأمواج تصطخب وهي تضرب قلبي بين الفينة والأخرى، موجة تلو الموجة، تتكسر الواحدة منها ثم تتجدد في كلّ ارتداد لها عن صخرة قلبي، حتى بت أخشى على عصفور صدري من تكسر جناحيه. 
القلب ليس صخرة، وشواطئ الروح ليست رملية، وعطر الأنوثة ليس موجة تتكسر مثل مياه البحار، ولعل نفثة واحدة منها تلامس القلب، كفيلة بتفتيته، وجعله أثراً بعد عين، وما أكثر ما تفتت قلبي وأنا أشاهد امرأة تصطخب في داخلها أمواج الأنوثة الوحشية، من صنف الحوريات اللواتي أسرن أوديسيوس، ومن طينة هيلين التي صرعت قلب باريس، فصرع أهلها جراء ذلك أهله، وأبادوا شعبه. لم يكن للنساء اللواتي وقعن ضحية سحرهن ما لكاليسبو وهيلين من جمال، ولا لفاطمة المغربية، أحد أهم معلقات جدران بيوتنا الطينية، ورغم ذلك كنت فريسة سهلة لأية أنثى أصادفها.
الفتاة التي صادفتها ذات مرة في محل بيع ألبسة مثلاً، في سوق المدينة، كانت واحدة منهن، والتي جعلت نظراتي تلتصق بقامتها الممشوقة، وتزحف على تفاصيل جسدها، تفصيلة تفصيلة، حتى وجدتها ترشقني بنظرات حادة، وتغادر المحل بوجه محتقن وهي تتمتم بحنق. 
في القرية التي عينت فيها معلماً حديث التخرج، كان باب بيت امرأة قصيرة القامة، لها وجه قروي جميل، ينتثر على صفحته البيضاء الملوحة بالشمس نمش لم ينتقص من ملاحته، مقابل باب مدرستي، بابان ونافذتان متقابلان، بل مسرح كانت هي الممثل فيه، وأنا الجمهور، مسرح صامت ليس فيه سوى الحركات، تطلب الممثلة فيه من الجمهور المشاركة في العرض والتفاعل مع عروضها شبه اليومية، مسرح إيمائي الجسد فيه لغته الوحيدة، ولكلّ حركة منه أكثر من دلالة، جمالية وروحية، لتنتهي هذه التجربة الريادية بصفع باب المسرح أمام الجمهور غير المتفاعل. مرة واحدة وأخيرة. 
هذه التجربة لم تكن الأولى ولا الأخيرة التي انتصرت فيها على نفسي وأنا أنهزم من المواجهة. لا أنكر أنني كنت في كثير من هذه الحالات نهباً لمشاعر قاسية، تمزقني بعنف، مثل فريسة بين أنياب حيوان متوحش، لم أخرج من أيّ منها كما كنت قبلها، إذ تركت كلّها في روحي ندوباً لما تندمل. 
ولعل رؤيتي مصادفة لها، مثل فوز بجائزة مادية، كان كفيلاً بأن أحافظ على ما في داخلي من تماسك، والذي شرع يزداد رسوخاً.
كان ذلك في عرس كنت مدعواً إليه، وكنت قد شرعت أسرح بنظرات كسلى بين وجوه المدعوين، وخاصة وجوه النساء، اللواتي حولن المكان إلى مهرجان تنكر، ومسابقة غير معلنة لملكات الجمال، وجرياً على عادتي في كل حفل، وخاصة عندما أكون وحيداً، بلا رفيق، فقد سارعت إلى مسح المكياج عن وجوه كثيرات، بممحاة نظراتي، فكشف زوال الأصباغ عن الوجوه الجميلة وجوهاً أخرى مختلفة، إلا وجها واحدا، جميلا ووضاء، فحامت روحي حولها، وحطت نظرات عليها مثل نحلة.
لم يبق في المشهد الناهض بكلّ بهرجته وصخبه حيّ سواها: لا الأطفال في ساحة الرقص وهم يلاحقون بعضهم بعضاً، ولا العروس والعريس وحولهما نسوة من ذويهما وهن يصفقن ويتمايلن على أنغام الموسيقا، ولا المغني الذي يتصبب عرقاً وهو يغني، ولا حتى حلقة الدبكة والراقصون فيها وهم يتمايلون، يرتفعون عن الأرض على رؤوس أصابعهم ويهبطون في حركات متناسقة وحماسية، تحول الجميع في هذا المشهد إلى صور متحركة لا حياة فيها، خلا ساعة كبيرة في صدر النادي، والتي ستستولي على نظراتي، لأتابع بين الفينة والأخرى، مرورها وهي تتوجه بعقاربها نحو الثانية عشرة ليلاً، حيث الموعد المقرر لانتهاء الحفل.
كانت ساعة النادي تشير إلى الثامنة مساءً، أربع ساعات ستمضي وكأنها أربع دقائق، كما يحدث لي دائماً حين أكون على موعد مع الفرح، وستهرول العقارب نحو توقيت منتصف الليل مثل شيطان فاوست.
لعل للزمن روحا، روحا شريرة تمدد الزمن في مواقف الحزن، وتقلصه في مواقف أخرى مفرحة؟!
وجاء دور رقص الشيخاني، الرقصة ذات الحركات البطيئة والقليلة، فوجدتها تنهض وتدخل حلقة الدبكة، وعلى الفور نهضت وفصلت بين يدي راقصين اثنين كانتا متشابكتين، دون إذن منهما، أو حتى كلمة شكر عندما سمحا لي بالمشاركة معهما، حسب العادة، ورحت أرقص وأنا أتأمل وجهها وحركاتها.
غنّ أيها المغني، وارقصوا أيتها الشابات والشباب، والعبوا يا أطفال وسط الحلقة وبين كراسي المدعوين، وتهامسا وتضاحكا أيها العروسان، أما أنا، فلن ألتفت إلى أحد سواها، وليتها تفعل هي ذلك أيضاً، ولكن الوقت سيمضي، وستسير الساعة إلى منتصف الليل كما لو أنها لاعب في ماراثون، وسينتهي العرس ويودع المدعوون العروسين ويتمنون لهما حياة ملؤها الفرح، وسأعود أنا مشغولاً بها، لأتمنى رؤيتها في حفل عرس آخر. 
لعل دعوة المحبّ، مثل دعوة المؤمن ورجائه، مستجابة، لا أعرف الزمن الذي يفصل بين النورين، نور مشاهدتي لها في ذلك الحفل، ونورها اليوم، حين فوجئت بها، وهي تهبط عليّ في مكان غير متوقع تماماً، في مدرستي، قد كانت طول غيابها عن ناظري، النور الوحيد في ظلمة الأيام، والرفيق الأنيس في وحشتها.
شاهدتها وهي تدخل إلى غرفة المدير، حيث كنت جالساً غير بعيد عنه، مثل دفقة هواء من نافذة لحظة قيظ الظهيرة، وتقدم له طلب نقلها إلى مدرستنا.
إنها معلمة إذن!
لقد بدأ ميلاد قلبي، في هذا اليوم بالذات، وفي هذه الساعة.
ظهورها في سماء حياتي جعلني أعيش عمري الحقيقي، المرحلة التي أنا فيها فعلياً، لا قبلُ ولا بعد، لا عجوزاً ولا طفلاً ولا حتى مراهقاً، بل محبّاً وعاشقاً، وسينبض قلبي مثل أي شاب عاشق، وسيكون توغلي في حديقة عينيها سفراً عبر الزمن.
ما الذي جعلني أسيرها منذ النظرة الأولى وأنا على يقين أن الحبّ الذي يبدأ من النظرة الأولى، ينتهي في إغماضة عين. وهو ليس مجرد إحساس يخترق القلب فجأة مثل سهم كيوبيد الأعمى، فتلك أسطورة، والأساطير تفسير بدائي لظواهر عجز الإنسان البدائي عن إيجاد تفسير موضوعي لها.
لعل الحدس هو من حسم الأمر، فقد وجدت في وجهها الوضيء سيماء البنت المتزنة، غير العادية، والوجه مرآة النفس، وإذا كان ثمة فروقات بين المرايا: مستوية كانت أم منحنية، مقعرة أم محدبة، فإن ذلك يحتاج ممن يحدق فيها إلى عين خبيرة، وأزعم أنني من النوع الذي يمتلك نظرة قادرة على رؤية ما يظهر على هذه المرايا من سيماء مهما كان نوعها.
لقد أسرني ما ظهر في هذه المرآة، من أشكال وأحجام مختلفة، ليست كما هي عليه في الواقع، كاشفة بذلك عن تكوين فيه من بساطة المسطحة، وجماليات المنحنية وعمقها الكثير.
أصبحت بعد هذا اليوم معلماً نظامياً، كأفضل ما يكون الموظف في عمله، ولم أكن كذلك تماماً في السابق، رغم التزامي بالدوام، فقد أصبحت أصل إلى المدرسة قبل موعد بدء الدوام، وأغادرها بعد انصراف الجميع، وبين هذين التوقيتين، كان الزمن في الحصة الواحدة يتمدد مثل جسد أفعى، ليتقلص ويمر بسرعة في الفرصة، أو في الاستراحة بين الحصص، حتى أصبح الزمن كائناً حياً. 
وكان عليَّ أن أتودد إليه، وأخاطبه في كل يوم، وفي كلّ ساعة، أرجوه أن يسرع مرة، وأتمنى عليه أن يبطئ ويقف مرات، وكعادته معي، قلما كان يلبي رغبتي، لأشتمه كثيراً، وأشكره قليلاً.
لقد أثبتت الوقائع التي جرت صدق حدسي عن الصورة التي رسمتها لها، ففي اليوم الأول، وأثناء الفرصة، وفيما كنت جالساً في غرفة المعلمين، وقد علت أصواتهم بالشكوى من بعض التلاميذ، كعادتهم في كلّ فرصة، من سوء التربية المنزلية، ثم من الراتب المتخلف عن ماراثون الأسعار، وطلبات البيت وحاجياته وأثمان الدواء.
كانت هي أثناء ذلك جالسة على الأريكة المقابلة لي، بجانب معلمات أخريات، وكنت حينها أنظر إلى جريدة أدبية أقرؤها، ثم أسترق النظر، بين الفينة والأخرى إليها، بعد مسح ما حولي بنظرة عامة وسريعة بقصد التمويه.
نهضت بعد نظرة سريعة لي، واتجهت نحوي وهي تنظر إليّ مباشرة، فانكمشت في مكاني وبدأت ضربات قلبي تتسارع، وأنا أتوقع أنها قد ضبطتني متلبساً بالنظر إليها، وكدت أنهض وأغادر المكان، ونظرت إلى ساعتي متصنعاً حركة من تأخر عن موعده، ثم دفنت وجهي في الجريدة أبحث عن عنوان أركز نظري عليه، لا أعرف كم دقيقة مرت في تلك الأثناء، أنظر إلى مقالات الجريدة ولا أرى كلماتها، لم تكن الدقيقة ستين ثانية قط، بل أطول بكثير، كثير جد، سمعت، وأنا أصارع وحش الوقت وكائناته، صوتاً رقيقاً يخاطبني، طالباً مني استعارة الجريدة لدقائق، رفعت رأسي إليها وأنا مشوش الفكر تماماً، فكررت الطلب، وجلست بجانبي وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة ود صغيرة، فأحسست بالأريكة تتحول إلى قارب وسط البحر، وأن موجة قوية قد ضربتها. 
قدمت لها الجريدة، ولا أعرف كيف فعلت ذلك، هل طويتها، أم أعدت ترتيب صفحاتها، أم قدمتها لها دون ترتيب، بعد أن شكرتني وشرعت في تصفح الجريدة. بدأت أستعيد توازني وأنا أوزع نظراتي بين المعلمات اللواتي يتصيدن عادة مثل هذه الحركات، مثل رجال الأمن في بلدي، لينسجن حكايا الحبّ والمغامرات بإبرة خيالهن الخصب.
رنّ الجرس اللعين، فطوت الجريدة بأصابع رقيقة، وقدمتها لي وهي تقول إنها تحبّ قراءة الأدب، الرواية والشعر خاصة. ثم نهضت والتحقت بسرب المعلمات اللواتي توجهن إلى صفوفهن.
مرّت الأيام سريعاً، كعادتها حين تكون محملة بتوابل السعادة، سنة، سنتان.. كنا خلالها، أنا وهي، ننسج فيهما علاقة صداقة، سجادة صلاة المحبّين، ولعل بعض الصداقات حبّ، فأنا خجول ومتأرجح بين حياتين، ومرحلتين عمريتين، شيخوخة وشباب، وهي فتاة؛ فتاة في مناخ ذكوري، لها فم يأكل ولا ينطق، حسب المثل الدارج في توصيف الفتاة المثالية، فكان أن نابت لغة أخرى عن الكلام: إنه الفعل.
من امتنع عن التفوه بحبّه، باح به فعله، والعكس ليس دائماً صحيحاً، وما أصدق ذلك، وما أجمله، وما أشد ما يخلفه من عذاب!
كانت الأحلام وحدها هي التي تحقق ما في داخلنا من أمنيات ومشاعر، هي تبوح لي بحلم شاهدتني فيه، وأنا أفعل ذلك حين أشاهدها في حلم، تشاهدني وأنا أزور بيتها وأجالس أهلها وهي مستغربة رغم دهشتها وسعادتها بذلك، وأنا أشاهدها في حلم ونحن جالسان تحت شجرة في برية، على ضفة نهر جقجق، قرب شلال صغير في مكان غير بعيد عن حدود مدينة نصيبين. حيث لا أحد سوانا. 
تسارعت الأيام وتتالت الأشهر ولا شيء يحدث، سوى كلمات وأحاديث وهموم، في الشتاء وأثناء الدوام المدرسي، كان زادنا هو الحديث، أي حديث.
دائماً ينتصر العجائز في حياتنا على الشباب، رغم ما للشباب من عنفوان وقوة، ولقد انتصر العجوز الذي في داخلي، على الشاب الذي أبدو عليه للناظر، والذي كان يحاول الصمود في هذه المعركة، ويسعى إلى كسبها، بلهفة ورجاء، علَّ ذلك يصحح ما أفسده العجوز في حياتي التعسة، والذي ظهر كوصي على عمري كلّه منذ يفاعتي، كان قوياً بما يكفي لهزيمة الشاب والطفل في داخلي. 
أما الشاب الذي كنته، هذا الكائن الذي اقتصرت حياته على اللحظات التي يقضيها بصحبتها، في الواقع، وفي أحلام اليقظة؛ والذي كنت فيها أضمها إلى صدري وأقبلها، أقبل شفتيها المكتنزتين وعنقها ونهديها. 
كاد أن ينتصر رغم قوة هذا العجوز، كان سيهزم العجوز بكلمة منها، كلمة واحدة، فقط لو تمرد فمها وكسر إطاره ولم يكتف بالأكل، وهمس بالكلمة التي كان يجب أن يقولها هو، لا هي: أحبّك.
هذه الكلمة التي كانت تتردد في داخلي، فشلت في الخروج من فمي، وظلت حبيسة في روحي، مثل غصة. 
ولعل الغصة بهذه الكلمة، أصعب من الغصة بالماء.   
"لقد أحبّت غيرك، وأسلمت جسدها للحبيب الجديد".. 
ثقبت هذه الكلمات الحارقة أذني وهي تنبعث مثل رائحة كريهة من فم صديقة مقربة لها، وقبل أن تحفر الدهشة في وجهي أخاديد وأنفاقا، أكملت:
"وقالت: لقد كان حبّي له مجرد غفلة".
مجرد غفلة؟!!
لم أستطع حينها، وأنا فريسة لمشاعر وحشية أخذت تلتهم روحي وقلبي؛ إلا أن أجهز بدوري، مع سهم هذه الكلمة، المسموم، على ما تبقى في داخلي من شباب، وأعود، كما ولدت، عجوزا.

مجلة الجديد اللندنية 
1 يناير 2023

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.33
تصويتات: 6


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات