القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: كسر الايهام الحياتي

 
الأثنين 20 شباط 2012


أحمد اسماعيل اسماعيل

هل حدث مرة أن راقب أحدنا نفسه وهو يتناول طعامه مثلاً ؟
ماذا سيحدث لنا أو معنا لو جربنا مراقبة طريقة جلوسنا وضحكنا وتنظيف أنوفنا وتصرفات وسلوكيات أخرى كثيرة ؟
وماذا سيحدث لنا أو معنا لو جربنا مراقبة حديثنا مع الآخرين، في حوار ودي أو وظيفي أو سياسي، بعين ذلك الكائن أو الشخص الذي انفصل عنا مؤقتاً ؟ بفعل قصدي لا مَرَضي.
لا بدَّ أن تكون نتيجة هذا الفعل مثيرة للدهشة لدى البعض، ومخجلة لدى البعض الآخر، ومبعثاً لمشاعر غير سارة لدى آخرين.


هذا الفعل ليس ضرباً من الوهم، أو شيزوفرانياً، بل نهجاً مهمته نزع صفة الأصالة والثبات عن عادات وطباع وأفعال وسلوكيات وممارسات وسلطات وثقافة سلمنا بأمر عجزنا على التخلص منها، أو تغييرها وتبديلها، فانصهرنا فيها وانصهرت فينا، وأرحنا رؤوسنا من عناء التفكير. ولقد نال هذا الفعل صدى واسعاً حين استخدمه المسرحي الألماني بريخت في مسرحه تحت اسم التغريب،
- ولكن ما علاقة ما نحن فيه من مأساة وما عليه من عادات تنظيف الأنف وتناول الطعام  بشراهة أو كراهة بتغريب بريخت وتطبيقه في المسرح؟ قد يسأل متذمر أو متأفف.
أراد هذا الرجل حماية جمهور شعبه من هذيان حمى الحقد القومي التي أثارها هتلر، ومن الاندماج في ممارسات النازية والامبريالية المتوحشة: مالياً وسياسياً وعسكرياً، فلجأ، وهو الكاتب والفنان، إلى استخدام هذا المنهج مسرحياً، وذلك من خلال تحطيم الجدار الرابع في العرض المسرحي، وفك أسر المتفرج من شبكة ايهام العرض بوسائل وطرائق شتى، وكل ذلك في سبيل ممارسة بروفة فنية على هذا الفعل وتطبيقاته في مجالات سياسية وغير سياسية.. والتجربة خير برهان.       
ونحن، وفي استخدامنا للتغريب وكسر الايهام في حياتنا إلى ما هو أبعد من مجرد آداب السلوك وأسلوب الحديث، بدءاً بالتفاصيل الحياتية الصغيرة التي نعيشها ونعايشها في البيت والشارع والمؤسسة، والتي أضحت مسلمات وأقدار، وما هي بذلك، سنكتشف حقيقة تنازلنا عن حرياتنا في البيت والمدرسة والشارع ومحل العمل.. وفي علاقاتنا العاطفية والشخصية والتي لم تكن تنازلاً شرعياً مدوناً ومثبتاً بعقد ممهور بأختام قناعاتنا وبشهادة شهود حق، بل نتيجة فعل إيهام هو من طبيعة حياتنا المؤطرة في عرض مأساوي مستمر.  
ولو توغلنا أكثر في هذا المجال واستخدمنا التغريب وكسر الايهام في مجالات أخرى، أكثر اتساعاً وأعمق غوراً مما هو متعلق بالجانب الاجتماعي والشخصي، إلى مناطق وزوايا وممرات ومنعطفات حياتية وشخصية وتاريخية؛ سنكتشف أيضاً تلك اللعنة التي جعلت منا ممثلين بلا أدوار في مسرح الحياة، ومسوخاً ودمى في واجهات الوطن، ومسافرين في عربة الدرجة الثالثة على متن قطار يقوده مجنون لا يقف إلا في محطات مهجورة ؟
لا شك في أن سلوكياتنا الخاطئة في المأكل والسلوك والحديث، وحتى تلك الأفعال والممارسات التي نُقدم عليها برضا كالتضحية المجانية بالوقت والمال والنفس على مذبح عرف مهترئ أو شعور جمعي غير سوي أو فلسفة حزب شعبوي، ليست سوى نتائج طبيعية لثقافة جعلت من عملية ذوبان الفرد بالمجموع غاية ومقصداً، ومن الوطن دار قداسة المواطن فيه حاج إليه وخادم، ومستأجراً لا مالكاً، ومن الأيديولوجيا ديناً صالحاً لكل زمان ومكان، ومن الحاشية صحابة وحوارين، ومن القائد نبياً وقديساً وإلهاً، ومن الله رفيقاً حزبياً. ايهام ما كان له أن ينكسر لولا السقوط المدوي لجدار برلين، وتهاوي دول الدومينو، وسقوط المبادئ الكبرى المجردة التي كانت تسدُّ مسدَّ مفاعيل الثورة لدى الشعب المغبون. 
وإذا كان الزمن البارد والرخو الذي عشناه من قبل قد ساهم في دوام الايهام وتفعيله، فإن هذا الزمن الذي أصبح يقاس بما هو نفسي وروحي وتاريخي وسياسي ودراماتيكي، لا بما هو طبيعي من ساعات وأيام، ويقاس ها هنا بقوة وعلو هتافات التحدي وأزيز الرصاص وبكاء اليتامى ودعوات الثكالى، لا بالشعارات الطنانة والمقولات الكبرى الزلقة، قد جعل من كل إيهام عنوان حماقة ومقدمة انتحار عقلي وحضاري. 
ولعل كسر الايهام يبدأ أول ما يبدأ بنزع الهالات عن كل أيديولوجيا وقائد وحزب ونظام.. وتحديد الأدوار الحقيقية للممثلين على كل الخشبات السياسية كي يكفوا عن التهريج  ورواية الحكايات الخرافية المضحكة عن بطولاتهم.
وأخيراً، إذا كان حاصل جمع أفراد بلا كرامة لا يساوي شعباً حراً، فإن ناتج طرح الحرية من المواطن يساوي مجرد رقم ، ومن الوطن مجرد مسكن.            
حين غادرت الآلهة الأرض، تركت القداسة حيث تصان الحرية والكرامة .  
a.smail1961@gmail.com

 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3.28
تصويتات: 7


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات