غريب ملا زلال
العمل الفني إذا لم تسافر إليه بحب و عشق و كأنك ذاهب للقاء بحبيبتك لن تسافر فيك، أو على الأقل أن تكون بنزهة مبهرة إليها حينها ستجد كيف أن أساريرها تنفتح لك إلى مداها، و كيف أن أريجها تبدأ بتغطية مسامات روحك كلها، التأمل وحده لا يكفي، و الشم وحده لا يكفي، واللمس وحده لا يكفي، لا بد من الحواس العشرة أن تحضر و ترافقك في نزهتك هذه، فالسعي إلى عالم موجود في اللازمكان هي توطئة أولى لرفض ذلك النمط من الحياة المفعم بروح السيطرة، فالإحتجاج لا بد أن يعلن عن ذاته، فهو قائم حيث تقيم الوقائع و القوانين المقيدة بمسار واحد والتي لا تتطلب إبداعاً، أو بأفق واحد و الذي لا يستفيض بتجارب و أساليب سابقة، أو برب واحد و الذي لا يملك هندسة فنية لعمارته، فقط يعرض رؤيته في قالب واحد، و على الرؤى كلها أن تصب به و فيه، فالعمل الفني وطن لا يقبل إلا أن يكون للجميع، للمربع و المستطيل و المثلث و الدائرة، للأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر، و مؤهل لتحقيق آمالهم و طموحاتهم جميعاً،
تلك التي لا تندرج ضمن قائمة الأوهام، بل إدراك للجوهر إن كان للإنسان أو للطبيعة خصوصاً في طوره الإبداعي الإنتقالي لخلاصة مؤداها أنه وحده يملك حرية أن يكتب أو يرسم حياة جديدة مهما كانت تومىء بقساوتها، لم يكن هذا الكلام بوحاً ما، و لا مراوغة للتربص بجو يملؤه الحلم الكئيب، و لا تدخلاً من خارج النص في تفاصيل تتجاذبها الحقيقة و رموزها، و تحكمها ريشة فنان تذرف الدموع و الورود معاً، و إنما هو إقتراب من أعمال لا يمكن نفي حضورها، إن كان بطعم النوح، أو بطعم النشيد، هو إقتراب من أعمال الفنان التشكيلي حكمت نعيم ( السويداء 1973 )، علها تتيح لنا من إمكانية كشف عوالمها الداخلية و ما تحملها من تفاصيل تلحق الفائدة بها كمنجزات فنية بحياة جديدة، كأشكال إبداعية تدرك أهميتها لا من حركة الأفكار التي تطوف في محرابها فحسب، بل بما تولدها من خطوات فنقطفها و نخطفها لنجري بها، و بما تبقى من صداها و نمضي، فهو لا يقود عمله، بل العمل هو الذي يقوده إلى دراما روحية عميقة في ظلها يجد حريته بآمالها و طموحاتها الإنسانية، كاشفاً بوضوح و بلا هوادة الضجيج الفارغ للأفكار السوداء و مقولاتها التي غدت إنعكاسات لتطلعات ميول خلقت من المآسي و العذابات، فبدا كل شيء و كأنها إضافات لرواسب واقعية فيها تفاقمت الإحتجاجات و الإستياءات كبداية للتغيير، فنعيم يعرب عن قلقه في كل خطوة يخطوها إلى الأمام و هو في حالة من الإستيعاب الفني لكل جوانب و ظواهر الحياة، يعرب عن تلك المحاولات الجادة الدؤوبة التي قادته إلى نتائج إيجابية مذهلة، إن كانت في عمقها و أصالتها، أو في مجال تطوير أسلوبه الفني، فمنجزه غني بالموسيقا و الإيقاعات الجديدة، و يضيف عليها صوره المجازية التي فيها تتجلى عناصره الجمالية التي تستهويه لا بوصفها سطوة للترميز و الغموض، و لا بوصفها لعبة مغالاة و مبالغة فنية تلهث وراءها تركيبات بنائية معقدة إلى حد ما، بل بوصفها مجازات تعني المضي بالحالة الإبداعية إلى ما يولدها إن كانت رغبة في الإبهار، أو إرغاماً على التجاور داخل فضاءات المنجز، بوصفها مجازات يستحضرها نعيم وفق ما تمليه عليه تحولاته من الجدل الممكن و المفترض بين وعيه و لاوعيه، أو بما توهمه من تصاوير يكدسها حتى تنفرج و تنفجر كإستيهامات فردية تكاد تشكل إستراتيجيته في البناء و الخلق، و يروج لها نعيم مزدهياً بحداثتها، معتمداً على إحياء الوقائع كظواهر كبيرة تدفع به إلى أمكنة و مسافات متجاورة و جديدة، إلى أمكنة و مسافات أكثر إشتقاقاً و أكثر توثيقاً سيجاهد نعيم كثيراً في تجسيدها بعيداً عن الوقوع في براثن كل ما يمكن أن نسميه ويلات العملية الإبداعية و محنها .
إذا كان المنجز الفني كيان زاخر بالروح و الحركة، طافح بالإنفعالات و الإندفاعات التي تحمل معانيها من صور و رموز لها دلالاتها و إيقاعاتها، فهو عند حكمت نعيم حشود كيانات رابضة في العمق يستعصي تحديدها أو ضبطها، أو مسك تلابيبها، فلا بد من إنتظار الكشف المتشح بغلالة من الغموض، الكشف الذي ينشد الإبهار و الإيهام معاً، و الذي يشير إلى التشكلات على نحو إيماء ما أو أسئلة تواجه غربتها، لا بد من النفاذ إلى دواخل منجزه و رصد القوانين التي تديرها، فكل الدروب القريبة منها أو البعيدة تمضي إلى إستعاراتها، إلى مقرراتها، ساهمة في فرز إحتواءاتها مهما تكتمت عن مقاصدها، فلابد من مرادها أن تفي حاجاتها، و لابد من وجودها أن توهم قارئها بأن مجمل طروحاتها ما هي إلا محصلة أبعادها و معانيها، فهي تفتح مجراها بين أشتات من تصورات سيميائية منتزعة من فاجعتها و قدرتها على التوزيع و التبئير حتى يقع لحظة الإكتفاء مغشياً عليها .
حكمت نعيم يلون رؤاه بمواقف كامنة في نبرة النوح و تفاصيلها التي تحكمها الهول الذي يتوسع على سطوحه و كأنه دفق دلالي يبتني رحيل الشمس، و يتوسل مقاصده بتكثيف العتمة و كأنها حقول تغزو منجزه و شخوصه، و هذا يعني كم يستعصي عليه إذا فكر في توليد نهار ما، فالإفراط في إستخداماته قاتم، و الفناء يومىء بشموع مطفئة، و عليها تتعالق الملفوظات لتبني صوراً موغلة في الكآبة، و أحلاماً مكسورة إليها تشير مجسداته المتشحة بالظلمة، فثمة شعور أو إحساس تسكنه و تدفعه نحو التخلص من الأطر المألوفة، و الهروب إلى الأنا كينبوع رافد للإيقاع، قائم على التغاير الذي يبعده عن الإغراق في الرتابة، فالحال أنه يحتمي بالوحدة،علّه يخرج من عالم الموتى عائداً إلى عالم الأحياء، أو كأنه تموز تريد عشتار تسليمه لسدنة العالم السفلي، و هو الذي جاب الأرض نائحاً و هام في المروج و هو يبكي قائلاً : " أقيمي المناحة / أيتها المروج، أقيمي العزاء / أقيمي المناحة " فنعيم يضعنا في حضرة منجزه بإلحاح يمده بإيقاع خاص و برموز تكثف فاجعته التي هي فاجعتنا أيضاً، الفاجعة غير القابلة للتأويل، فهي تحمل في صميمها كل الإختزالات لاسيما طرائق تلقفها لخطابات فيها تتجلى رؤيته و تسللها إلى جسد منجزه كله .