ولنقرأْ معاً قصيدته (يا زائري في الحلم : أغِـثـنـي لأفـي بـنـذري) المشبوبة بنيران الرغبة المشتعلة وبركان العنفوان العاطفي مثل شاب غرير فتنه العشق وأضرم فيه نيران الهوى وفجّرَ الرغبة الجامحة وقتله الشوق العارم:
زارَني في غفلةٍ من مقلةِ الصحوِ :
ربيعا ً ضاحِكَ العـشبِ ندِيّا ً ..
باردَ الكوثرِ ..
يمشي خلفهُ نهرانِ : ريحانٌ وشـهْدُ !
وأنا في كهفِ حزني أتسلّى بكؤوسٍ
خمرُها جمرٌ وسُهْدُ !
زائري في غفلةٍ من مقلةِ الأحزانِ
مَنْ أسرى بكَ الليلةَ ؟
كيفَ اجْتَزتَ نهرين وأرضينِ
وبحرا ً جَزْرُهُ يُخشى، فكيفَ أجتزتَ مَدَّهْ ؟
ودجىً يُبْرِقُ من يومين رَعْدَهْ ؟
أنا لا أعرفني أينَ أقيمُ الانَ
لا عنوانَ ليْ كيف اهتديتْ ؟
فتَعَرَّفتَ إلى جفني وسفحٍ
يختفي في حضنِه الأخضر بيتْ ؟
أيها الناسِجُ من عشبِ الفراتينِ وشاحا ً
جيدُ هُ يُسْكِرُ عِقدَهْ :
مَنْ تُرى أسرى بكَ اللـيلةَ ؟
مَنْ أعطاكَ عنوانَ غريبٍ
هتَك الـعشقُ أحاجيهِ ورُشْدَهْ ؟
آه ِ لو أملكُ أنْ أجمَعَ عطرَ الحلم ِ
والجَنَّةِ والشعر بوردة ْ
لـلتي أحلمُ أنْ أجعلَ من حضني لها بيتاً
ومن صدري لنهديها سريراً
ومن الثغر ِ لخدَّيها مخَدّة ْ
آهِ لو أنَّ التي دقّتْ غروبَ العمر بابَ القلبِ
قد دقّتْ ضُـحى العشقِ
فأغفو هانئاً بالتـين والتوت على نهر المودَّة ْ
آهِ لو أنَّ الذي في دَورَقي من خمرةِ العمر ِ
مثيلٌ للذي في دورَقِ اللذّةِ عندَهْ
لتنازلتُ عن التاجِ وعرشِ الحزن ِ
كي أصبحَ في مملكةِ العشاقِ عَبدَهْ
ونديماً للياليهِ ..
سميراً لأغانيه ِ ..
وناطوراً يقومُ الليلَ كي يحرسَ نهدَهْ
وينشَّ النحلَ عن وردِ الفم العذب ِ
وأسرابَ الفراشاتِ التي
قد تُوجِعُ الجيدَ إذا حطَتْ
على زنبـقهِ الغضّ ..
وقد تجرحُ جفنيهِ وخدّهْ !
آهِ لو أنَّ الذي أوعدَني في الحُلم بالقبلة ِ
لا يُخلِفُ عندَ الصَّحوِ وعدَهْ !!
زائري في غفلةٍ مني أغِثني
يا ربيبَ الفُلِّ والآسِ :أنا طيشي عَفيفٌ ..
ومجوني ناسِكُ الإثمِ ..
أغِثني لِتُـصلِّي شفتي قَصْراً
فإني لستُ مَنْ ينكث بعد النذر عَهدَهْ :
نَذَرَتْ روحي لوجهِ العشقِ
لو زرتَ جفوني
أنْ يُؤدّي خمسَ سجداتٍ على ثغرِكَ ثغري ..
وعلى كلٍّ من الخدَّيْن سَجْدَة ْ ...
فأغِـثـني ..
أفلا تؤمِـنُ يا مولايَ أنَّ النذرَ قد يُصبحُ سيفا ً
صدرُ مَنْ ليس يفي بالنذر قد يُصبـحُ غِمدَهْ ؟
فأغِـثْني يا ربيبَ الفلِّ والآس ِ
عساني لو وفيْتُ النذرَ
أنْ أنذرَ للحلمِ إذا زرتَ جفوني
باقة ً من قُبَلٍ ناسِكةِ الآثام ِ بعدَهْ !!
ونقرأ له في قصيدة (الى ناسكة):
وجَـعـي لـذيذ ٌ مـنكِ فابْـتـَدِعي
جُـرْحــا ً يُــزيــدُ حَـلاوَة َ الــوَجَع ِ
لا تـُطـْفـِئي نـــاري إذا اتـَّـقـَـدَتْ
واستحْطبَتْ صحوي ومُضطجَعي
لـيْ فــيـك ِ أطـْمــاع ٌ.. وأوَّلـُـهـــا
أنْ تـُنـقِذي عَـيْـني مـن الـطـَّـمَـع ِ
أنْ تـوقِـظي الـقـيثارَ في شـَفـَتي
أنْ تـَغـْسـلي روحي مِـنَ الـجَــزَع
أنْ تغرسي في الروحِ لا جَسَدي
حَـقـلـيـن ِ صوفِـيَـيـن ِ مـــن مُـتـَع
مُــتـَعٌ بـِـلا إثـم ٍ ... أنـشُّ بـِـهـــا
ذئـبَ الـهـمـوم وحَـيَّـة َ الـفـَـزَع ِ
قد عـشـْتُ عمري بين فـاجـِعـة ٍ
حـينا ً .. وبـيـنَ مَـخـالب ِ الهَـلـَع ِ
أنْ تقتلي الشيطانَ في جَسَدي
بعـضُ الهــوى بابٌ إلـى الـوَرَع ِ
أنْ تـَشفعي ليْ لو جُـنِـنـْتُ غَـدا ً
وزَعـمْتُ أنَّ العِـشـْقَ من بـِدَعي
أدريـك ِ ذا طـُهْـــر ٍ يَـحـفُّ بـــه ِ
نـُسْـكٌ، وأنَّ تـُـقـاك ِ غيرُ دعي
بـُـورِكـْـت ِ قِــنـديـلا ُ ونـــافِــذةً
ضــوئـيَّة ً. .. أأُلامُ فــي وَلـَـعـي ؟
غرسَتْ خطاكِ على رصيفِ غدي
حقـلـين ِ مـن ورد ٍ ومـن سَــجَعِ
إنّ الشاعر الكبير يحيى السماوي جسر موصل ورابط بين القصيدة العمودية الكلاسيكية بصرامة شروطها الفنية وبين قصيدة التفعيلة الحداثية بسعة وحرية فضائها، وبشكليهما ومضمونيهما وصورهما وأدائهما الفني التعبيري. فهو المواصل المثابر على منهج وعالم وفن وفضاء عمود الشعر والقصيدة الكلاسيكية، وفي الوقت نفسه مجددٌ فيما يستخدم من مضمون وشكل يتسمان بالرقة والسلاسة والانسيابية والبراعة في اختيار اللفظة والحرص على سهولة الأداء الأسلوبي في ايصال المضمون والصورة بشكلها المختار، والعمل على احداث التأثير المطلوب في المتلقين بكل طبقاتهم وأطيافهم وثقافاتهم ومستوياتهم. كما يتسم بالتحديث في تناول المضامين واختيار الموضوعات والتجارب التي يعايشها ويعانيها كما الناس الآخرون وكما وطنه. وفي كل ذلك تسعفه بقوة موهبة كبيرة فذة وشاعرية متألقة وثقافة تراثية غزيرة وتمكن كبير واضح جلي من اللغة وتراثها. ولا أظننا بحاجة الى التذكير بها فهي من المسلمات الثابتة لشاعر بحجم يحيى السماوي الامتداد العضوي لفخامة القصيدة الكلاسيكية العمودية والشاهد على خلودها حين يتصدى لها شاعر بمكانته .
عبد الستار نورعلي
السويد
الأربعاء 27 مايس 2009