الحاجة إلى الحرية
التاريخ: السبت 03 ايلول 2011
الموضوع: اخبار



أحمد اسماعيل اسماعيل

قد تكون كلمة الحرية والمطالبة بها جديدة على الأسماع في يومنا هذا ، ولا شك في أنها كذلك ، حيث نجدها محل ارتياب وربما استهجان لدى قطاعات واسعة من أفراد وجماعات مختلفة ، السالبة للحرية منها والمسلوبة ، القاهرة والمقهورة ، ولا غرو بعد ذلك أن يكون الحديث عنها في كل أو بعض شؤون المؤسسات الدينية كفر وزندقة ، وعقوق في الأسرة أو في المؤسسات التربوية وغير تربوية ، لتشمل الطفل وغير الطفل ، ولعل الموقف من المرأة المطالبة بحريتها يعكس هذا الموقف بأوضح تجلياته ، باعتباره خروجاً عن الطاعة ، وتمرداً ، بل وعهراً، حين تتحول الحرية لديها إلى فعل ممارسةً لا مجرد مطلب أو رغبة ، حرية تتجاوز العُرف لا القواعد والأصول الأخلاقية الصحيحة ، والمفارقة الساخرة والمأساوية في الآن نفسه تتجلى في تشدق الجماعات السياسية أو الثقافية بالحرية قولاً وانتهاكها ممارسة .


وفي هذا المجال، وفي كل ما قد نذهب إليه بهذا الخصوص من تعميم أو تخصيص ؛ لا يمكننا بحال من الأحوال اعتبار هذا الأمر قدراً تاريخياً أو إلهياً ، أو فطرة خصتنا بها الطبيعة نحن أبناء هذا الركن من شرق الدنيا دون غيرنا من البشر ، بل هو ثقافة وتربية ما كان لهما أن تتجذرا وتتحولا إلى ما يشبه الإرث المتناسل لولا مناخ استبداد وقهر طويلين ؛ سُحبه لا تهطل سوى مطر أسود.
الحرية ليست مجرد شعار أو رغبة أو تقليعة ، وليست مطلباً سياسياً وحسب كما يًخيل للبعض ، بل هي ميل طبيعي وفطرة إنسانية ونزوع لا يمكن للإنسان أن يحتفظ بعافيته الجسدية والنفسية والاجتماعية بمعزل عنها ، فلا عافية لجسد بلا عمليات كالتعرق أو الإطراح أو الزفير تؤمن تحرر الجسد من بعض شوائبه ، ولا عافية لروح إنسان مكبل بأمراض نفسية مثل الإحباط والهذيانات والخجل والخوف وحتى الحسد ، ولا حياة صحية وسليمة في مجتمع متخلف ومقهور تكثر فيه الخرافات والجهل والتعصب ، وهو إلى جانب كل ذلك نزوع قديم قِدم وجود الإنسان في هذه الحياة ، بدأ مع سعي إنسان الكهوف في تحرره من خطر الوحوش ، وربما قبله كما تروي لنا أساطير التكوين والخلق ، ومروراً بمراحل وأزمان مختلفة : المشاعية والعبودية والرأسمالية والأنظمة الشمولية ، اليسارية واليمينية ، ومن ثم داخل المجتمعات الصغيرة والكبيرة ؛ وأنى وجد الإنسان كانت الحرية بكل تجلياتها ومسمياتها هي الهدف والمقصد، الوسيلة والغاية.
ولعل هذه الخاصية التي تجعل من الحرية أشبه بغريزة حفظ البقاء هي التي تدفع بالإنسان إلى أن يستنفر كل قواه حين يتهددها عائق اصطناعي أو وضعي. وهو ما أدركه الطغاة الجدد الذين حولوا الأوطان إلى سيرك فدفعهم الظن إلى أن بإمكانهم تحويل البشر أيضاً إلى نمور أليفة هذا السيرك ،فاستعاضوا عن أساليبهم القديمة القامعة بأساليب أخرى توحي بالحرية شكلاً وتكرس التدجين والاستعباد جوهراً ؛ من مثل تشجيع ممارسة القمار والتساهل مع مروجي المخدرات والقوادين وبائعات الهوى والتسيب الإداري وغياب الرقابة على التجاوزات ،في المدرسة والشارع والمؤسسة ، والتساهل مع الفن والأدب المسيئين: الإباحي،التنفيسي والتهريجي، وتدعيم الفرق والميول الدينية ذات التوجه الصوفي أو الخرافي أو ما شاكلهما من الميول الداعية إلى الابتعاد عن شؤون الدنيا باعتبارها دار لهو وفناء . غير أن الطامة الكبرى تكمن في المقايضة التي تجري في الوسط السياسي بين السلطة وأحزاب يفترض أنها مبدئية وجماهيرية ؛ مقايضة جعلت من هذه الأحزاب والجماعات دكاكين سياسية بضاعتها شعارات مجانية مقابل أرصدة معلومة في بنوك  السلطة ومؤسساتها . حتى الألعاب والنشاطات الشبابية الرياضية وغير الرياضية لا تسلم من تدجين في حظائر اسمها نواد وملاعب ومراكز وساحات .. 
هذه السياسة التي نجحت في تكريس ثقافة مجتمعية من هذا النوع، كان من الطبيعي أن تصبح المطالبة بالحرية فيه موضع استغراب لدى البعض، وشك لدى البعض الآخر ، ونفور أو تبلد أو تبلبل أو توجس لدى آخرين وآخرين.
- لماذا الحرية ؟
- ما هي حدودها ؟
- من هم طلابها ؟
- وماذا سيفعلون بها ؟
- وهل المطلوب حرية أم حريات ؟
-وماذا بعد الحرية ؟
هواجس وأسئلة تزيد من إشكالية هذا المفهوم، القديم الحديث، وتجعل منه مطلباً فيه وجهة نظر.
إذا اتفقنا على أن الحرية مفهوم خيَر ، يخص الإنسان وحده دون الكائنات الحية الأخرى ، وهو ما لا يمكن الخلاف عليه لا ممن هم مع ولا ممن هم ضد ،وحجة هؤلاء وهؤلاء هي أن هذا المفهوم أيضاً ، مثل مفاهيم وعقائد وممارسات كثيرة ، نتاج ثقافة وتربية وممارسات ليست وليدة الأمس القريب ، التعاطي معه يختلف من فرد إلى آخر ،وجماعة دون أخرى، ومجتمع دون آخر ، وزمان ومكان دون زمان ومكان آخر .إذا اتفقنا على ذلك ، فلا بد من أن نتفق على أن غياب الحرية أو تغييبها هو شر ؛شر مستطير ، الرابح فيه على المدى القصير خاسر على المدى البعيد ، خسارة في معركة قد لا تذر ولا تبقي.
ما سبق يؤكد أن الحرية ليست حصان طروادة ، ولا سلعة مستوردة من بلاد الشياطين أو الجن الأزرق ، كما أنها ليست شتيمة أو تطاول على الأسياد وأولي الأمر، وتوفيرها لا يتعارض مع مناخات الأمن والآمان والاستقرار والسلام الأهلي ، بل يرسخها ولا ينفيها ، يحميها لا يهددها ، ويؤسس لها على أسس أخرى لا تقوم على عقد اجتماعي وسياسي ضمني ، أو غير ضمني، ثمنها حرية المواطن وكرامته ، لأن ما هو سياسي لا ينفي ولا يتعارض مع ما هو أخلاقي واجتماعي وإنساني . فوجود الإنسان في المجتمع لا يكون لمجرد العيش، بل للعيش بشكل جيد يليق بإنسانيته وكرامته ، فعيش الإنسان بلا حرية مسخ له وإحالة إلى مجرد كائن حي أو جثة حية أو شيء أو رقم في دفتر (وطن) وحسابات أسياد ، ولا يمكن الزعم بغير ذلك ما لم يكن الإنسان حراً يتساوى في الحقوق والواجبات مع أي إنسان آخر في المجتمع : حرية فردية هي جوهر كل حرية في إطار مجتمع حر ،ضمن علاقة جدلية لا يصح وجود واحدة منهما بنفي أو غياب الأخرى.
لا شك أن ما يساهم في يحيط  مفهوم أو كلمة الحرية من تشوش والتباس وجدل هو عدم وجود تعريف واحد وحيد لهذه الكلمة ، ويقال أن لها من التعريفات ما يتجاوز مائتي تعريف ، فإلى جانب الحرية التي لا يمكن نفيها والزعم في الوقت نفسه أن الإنسان حر ، ثمة حريات أخرى عديدة ، حرية فردية وحرية موضوعية وحرية شعب ووطن وحرية اقتصادية وحرية سياسية.. وحريات مجهضة لحريات أخرى وحريات معيقة لقيام شروط حريات.  
وبعيداً عن الخوض في تفاصيل قد تقودنا إلى متاهات وجدل بيزنطي آخر ، أكثر عقماً وأشد ضرراً ، نجد أن معرفة جوهر الحرية ، الحرية الحقيقية والصحيحة ،هو ما يلزمنا ، الآن وهنا ،والتي تتلخص في غياب السيطرة التعسفية والتحرر من العبودية والاستعباد أو القهر وبما يوفر للإنسان الحق في فعل ما يعبر عن رغباته وقناعاته وشخصيته هو لا قناعات ورغبات أخرى خارج إرادته ، أشخاصاً كانوا أصحاب هذه الإرادة أم جماعات أم مؤسسات ، بشكل قهري مباشر وواضح ، أو بشكل غير مباشر، خادع وبراق، يتم تحت أجندة ويافطات تربوية أو اجتماعية أو وطنية ممهورة بطابع سياسي خفي أو معلن..أو ما شابه ذلك.
 وقبل أن نتهم بالعمومية ، نسارع إلى القول : أن الحرية ليست مطلقة بلا مساحة وحدود ، أو شروط وأسس وارتباطات ،سابقة ولاحقة ، تضمن لها ألا تصيح معادلاً للفوضى والإرباك والمزيد من القهر في مجتمع القوي فيه بماله أو سلطته أو عضلاته هو من سيسيطر ويسود ؛ حرية قد تحيل المجتمع إلى غابة يكون افتراس الذئاب للحملان والغزلان فيها شريعة ودستور ، وهو ما يروج له البعض بمكر و يردده البعض الآخر عن غباء أو سذاجة .
فمن أهم الشروط السابقة للحرية توفر بعض الضمانات الأساسية من:صحية وعدالة اجتماعية ومستوى من التعليم والثقافة، فلا قيمة لحرية لأمي أو معدم ليس بوسعهما استخدام حريتهما أمام القانون أو أمام صندوق الانتخاب ،غير أن غيابها لا يعني بحال من الأحوال تأجيل الحرية إلى حين تأمينها أو توفيرها ، فهذه الحجة التي استهلكت من كثرة استخدامها فيها من الخبث والمكر، وربما الجهل ،ما فيهما، فالحرية لا تبصر النور في مناخ القهر المظلم ، وتحقيق العدالة الاجتماعية لا يتعارض مع ممارسة الحرية ، ولا يشترط إلغاءها ، وما ينطبق على هذا المفهوم من ناحية علاقته بالحرية ينطبق بنفس القدر على مفاهيم أخرى مثل الوطنية والسيادة والاستقرار والأمان ، وأي خلط بين مثل هذه المفاهيم هو ضرب من الخبل السياسي والجهل المعرفي . فلا عدالة حقيقية ولا سيادة كاملة ولا وطنية غير منقوصة ولا أمان حقيقي بلا حرية.
يعتبر التربيون المعاصرون الطالب محور العملية التربوية ، ويعتبر المسرحيون المتفرج الفرد لا الجمهور محور الظاهرة المسرحية ، وكذلك بالنسبة لبعض المذاهب الأدبية الحديثة التي جعلت من المتلقي لا المؤلف سيد العمل ، هذا النزوع والتأكيد على أهمية الفرد ومحوريته في مجالات الحياة يشمل بالقدر نفسه علاقة المواطن بالوطن والتي نجد أجمل تلخيص لها في قول للمفكر الفرنسي فولتير (لا وطن حر بلا مواطنين أحرار) وهي ما أكده الإعلان العالمي لمبادئ حقوق الإنسان الصادر في العاشر من كانون الأول سنة 1948 ،     
فبدون حرية التعبير وحرية المعتقد وحرية الانتماء وحرية الاجتماع وحرية الحركة  وحريات أخرى هي من أحق حقوق الفرد لا يمكن للإنسان أن بعيش سعيداً وأن يبدع ويدافع عن وطنه ويساهم في بناء مستقبله ومستقبل الحضارة الإنسانية . 
وأسارع إلى القول مرة ثانية أن من شروط الحرية أيضاً ألا تمنح لمن لا يحسن استخدامها عن جهل أو قصد ، فسوء استخدامها ينزع عنها أهم ما يميزها من فضيلة وخير وما هو صالح للفرد والمجموع ، فلا حرية لمجنون ، ولا حرية لشرير أو فاسد ، وهي إلى جانب ذلك تستلزم من طالبيها قدراً من المعرفة والوعي أيضاً ، فالوعي شرط أولي للتحرر، فلا يمكن لفرد أو شعب أن يتحرر ما لم يع ِ قيوده (إن معرفة المرء لقيوده،كما يقول روسو-خير من أن يكللها بالورود) لأن المعرفة تحرر.
فهل يعني هذا تأجيل الحرية حتى تتوفر شروطها ؟ إذا كان هذا صحيحاً فسيكون الله على خطأ لأنه أرسل أنبياءه قبل تحقيق شروط تقبل رسالاته ، وكذلك سيكون الثوار وقادتهم في كل زمان ومكان على خطأ مبين ، لأن ثوراتهم لم تستوف شروطاً من مثل هذا النوع.
إن الحرية كأي قيمة أخلاقية لا تُلقن بل يتم تعلمها بالممارسة عن طريق التربية الوطنية والاجتماعية السليمة ، وفي ظل قانون عادل ودستور مزين ببصمات كل المواطنين ، حينها فقط يصبح طلب طاعة القانون من المواطنين شرعياً وواجباً ملزماً ، وحينها فقط يمكن وصم الحرية التي لا تخضع للقانون بالدعوة للفوضى ، فلا شرعية لحرية لا تطيع القانون الشرعي ، وكما يقول بنيامين كونستان (إن الخضوع لقوانين نحن سطرناها ،تلك هي الحرية.. وذلك هو الحق.
الشعب الحر يطيع القوانين لا الأسياد)
يطول الحديث عن موضوع حيوي وجوهري مثل الحرية ،ولكن مهما تعددت المواضيع وتشعبت في تعريفها للحرية ، ستبقى الحرية من جميع جوانبها ووجهات النظر إليها: نفي قيد، وتحقيق ذات ، وسيادة قانون ، وسعادة مواطن ، واستقرار وسلامة وطن . وهي في نهاية المطاف حاجة إنسانية قبل أن تكون مطلباً أو ضرورة مدنية وحضارية واجتماعية وسياسية.. وحاجتنا إليها اليوم تكاد أن تكون جوعاً.. بل هي كذلك.
نحن جياع إلى الحرية.  
  a.smail1961@gmail.com






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=9879