أبي الرئيس
التاريخ: السبت 25 حزيران 2011
الموضوع: اخبار



 إبراهيم محمود
 
من دون أن استهل بالسلام عليك، وقد مُثّل بالسلام من خلفه والأمام، أبدأ الكلام، وبي ما بيَّ من وجع دفين لاينام، لأنني كلما بحثت عن مسوّغ لكي أناديك: أبي، أجدني مصدوماً للغاية، ولي من العمر والمقام في العطاء، ما يمنعني، ومنذ سنين طوال من أن أسمّيك: أبي، وقد تكاثر هؤلاء الآباء، إذ لو أنني تقيّدت بآداب الطاعة التي حرَّمتني من كل تذوق للآداب، إلى درجة أنك كرَّهتني بأبي، بالرغم من أن أبي كأي أب فعلي في هذه البلاد لم يدَّخر جهداً في تقديم ما يلزم لكي يظل جديراً بالأبوة، لكن هذا الـ" أبي" الذي يقرعني، أو يصفعني، أو يصقعني أنَّى تحركت أو توجهت، وهو لا يقتصر عليك،  وإنما كنتَ أنت من بثثته ورثثته أو باسمك الشخصي أو في غفلة منك، لا فرق، إذ لم يعد في الإمكان حصر هؤلاء الآباء في جهاتنا، حتى حاجب حارس حارسك الشخصي صار لزاماً علي أن أخاطبه في كل شاردة وواردة: أبي، ودون أن يرف لي جفن، لئلا أتَّهم بأنني عاق فيما أقدِم عليه.


يمكنني أن أقول لك دونما مقدمات، بأن هؤلاء الآباء لم يعد احتمالهم، وهم أمام سمعك وبصرك يتفخذون "أمي" على مدار الساعة، ولست أعلم أية أم هذه التي تتحمل نذالة هذا الصنف من الآباء!؟ وقد أفسدت خميرةُ الأبوة التي لا تعريف بها جبلّّتي الطبيعيةَ، ولي من العمر ما يستوجب على أغلبهم، في أن أكون أنا الأب لكل منهم، مع فارق أنني ما زلت أحمل داخلي بذرة الطيبة رغم فساد التربة التي يمشون عليها مرحاً. نعم، لي من العمر ما كان يستوجب عليك أنت نفسك في أن تفك نفسك من سمّية هذا الـ" أبي" التي ما حرَّرت بلاداً أو عباداً، وقد أبصرتُ قبلك الحياة، وفيَّ ما يؤهّلني في أن أظل الأب الذي يعرف وحده كغيره من حوله من الطيبين كيف توقَّر الأبوة.
هي المرة الأولى التي سجلتُها ولم أتهجاها مع صفتها، ليس لأن حقداً أعمي أحال دون ذلك، وإنما لائحة الأحقاد في الذين ينوبون عنك، أو يتحركون تحت ظلك الرئاسي وليس في سيمائهم أي قرابة بما أسلفت، لائحة مريعة تحث حتى الحجر نفسه في أن يستصرخ ضمائر أشقائه من الأحجار على ردهم، تحث حتى بهيمة الله في أن تؤلّب أكثر أخواتها من ذوات الناب والمخلب على خرق قانونها الطبيعي، كرمى الطبيعي من حولها وفينا.
منذ سنين وسنين داولت هذا الاسم بيني وبيني، فلم أجد فيه سوى ما ينفيه! لقد أعياني حتى أحياني لكي أنقم عليه، وأن أحصي الفظائع التي تُرتَكب من خلاله وأنت المعني الأول به. وأما الصفة التي تبقيك في الواجهة، فتلك التي تقلقني وتفلقني بقدر ما يجري من تزييف للوقائع الجارية من حولك وحولي، وهي تدمي شاشات عرضها، إذ كيف للعباد والبلاد أن تعيش نعمة الرئاسة وفيها كل هذا النخر والميتات المختومة باسمك المهيب.
لم أكن الوحيد الذي يلتقي بهم في الطريق إلى الوظيفة، أو في مؤسسة حكومية، أو إلى سوق الخضرة، أو في هو مركز عمومي، أو حتى في الحديقة والطريق العام وفي معلف الدواجن وحتى أحلامي الليلية، وهم أقرب إلى المسوخ أو قد يبدون في غاية" الشياكة" يرطنون بأكثر من لغة، أو لا يخفون أنثوية مستعارة في حركاتهم، وربما يبرزون في منتهى التأدب والتواضع، لكنه القناع ثم القناع ثم القناع الذي سرعان ما ينزَع لحظة الشعور أن ثمة من يريد أن يكون الأب الطبيعي، ويأبى أن يكون من البنادقة كالكثيرين الذين يسهل التعرف إليهم، ليظهِروا في أنفسهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من فظائع الأعمال والأقوال، كما هي الحال التي نعيشها في هذه البلاد اللابلاد، في جموع العباد المعبَّدين بالنعال والأصفاد دونما حساب، حيث تبرأ كل قناع من شرهم المستطير.
ليس الأب أباً إن لم يفتد أولاده وأم أولاده وأهله وصحبه وناسه مأهولاً بالسخاء، وتظهر الأم التي تكون شاهدة، على مدى تفاني زوجها الوحيد وهي مترعة بالحنان والأمان. إن هذا ما لُقّنا إياها وما يطلَب منا أن نتمثلها، فكيف والحال معكوسة، وقد جيّر الأب بحيث صار من الصعب على هذا الأب أن يعترف بأبوته الفعلية، أن يشير دونما استحياء أو توتر إلى حياته الزوجية، وروحه تتصبب عرقاً من هول هذا المدد الآبائي بينه وبين زوجته، بينه وبين نفسه، فيما إذا كان محتفظاً حقاً بأبوته دون أن يطعَن في مفهومه الأبوي والزوجي وتنتهك هويته.
لا، ليس في الإمكان غض النظر عما يحدث الآن أكثر من أي وقت مضى من هذا الامتهان لنا وبنا وفينا، من جهة المسوخ في تنوع أهوائهم المريعة، وأمام بصر العباد وسمعهم، في أول النهار أو في آخر الليل، لا فرق، حيث لا توقيت لشهوة القتل والتمثيل والتنكيل بالواحد أمام أهله بكل فنون الخزي والشنار، كما لو أنهم لم يكونوا يوماً بين أوساط هؤلاء العباد وفي ذات البلاد، ولا أظنك غفلاً عما ينجزونه من" روائع" الموبقات، وثمة صمت لا يعود يُنكَر إزاء هذا المرتكَب من الجنايات التي لم تهدأ بعد، أو تجاهل لأن رضىً محروساً يبقيها.
تُرى، هل يعقل أن يكون الشعب حريصاً على رئيسه، واعتباره الأب سنين طوالاً، أكثر من حرص الرئيس على نفسه، لا بل أكثر من حرص المسوخ على نماء مسوخيتهم وتصريفهم الافتئاتي للبلاد؟ وها قد بلغ الجرح بالجسد الشعبي الحد الذي لم يبقَ فيه شلو دون نزف، المستوى الذي تجاوز النزيف فيه زبى النفير خوفاً من ألا يعود الشعب قادراً على استعادة شتاته في برّية مستحدثة تم عزلها عن عالم صرنا في عهدة ميدياه بالصوت والصورة.
لا رئيس إلا بحضور الشعب، لا شعب إلا بوجود من يظل همه الكبير إبقاءه الشعبَ السعيد ما استطاع، من يكون كامل وقته التفاعل معه ليطلب المزيد من فطنته، وليكتسب عظمة من عظمته، وليكون الجدير في الانتساب إليه، وليس من شيء مما قيل يمكن تلمسه لا في مشرق البلاد أو مغربها، لا في شمال البلاد أو جنوبها. تقولها ذاكرة الطبيعة الشاهدة على مرارة الجاري، على رعب الدامي راهناً أكثر. إذ كيف للرئيس أن يكون اسمه وقد أحيل شعبه إلى القطيع المنذور للذبح أو للذبح أو الذبح على أيدي المسوخ المقرَّبين منك والممدوحين في عسفهم؟
لقد فقدت بلادنا كل صلة بجغرافيتها، قياساً إلى ما تقدم، ولم يعد شعبنا شعباً مؤهلاً لأن يعيش ضمن حدود تشير إليه. لم يترك الأوغاد المحليون ممن تعرفهم جيداً، وليس من أي جهة خارجية، شيئاً يستعين بالصبر أكثر مما كان. لكلّ ما تقدم، أقول ليس بداً من قيامة جديدة كالتي نشهد طلائعها، لندوّن إثرئذ تكويننا الجديد والفعلي!







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=8933