التواري
التاريخ: الأربعاء 15 حزيران 2011
الموضوع: اخبار



  د.سربست نبي

وري الشيء تورية: أخفاه وجعله وراءه وستره, واراه: ستره وأخفاه. توارى: تخفّى. و لـ عبد الغني الأزدي كتاب (المتوارين) يتحدث فيه عمن توراى خشية من بطش الحجاج بن يوسف الثقفي. لكن للتواري في السياسة دلالة مختلف, فهو شكل من أشكال الاستعراض السالب, تلجأ إليها السلطة لفرض هيبتها, وخلق هالة أسطورية عن غيابها ورهبة عن حضورها. والتواري حضور دائم في الوعي وغياب عيانيّ. هو لا يعدّ تلاشياً وانتفاءاً, إنما حضور بالأعراض, لا بالجوهر. والذات السياسية تتوارى لتتخفّى وراء سلطتها, وتوحي بأنها تصنع كل شيء وتصوغ الأقدار والمصائر من خلف المشهد.


وعادة ما يقترن هذا الحضور بأمر جلل. حتى في الأساطير, والحكايات التاريخية, كانت الآلهة تتجلى للبشر عياناً, في كبد السماء, بخاصة عند الكوارث الكبرى. وكان الملوك العظام يظهرون لإثبات أن غيابهم (تواريهم) هو لحكمة عليا, وأن عنايتهم تظلّ حاضرة على الدوام, تحفّ برعيتهم. كما يرتبط هذا الحضور بالقوة والحكمة, فأن ارتبط بالقوة دون الحكمة عدّ تعسفاً, وليس عناية.
إذن, التواري يتوسط بين التلاشي والحضور المطلق, بين الفناء والوجود المطلق. ومن يمتلك إرادة التواري, هو من يقرر الحضور, أين ومتى؟ والحق أن إرادة التواري هي أصل جميع تقنيات ممارسة السلطة, التي تضمن السيطرة والتحكم والتوجيه, وهي التي تعلّم كيف يستمر الحاكم مهيمناً وسط التناقضات والتحدّيات التي تواجه نفوذه.
الرئيس السوري بشار الأسد, منذ استعراضه الأول على مسرح (مهرجي الشعب), في الكوميديا السوداء التي استفزت في العمق مشاعر السوريين, لم يثبت حضوراً مباشراً في مقدمة المشهد حتى هذه البرهة, برغم مرور لحظات حاسمة كانت تستدعي تجلّيه المباشر. من هنا أخذت التكهنات والظنون تثار بشأن غيابه وتأثيره في الـ (مايحدث) سورياً. فهل تقنّع بشار الأسد وراء آلة القمع التي أوجدته وارتكن إليها, ومن ثمّ ارتدت عليه الأخيرة وعمدت إلى إزاحته إلى الوراء بشكل مطلق؟
السلطة السورية لم تبرهن في تعاطيها مع الحدث حتى هذه اللحظة إلا على طبيعتها القمعية, واختزلت تعاملها مع مطالب الشارع ودعواته في العقاب والبطش والقسوة بحق المحتجين, وغابت عنها كل عناية محتملة أو رغبة في الاستجابة لمطالب المدنيين. كلّ ذلك يؤشر لطغيان  سياسة لاعقلانية منحرفة ترى في ردع الشارع وإذعانه وتطويعه غايات رئيسة لها.
كتب مؤخراً السفير الهولندي الأسبق في دمشق والباحث المتخصص في الشؤون السورية (نيكولاس فان دام) في مقال (الأندبندت) يقول بصريح العبارة (لقد أنزل بشار الأسد على رأس هرم السلطة لتجنب الشقاق بين القادة العسكريين, ولضمان استمرارية النظام بعد وفاة والده حافظ, ولكن هذا لايعني امتلاكه للسلطة...) هذا الإقرار يميط اللثام جزئياً عن طبيعة علاقة بشار الأسد كذات بالسلطة التي يمثلها, بالنظام الذي أوجده. فالكيفية التي قادته, والظروف التي جعلت منه حاكماً تحملنا الآن على التساؤل عن حقيقة العلاقة بين الذات والسلطة. أيهما يخضع للآخر سيطرة وتوجيهاً ومراقبة؟ من يتحكم بمن؟ من يخضع لمن؟ من يحاصر من؟ من يقود الآخر ويصوغ قراره؟ هل الذات تنقاد للسلطة وتذعن لرهانها أم العكس؟ من يمتلك القدرة الآن ويحدد أسلوب الهيمنة في هذه البرهة؟ هذه الأسئلة وغيرها تمثل تحديّاً معرفيّاً للمحلل للوضع السوري والمراقب معاً. وليس يسيراً على أحد التقرير أو حسم الإجابة بشأنها في هذه اللحظة بسبب الغموض الذي يحيط بموقف الرئيس السوري ومكانته الحقيقة ضمن منظومة القرار.
لكن بالمقابل, بوسع أيّ كان ملاحظة أن دوره بات محكوماً بإرادة أخرى, ليست ذاتية,  تقرر ما ينبغي عليه القيام به, وتحدد المسارات التي يتعين المضي فيها. وهذه تكشف عن سرّ المفارقة بين ادعاءات النظام من جهة وسلوكه العملي على أرض الواقع من جهة أخرى, بين ما ينسب لرأس النظام من نوايا ومقاصد سياسية, وما يتحقق يومياً من حمامات دم لا يمكن أن تنسب لإرادة سياسية حكيمة, وإنما لرغبة مجنونة ومهووسة بالقتل.
منذ البداية لم يكن شعار الإصلاح المعلن سوى ادعاء فارغاً وخداعاً. وقد برهنت وقائع الأيام الأخير على النوايا الحقيقة للسلطة, حيث أخذت على عاتقها (تأديب) شعب بكامله وعقابه. ولأجل ذلك لجأت إلى مزيد من تقنيات اغتصاب السلطة من قبيل تشتيت انتباه الرأي العام المحلي والعالمي عن البطش الذي تمارسه في الداخل وظرف الأنظار عنها. واستعانت بإستراتيجية المؤامرة المزعومة لتبرير قمعها, واختلقت أساطير وهمية عن وجود عصابات مسلحة. وبالمثل اصطنعت معضلات أمنية وابتكرت مجازر حتى تدفع الشعب للمطالب بتعزيز إجراءاته الأمنية وتكريسها على حساب مطالبته بالحرية.
الخلاصة أن هذه السلطة, ومنذ البداية, لم تكترث قط بتحقيق أي تواصل عقلاني مع الشعب ومطالبه. إنما كان همها الرئيس هو إخضاعه وإذلاله والاستئثار بمصيره عبر إراقة المزيد من الدماء. إنها سلطة تبيح الموت بقدر ما يستجيب ذلك لبقائها واستمرارها. وما الطقوس الاحتفالية للتعذيب والمهانات اليومية سوى دليل على ذلك. فهي تستثمر حتى موت الناس وقتلهم لغرض ديمومتها.
المسافة الفاصلة والوهمية التي كان يوحي من خلالها الرئيس السوري بتساميه واستقلاليته عن السلطة التي ورثها تلاشت الآن أمام فظائع الممارسات اليومية للسلطة. ومطلب الاستقلالية التي كان ينشدها ليبرهن على جدارته الذاتية بالحكم تبدد تماماً أمام هذا التحدّي الوجودي الذي تواجه السلطة ليجد نفسه أمام بنية سياسية وتاريخية شاملة أشد تعقيداً وتأثيراً من أية إرادة فردية. لهذا ارتدّ إليها مرغماً ليتماهى بها ويعمل طبقاً لآلياتها وقوانينها الذاتية. فهو حاضر بها ومن خلالها ليس إلا. وكل اعتقاد بتواريه هو مجرد وهم, لأنه فاقد لإرادة التواري والحضور معاً.






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=8829