السوري.. وسؤال الحرية
التاريخ: الثلاثاء 26 نيسان 2011
الموضوع: اخبار



 إبراهيم محمود- سوريا

يعيش السوري سؤال الحرية اليوم، أكثر من أي يوم مضى، لأن الشعور بالحرية قابل للقياس في ضوء المستجدات أكثر، وليس لأنه ينعدم في زمن، ويظهر في زمن آخر! إنه موجود دائماً، لأن الحرية من حيث الجوهر علامة فارقة للإنسان، ودونها لا يمكن لهذا أن يكون إنساناً.  وما يجري في المحيط السوري يلح كثيراً على تكرار سؤال الحرية حيث الجواب لامتناهي الحدود، إنما أيضاً قابل للمقايسة من خلال سلوكات الناس فيما يتفكرونه ويتدبرون به شئونهم. إنه أكثر من كونه سؤالاً ثقافياً، لعله مذكّر بسؤال كانط قبل قرنين من الزمن، وهو يفلسف التنوير، حيث اعتبر التنوير مدخلاً إلى الحرية، أو لعله الطريق الذهبي إلى الحرية لكنه الذهبي الذي يوحّد الناس جميعاً، رغم تفاوتهم الملحوظ في القدرات العقلية والنفسية والتعبير المختلف عن الحرية، وسؤال الفرنسي فوكو من بعده وبقرن من الزمان، إذ التنوير مستمر طالما أن الحرية هي الإمكان الأوحد لتأكيد كينونة الإنسان الفاعلة والمبدعة، ولأن المستجدات تفترض سياسة معينة لجعل التنوير المناسب واقعاً فعلياً ومعاينة الحرية التي تبقينا أكثر شعوراً بذواتنا.


  إنه سؤالنا دون تحديد جنساني، لا فرق بين كبير وصغير، بين امرأة ورجل، سائل ومسئول، لأن الشرط الوحيد للحديث عن أي حياة هو وجود سلطة تحرص على بقاء الحرية ودوام مراقبة الذين يعيشونها لتستحق اسمها بوصفها سلطة حياة للحياة، سلطة الناس من قبل الناس ولهم، ليكون في مقدور أيٍّ كان التحرك في مجتمع أهل للحياة، للإنتاج. وفي ظل غيابها أو وهم تمثيلها، يفتقر الناس إلى مقومات الحياة أو محفّزاتها، لأن التنوير هو الذي يفتح خطوط التواصل والتفاعل فيما بينهم، إنها الجغرافيا وقد غدت اكتشاف التاريخ والذي لا يتوقف عن توفير المناخ المناسب للعيش فيها وضمان وجودها على صعيد توافر البيئة الصحية. 

 إنه اكتشاف المعنيّ بسلامة الجغرافيا وأهلها ومن يعاونونه في نطاق استتباب الأمن، ودوام المتابعة لما يجري، كما لو أن ابن المقفع حاضر بسؤال الحرية التاريخي، وقد كان ضحيته، في (أدبـ"ـه" الكبير)، حيث قال (ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد ونسيان الود، فليكابد نقض قولهم، وليبطل عن نفسه وعن الولادة صفات السوء التي يوصفون بها..)، إنه السؤال الذي ولد بجوابه مع الإنسان، وشكَّل علامة مفصلية في التاريخ وأصل الحضارة..

حرية السوري باعتبارها سؤالاً

 وللسوري أن يتحدث عن جغرافيا لا يبدو عليها أنها تعيش كما هو مقتضى الحياة على الأرض، وكما هو مقتضى الحرية في التاريخ، لأن ثمة خللاً في طريقة تصور السلطة بمعنى عام لحقيقة تواجدها على الأرض وتمثيلها التاريخي أو الأخلاقي للناس، ونظرة السلطة إلى صورتها في مرآة واقعها، حيث يغيب الآخرون كما لو أنها موهوبة لذاتها وقد اختفى تاريخ المحيطين بها.  يشعر السوري بنوع من الغنغرينا التي تتملك روحه وتنخر فيها، وآثارها بادية في ذلك الطفح الذي يغطي جسده: مقامه الأوحد للتعبير الصامت عما وصل إليه، وهو بليغ في وضعه المتردي والذي لا يتحدى به شخصاً معيناً باعتباره مرجعه الرئيس، إنما السلطة القائمة في تنوع مواقعها، وإن كنا لا نغفل هنا من الذي يكون متكلماً أكثر من غيره باسمها، ولكنها لا تتوقف في حدود الشخص الواحد، إنما تسمي وطناً، تعاين حدوداً جغرافية، تاريخاً يتراءى بثقافة بصرية، هي ثقافة مشهدية قادرة على توفير جواب مرئي عما تكونه الحرية وكيف تتنفس في الناس ومن يمثلونهم قاعدياً وكأن أول الشيء هو آخره، فحيث تسمَّى الحرية تتحدد علامتها.
 السوري الذي يتقدم بكلية جسده، حريص كل الحرص على سلامة الجغرافيا: جغرافية حدوده، وأمن حدوده، وحتى أمن ساسته، بالقدر الذي يشعر حقاً أنه محصَّن بالحرية المتوافرة له، كما لو أنه يدرك جيداً أن الجغرافيا في تنوع تضاريسها ليست منبسطة في حدود تعزل وطنهم عن دول الجوار، فهذا إجراء قانوني دولي ليس إلا، إنما منبسطة داخل السوريين كافة، حيث يتنفس ويُسمَع وجيب قلوبهم بتفاوت، إذ يكونون مختلفين لكنهم يتنفسون دون خوف، يتنفسون مؤمَّنين على حياتهم، يتنفسون لأنهم في مأمن من جوع أو عطش أو جائحة غير محسوبة، وهذه كلها تتلخص في عقد تأمين على حياتهم بالجملة في وطن يتمسكون به لأنهم لا يشعرون أن ثمة من يتهددهم في أمنهم اليومي وهم في انفتاحهم على العالم وتجاوزهم للحدود التي لم تعد حائلة دون معرفة ما يجري في أقصى أقاصي الأرض، حيث الشعور بالحرية ازداد تعمقاً داخلهم، وكل ذلك يتطلب قدراً كبيراً من الانفتاح عليهم، وهي أن تخرج السلطة ذاتها إلى واضحة النهار، إلى تبين حقيقتها ذاتها إذ يكون الناس ومعهم أو من خلالهم يكون تقدير نوع الحياة المنزوع منهم.
  السوري في ضنك الحرية عندما يصعّر خده، لأن ألماً يعتصره من الداخل ليس بقصد الإطاحة بسلطة، كما لو أنه كائن تخريب أو تدمير، إنما يبتغي علاجاً لأن وتيرة الألم تضطرد، بقدر ما أن شعوراً مضاعفاً بالحياة وهي تندحر داخله، يزيد في توتيره وهو ينتظر ما كان يجب ألا ينتظره، أي سؤال الحرية الذي لا جواب عليه، لأن ما يعيشه وما يقض عليه مضجعه هو ما يقصيه عن ذاته ككائن، وهو يستعجل الجواب في هيئة توافر الحرية، وهي محك السلطة الوحيد لتكون سلطة، بعيداً عن هراوة يلوّح الشرطي بها، أو تقرير أمني، أو من هو رديف لكليهما، في جعل السوري دون تنوعه الحيوي واللغوي والثقافي، وهي الفضيلة الكبرى لسوريا التي تعرَف بجغرافيتها الملهمة، وبتاريخها الذي يُعجز كما يجب عن مجاراة هذا التنوع في تركيبتها، بالعكس ثمة فضيلة معكوسة تكمن في كيفية تضحيل التنوع، كما لو أن ثمة معاداة هنا وهناك، لهذه الوفرة من تعدديات المعتقدات والعقائد والثقافات المتداخلة في موشور السوري التاريخي. السوري داخل حدوده، في محيط ثقافته، مع جهاته المفتوحة، حيث يقيم الآخرون، وحيث يتابع هو عن كثب وبجدارة تليق بتنوعه، ما يجري حوله، وينتظر ما يبقيه السوري بالجملة، بعيداً عن أي إشهار بعنف لا يبقي ولا يذر، عن تلويح بشبح تهديد خارجي، لأن جواب السوري عن سؤال الحرية يتشكل في حدود جغرافيته، وكل تقدير سيء له، يترجم سوء الظن، بقدر ما يكشف عن وهم السلطة والذين يقومون على إدارة شئونها، على أنهم أقدر على تعيين نوع الحرية للناس، وأن أي خروج عن مألوفهم، أو عما يحرصون عليه يتطلب ردعاً له، كما لو أن مفهوم الشعب رغم الإطناب في الحديث عنه باعتباره المرجع الأس لأهل الحل والعقد، ليس أكثر من وضع هلامي لكائن يلزمه الكثير الكثير، ليكون في مستوى المجاهرة بحريته.
 تلك مفارقة كبرى، تتأتى على صعيد بؤس التقدير لشعب أكثر تشبثاً بوحدته، ممن يسمُّون فيه الوحدة تلك، أحرص حتى على سلامة نظام، سوى أنه يريد ما يحقق فيه شرط الاسم في وسط جغرافي مفتوح على آخره: محلي وإقليمي وعالمي، ليكون في وسعه تمثيل الحياة التي ازدادت تعقيداً وثراء معنى أيضاً، وإزاء الشعوب الأخرى جهة بناء الوطن، والذي من أولى أولوياته ذلك الشرط السحري، ولكنه واقع ومعاش: الحرية، وارتباطها بالتنوير، والذي من أولى أولوياته بدوره، الشعور بأن ثمة سلطة فاعلة في مجتمعهم، سلطة تطارد ما يفسدها، ويسيء إليهم حيثما كانوا، كما هو مقتضى الواجب السياسي والتربوي، كما تحاسب السلطة من يعربها بتصرف خاص، لأنها تتجاوز كل المعنيين بها، حتى لا يفتقد السوريون شعورهم الأخير بأن ثمة ما يتشظى ويهان داخلهم، وهو: الحرية ذاتها، حريتهم في أنهم يرغبون في أن يكونوا أهلاً للحياة في عيش لا يحسَب عليهم بمقاييس خارجة عن إرادتهم، وأنَّى التفتوا أو أصاخوا السمع..
سؤال السوري عن الحرية هو سؤاله عن إمكان الشعور بسوريته، وهو مؤمَّم من عنف الداخل، ومن شبح استبداد قائم يسهل النظر في بنيانه، كما هو الجهر بشكواه بالجملة، وليس التحضير لتخريب قاعدي، طالما أنه يتحرك في حدوده الوطنية، وكل ذلك يضاعف من حجم التحدي لذات السلطة التي يحلو لها أن تتموقع خارج الحرية التي يلح السوري على طلبه واقعاً، وهي غير خارجة عن نطاقه، إلا إذا كان لدى ممثل السلطة دليل آخر في كيفية تعليم الناس على معايشة الحرية، أعني على مزاولة الحياة كما يطلَب منهم، كما هو واقع الحال، وما يترتب على تصور مأسوي من هذا النوع، من مدى تجرد السلطة ذاتها من سؤال الحرية ولاتنويريتها، والذي من شأنه تنبيه السوري أكثر لا للدفع به خارج حدوده، لإعلام من لا يعلم أنه يريد ما هو حق له، بقدر ما أنه يريد ما يجب أن تعلم السلطة به، إنما التحرك في مواجهة السلطة ذاتها، طالما أنها لا تدرك أنها في الموقع الخطأ وفي صورة التقدير الخاطىء والمرئي للسوري بالجملة، وأولي أمر السلطة في المتن، ليكون سؤال السوري عن الحرية، هو سؤال السلطة ذاتها عن الحرية التي تتعهد بها، لأنه شرط وجودها واستمرارها قبل أن تكون علامة تحكمها بالناس، وما من شأنه فتح الساح واسعة، لحرية ما عليها إلا أن تعبّر عن حقيقتها الجمعية، وحينها لا تعود السلطة سلطة، إنما أي شيء، كونها ستغدو في نطاق الكشف عن حقيقتها، وما إذا كان ذلك، حينذاك، سيكون في مصلحتها، إذ الزمن غير ممكن التحديد هنا، ولا يمكن التحكم به، لأن السلطة ستكون معنية بما تغافلت عنه، واعتبرته حقيقتها وليس حقيقة من تمثلهم، وفي النتيجة، فإن السلطة التي تغفل عن إنسيتها، لا تعود قادرة على تفهم الحرية ذاتها، لأنها تكون قد انتمت إلى عالم مفارق لحقيقة تجلّيها أساساً، عالم الوحشي بصورة ما، ليكون إمكان إصلاحها الوحيد الأوحد هو كيفية إنهائها كلياً، طالماً أنها تصبح عبئاً على ذاتها. وهو السؤال الذي يمتلك بعض الوقت بالنسبة لها، لتجيب عنه في وقتها الضائع هذا، أعني سؤال السوري عن الحرية مجدداً!






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=8359