المسألة الكردية: الجديد والتداعيات
التاريخ: الأحد 10 ايلول 2006
الموضوع: اخبار


رضوان السيد

ليست المشكلة الكردية بالجديدة وإن يكن الغزو الأميركي للعراق قد أعطاها أبعاداً ما عرفتها من قبل. فقد بدأت تتخذ طابع المسألة القومية في الحرب العالمية الأولى وعلى أثر هزيمة الدولة العثمانية فيها. الرئيس الأميركي "وودرو ويلسون" في مبادئه الأربعة عشر عام 1920 قال بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. إنما ظلّت المشكلة في تحديد معنى "الشعب" الذي يستحقّ دولة، وفي منطقة "الشرق الأوسط" آنذاك كانت هناك تحديات أُخرى. تبلورت القوميةُ التركيةُ في دولةٍ انفصلت عن تراثها الإسلامي ليس بالقوانين الفاصلة للدين عن الدولة وإلغاء الخلافة فقط؛ بل وفي هجر العاصمة التاريخية العريقة للدولة الإسلامية العثمانية:

إسطنبول، وإحلال أنقرة محلَّها. وإلى جانب تركيا كانت هناك الدولة القومية الإيرانية، التي لم تسقط ولم تُستعمَر، وإنْ صارت مقسَّمةً إلى مناطق نفوذ في فترةٍ من الفترات بين روسيا وبريطانيا. وظهرت -إذا صحّ التعبير– وبتداعيات سقوط السلطنة العثمانية، وانتصار بريطانيا وفرنسا في الحرب بمساعدة الولايات المتحدة أربعةُ ملفّات: الملفّ العربي، والملفّ اليهودي، والملفّ الأرمني، والملفّ الكردي. وعندما نتحدثُ عن الملفّ العربي لا نعني به مصر ولا شمال إفريقيا، فما كانت الفكرةُ القوميةُ العربيةُ قد اتّسعت آفاقها بحيث تضمُّ هاتين الناحيتين. ولذلك ما كانت هناك مشكلةٌ في استقلال مصر الرسمي عام 1922، ليس بسبب عروبتها؛ بل لأنها دولةٌ قائمةٌ باستقلاليةٍ منذ مطالع القرن التاسع عشر. أمّا "الشعب" العربي أو ما بدأ العربُ يُسمُّونَهُ: الأمة العربية فقد أساء المنتصرون في الحرب (وسكتت أميركا) في التعامُل معه. ما كان بُوسع البريطانيين وهم الطرفُ الأقوى آنذاك مُصارحةَ العرب بأنهم لن يقبلوا بدولةٍ واحدةٍ لهم في الشام (فلسطين والأردنّ وسوريا) والعراق والجزيرة أو قسمٍ منها. كانت هناك المصالحُ الفرنسيةُ التي ينبغي مُراعاتُها في لبنان وسوريا. وكانت هناك مناطقُ شمال الجزيرة والتي تركوها للملك عبدالعزيز آل سُعود خصمهم وحليفهم في الوقت نفسه. وعملوا ترتيباً جمعوا بمقتضاه ثلاث ولاياتٍ عثمانيةٍ هي البصرة والموصل وبغداد تحت اسم مملكة العراق، لتكون حاجزاً بين إيران وتركيا. وأرادوا الاحتفاظ بفلسطين معلَّقةً بانتظار أمرين: إعادة تشكيل الشعب اليهودي الموزَّع في العالَم، وتدبير الأمر مع "العرب" الموجودين بفلسطين، بعد أن قصُّوا جناحهم وجناح سوريا باختراع إمارة شرق الأردنّ.


لقد عنى ذلك -وهو الذي تبينَ طبعاً فيما بعد– أنّ البريطانيين والفرنسيين وفي معاهدة سايكس- بيكو، راعوا الأطراف القوية التي اعتقدوا أنهم ملتزمون بالاعتراف بها وبمصالحها، وتصرفوا بحريةٍ كبيرةٍ مع الأطراف الضعيفة: العرب والأرمن والأكراد. العربُ ما أرادوا السماح باجتماعهم في دولةٍ واحدةٍ حتى لا تقومَ دولةٌ كبرى على شواطئ البحر المتوسط الشرقية والخليج والمحيط، فتعودَ القصةُ كما كانت مع الدولة العثمانية، ولأنهم أرادوا دولةً لليهود لا تقومُ إلاّ على أرض فلسطين، وينبغي أن تقومَ من حولها دويلاتٌ عربيةٌ ضعيفةٌ لا تستطيع رفضَها أو تحدّيَها. وبقيت مشكلتُهم مع مصر لأكثر من خمسين عاماً حتى نجحوا في العصر الأميركي في فصلها عن الجبهة ضد إسرائيل باتفاقيات "كامب ديفيد" 1979.


كانت المشكلةُ مع الأرمن أنهم موجودون أو منتشرون بين تركيا وسوريا والاتحاد السوفييتي الجديد. وقد ضعُفوا في تركيا كثيراً بعد المذابح ضدَّهُم في العامين 1915 و1916 واضطرارهم للهجرة باتجاه الأقاليم السوفييتية أو باتجاه سوريا. ولذلك فرغم الدعاية الضخمة في العالم الغربي لصالح الأرمن، ما أمكن صُنعُ شيء لهم. وقد بادر الاتحاد السوفييتي فيما بعد أواسط العشرينيات إلى محاولة إقامة كيانٍ أرمني وآخر يهودي على مساحاتٍ من الأرض في روسيا وآسيا الوسطى دون أن يلقى ناجحاً أو جاذبيةً من جانب الطرفين.


بيد أنّ المشكلة الأصعب كانت في الملفَّ الكردي. فالشعب الكردي شعبٌ ضخمٌ موزَّعٌ بين تركيا وإيران والعراق والاتحاد السوفييتي وسوريا. وفي كلٍ من هذه البلدان (باستثناء سوريا) كتلةٌ كبيرةٌ منه يمكن إقامة دولةٍ نواةٍ لها. لكنّ إيران وتركيا ما سمحتا بذلك. وما كان بالوُسع مسايرتُهم في العراق بعد ظهور النفط، وهو مخزونٌ استراتيجي مستجدٌّ وقتها. أمّا الاتحاد السوفييتي فقد فعل مع الأكراد كما فعل مع الأرمن واليهود: أسَّس لهم كياناً لديه امتدَّ لشهورٍ باتّجاه إيران وتركيا، ثم قضت الأطرافُ الثلاثةُ عليه بعد الحرب الثانية مباشرةً. وليس بالوُسع هنا تقييم سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة في العهدين الملكي والجمهوري تُجاه الأكراد. لكنْ يمكنُ القولُ إنّ تلك السياسات ما كانت حكيمةً ولا بعيدةَ النظر. وكانت تولّدُ دائماً حركةً مقاومةٍ مسلَّحة تتنوعُ الأطراف التي تَدعمُها من الاتحاد السوفييتي وإلى إيران وإسرائيل.. وأخيراً الولايات المتحدة. وكانت الفترةُ الأطول التي أَمكن خلالها للأكراد العراقيين أن يحظوا باستقلاليةٍ ذات طابع قوي هي تلك التالية للغزو العراقي للكويت. إذ بعد عام 1991 أنشأ الأميركيون منطقةً في شمال العراق حظروا فيها على الطيران العراقي ثم الجيش العراقي الدخولَ إليها؛ فظهرت كيانيةٌ كرديةٌ بقيت ضعيفةً للانقسام بين أطراف ميليشياتها، والرمزان البارزان لتلك الميليشيات: مسعود البارزاني ابن مصطفى البارزاني، رئيس إقليم كردستان الآن، وجلال الطالباني، رئيس الجمهورية الآن. وبسبب الاستقلالية المحمية من الأميركيين والبريطانيين، أمكن للأميركيين عندما بدأوا يخطّطون لغزو العراق في النصف الثاني من عام 2002 أن يجمعوا طرفي المعارضة الرئيسيَّين ضدَّ نظام صدّام حسين في تلك المنطقة الكردية، وبموافقة إيران، وإرغام تركيا على السكوت: الطرف الكردي المسيطر شعبياً في شمال العراق إلى ما قبل الموصل، الطرف الشيعي، المتمركز بإيران وحزباه الرئيسيان: "المجلس الأعلى"، و"حزب الدعوة". وقد ضمَّ إليهما الأميركيون بعض المدنيين والعسكريين السُّنة الهاربين من نظام صدَّام. وليس واضحاً حتى اليوم ما هي حدودُ وعود الأميركيين للأكراد، ولا كيف وافق الإيرانيون والأتراك على هذا الوضع الخاصّ للأكراد. فهم منذ احتلال الأميركيين للعراق يقيمون دولةً حقيقيةً في الشمال، وإن ظلَّ النزاع حول كركوك، التي يعتبرونها عاصمتَهم التاريخية. ثم إنهم يحصلون في الدولة العراقية الحالية على 17% من الموارد النفطية، وحوالى الـ25% من المناصب الحكومية، ومن ضمنها الجيش وقوى الأمن. ويأتي من بينهم رئيس الجمهورية، وخمسة وزراء منهم وزير الخارجية. ومنطقتهم هي المنطقة العراقية الوحيدة التي يسودها الاستقرار والرخاء النسبي.


لقد اندلعت الأزمةُ الأخيرةُ بسبب إصرار مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان على إلغاء العَلَم العراقي، ورفع العَلَم الكردي على المباني الرسمية. وبحسب المادة رقم 12 من الدستور العراقي الجديد، كان ينبغي استبدالُ العَلَم السائد أيام صدّام بآخر يجري التوافُقُ عليه. وقد كان ممكناً للبارزاني أن يطالب بذلك من خلال المؤسَّسات، وسيوافقُهُ الطالباني وآخرون على ذلك. لكنه اختار هذا الأسلوب المُثير إظهاراً للاستقلالية، وفرضاً للأمر الواقع، الذي لا يُهمِّشُ العراقيين الآخَرين فقط؛ بل ويُهمِّشُ فريق الطالباني الكردي أيضاً. ويريد بعضُ المراقبين إعادة ذلك للدسائس الإسرائيلية، فالإسرائيليون حاضرون منذ مطلع التسعينيات بالمنطقة الكردية. ويقال إنهم فعلوا ذلك لإزعاج إيران. لكنهم يزعجون بذلك بالدرجة الأُولى صديقتهم تركيا. فالبارزانيون أقوياء على حدودِ تركيا، والطالبانيون أقوياء على حدود إيران. ثم إنّ الأميركيين يحتلُّون العراق بما في ذلك المنطقة الكردية، ولهذا فينبغي أَخْذُ رأيهم في هذا الشأن، وهم لا يريدون المزيد من المتاعب الآن.


ولنسترجع المشهدَ الذي رسْمناهُ للمنطقة عام 1920. برزت ملفاتٌ أربعة: الملفّ العربي، وهناك اليومَ عدةً دولٍ عربيةٍ بالمشرق -والملفّ اليهودي، وهناك اليوم بل ومنذ عام 1948 دولةٌ يهوديةٌ على أرض فلسطين -والملفّ الأرمني، وهناك اليوم، بل ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي دولةٌ أرمنيةٌ في القوقاز، تحتلُّ أيضاً ربعَ مساحة أذربيجان بسبب التنازُع على منطقة ناغورنو قراباغ -والملف الكردي، وليست للأكراد دولةٌ رسميةٌ معلنةٌ حتى الآن، رغم أنهم أمةٌ كبرى. عددُهم في العراق في حدود الـ 5 ملايين، وفي إيران العددُ نفسُه، وفي تركيا ما بين 12 و15 مليوناً، وفي آسيا الوسطى والقوقاز حوالى الـ3 ملايين، وسوريا أكثر من مليون: فهل تنشأ دولةٌ كرديةٌ الآن، رغم التداعيات الكبيرة على سائر دول المنطقة؟ هذا أمرٌ يصعُبُ تصوُّرُهُ أو تقديرُ نتائجه. لكنّ الملفَّ الكرديَّ مفتوحٌ منذ زمنٍ بعيدٍ، وقد دخل مرحلةً كاشفةً عام 1992، ومرحلةً مشتعلةً عام 2003، ويوشكُ أن يصير كياناً واقعياً إذا سمحت المصالح الأميركيةُ بذلك. بيد أنّ الأميركيين الذين يتحدثون كلَّ الوقت عن بناء الأُمم والدول، ما أنجزوا حتى الآن غير تخريب الدول القائمة في الشرق العربي، وأفريقيا، وشبه القارة الهندية، وأميركا اللاتينية. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.


-----

الاتحاد






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=773