وطن الخراب، وطن العافية
التاريخ: الخميس 19 تشرين الثاني 2009
الموضوع: اخبار



  ملهم الملائكة

تتفتت الاوطان المصنوعة بقوة التعصب وعصبيات الوطنية الغيبية بسرعة صاعقة في عصر العولمة.

الناس مشغولون بالفتاوى التي تمنع العقل وتبيح كل ما عداه، فتسيح الأرض الى أراض وتتوه الشعوب حيرى إلى من تنتمي. تهاجر العقول والمواهب  على عجل الى أي رض لتبيت تحت سقف لا يخر كراهية وتخلف كما في الوطن الممزق.


وجمع البريطانيون مطلع القرن العشرين ولايات الموصل وبغداد والبصرة في بوتقة اختبار اطفال الأنابيب ليخرجوا على العالم بالعراق وقد ارتدى حلة الخارطة البرقوقية الشكل. إبن المختبر لم يهدأ منذ ولادته، وربما كان قلق وجودي يدفع  بخلايا هذا الجسد الصناعي لتقتل بعضها.
بلغ تقاتل الجسد المشوه مع بعضه مطلع الألفية الثالثة أوجه، فجاءت الدول التي صنعت من هذه الارض محاولة وطن مدمى على مدى قرن، وشمرت عن ساعد الجد لحل مشكلة وطن الحضارات  الغاضب من نفسه.

وطن الخراب
تخرجّت العاصمة بغداد من مدارس الدولة القومية عام 2003 وقد تناءت رصافتها عن كرخها، وكره الأحبة بعضهم. بعد نهاية العصر الدكتاتوري الاسطوري صار دجلة الذي يغسل الضفتين المزدحمتين مكبّا لفضلات مستشفيات المدينة ، ومستنقعا تدرنه ملايين الاطنان من نجس الفضلات البشرية وهي تصب في مائه من جوف مراحيض ملايين البيوت. بأي ماء سوف تغتسل هذه الأرض اذا؟
إبان أعوام الحصارانهال الناس على الاشجار يقطعونها ليطعموها النار بعد أن عز النفط والوقود، بعد صدام رفع الحصار وتدفق النفط مدرارا من اثداء ارض النفط ليسيل الى دول الجوار بسفن وصهاريج التهريب، وعاد العراقيون يبحثون عن حطب يدفيء بيوتهم القريرة فلم يجدوا اشجارا تصلح ان تكون حطبا.
وجفّ الرافدان وقد اختارت دول الجوار أن تجهز على ما بقي من محاولة الوطن في هذه الأرض، وربما جاء ذلك ثأرا من سكان هذه الارض، فقد انسلخوا بالتحالف مع الأنجليز عن امبراطورية الرجل المريض فجاء احفاد الرجل المريض وقطعوا عنهم الماء. وللجار الآخر اسباب تتعلق بحرب السنوات الثمان التي خاضاها صدام دفاعا عن البوابة الشرقية للعرب، قادسية جديدة سماها باسمه بعد أن أعيته الذاكرة بحثا عن أسم يخلده.
بعد أن رحلت العصابة الكبرى لم يعد صغار المجرمون يخشون سلطة المافيا، فبلشوا بالدولة حرقا وسلبا واتلافا وتدميرا. ومع قيام الدولة الديمقراطية وفي ظل دستور صوّت عليه الناس- بحثا عن الخلاص في الحلم الامريكي الذي جاء به بوش بقبعة الكاوبوي وعلى حصان أبيض- اختفت مظاهر التعسف والدولة البوليسية، ولم يعد الناس يخشون اي شيء، فانقلبوا أول ما انقلبوا- وليس هذا بجديد على سكان هذي الأرض- على من اعاد لهم رمق الحياة ،واندفع ساستهم بمحض أن نجحت بضع أجزاء من خطة فرض القانون، اندفعوا يطالبون بانسحاب الولايات المتحدة التي اوصلتهم للسلطة ونفخت الحياة في أحزابهم التي كان العراقيون قد نسيوا حتى أسماءها .

قبيح

ثم أوغلوا في الوطن المحاولة تخريبا وسلبا ونهبا كمن يجري لجمع ما تبقى من السنابل قبل أن يهطل المطر ويفسد ما تبقى من الحصاد.
وحتى الساسة الذين توافقوا واتفقوا مع بعضهم واستعانوا بالله وبالحليف الشيطاني الاكبر في العالم!! ليهزموا الدولة الديكتاتورية الأكثر بطشا في التأريخ ما لبثوا ان اختلفوا وتحاربوا وتقارعوا بالاحذية وقتلوا بعضهم وذبحوا أهل بعضهم واستعانوا بالعرب السنة في دول الجوار للقضاء على العرب الشيعة الذين ساكنوهم سنين طويلة في ارض الرافدين، فلم يجد هؤلاء الا ايران سندا، وحين استنجدوا بها اشترطت عليهم أن يصالحوا القاعدة وحماس وحزب الله!! وأن يعلنوا الحرب على اسرائيل التي لا يعرفون معها حدودا، وأن يقتلوا من تختاره من البعثيين!!- فهي لا ترى في كل البعثيين شرا- بل تنتقي الى جانبها من تراه مخلصا لمصلحتها كما تنتقي الى جانبها من تراه مفيدا من قيادات القاعدة السنية المتطرفة!!
ويأس ساكنو هذه الارض التي أضحت يبابا - كما تنبأ صدام حين قال انه سيسلم الامريكان ترابا وليس بلدا وحواضرا- يأسوا من التعلق بوهم الوطن. فتهالكت خدمات الكهربة وتناقصت في أرض النفط الثالثة في العالم مصادر الطاقة، وتسربت أمول البترول الى جيوب الفاسدين وصار رجال الأمن هم الأشد اجراما بين المجرمين، وأمسى الجيش بائع للوطن وليس سورا له كما يقول النشيد الهرم.
الكل يهدم بهمة قلّ مثلها، والجميع لا يرون في هذه الأرض كما سرني أحد كبار النواب في البرلمان سوى فقاعة من بخار النفط  يستحلبها البحارة ، وأكذوبة تاريخية لا أحد يعرف الى أين ستنتهي.
لم يعد في بغداد مكان محترم واحد يمكن أن يأوي اليه الانسان، وصار العراقيون يستوردون الكرفس والبصل والباقلاء والحمص من دول الدوار ويعطونهم نفطا. نحن لسنا في عصر المغول ولا في العهد الأنكشاري لكن دفتر وقائع البلد في عصر الأرشفة الرقمية يكتب على رق من جلد وبيراع من حطب وبمداد من دم من يسكنون هذه الارض المتصاحرة الهرمة

وطن العافية
الشظية الشمالية من الأرض المتشظية  ظلت قرونا طويلة مبتلاة بهويتها الكردية. الا أن اختلاف توازنات القوة، وبركات التفتت العولمي، ووضوح الرؤية لدى الزعيمين الحليفين اللدودين، كل ذلك- وفي غفلة من الزمن السيء الذي طالما ظلمهم - اتاح لأربيل والسليمانية ودهوك أن تصنع وطنا جديدا بعيدا عن محاولات بناء الوطن العراقي الأكبر الفاشلة بشكل مزمن.
نجحوا في أن يصنعوا وطنا، لأن قيادتهم المزدوجة صادقة مع نفسها وأمينة مع الرعية وصادقة مع الغرب الحليف. هم أول من اعترضوا على الأنسحاب الامريكي ، وهم يصرون أن يسموا العمليات العسكرية الغربية في العراق باسمها الصريح الرسمي ( تحرير العراق) ، وهم لا يتعلقون بوهم التحالف مع العرب، ويعرفون كيف يقاربوا الترك الاعداء ومن أين يحدثوهم، وقد خبروا الأيرانيين ويعرفون الى أي حد يمكن ان يأتمنوهم.
يسعون لضم كركوك لنفطها بهدوء دبلوماسي حازم، وهي لهم في نهاية الأمر، وحتى ذلك الحين فقد طوروا آبارا للنفط في الأقليم . من يزر اربيل ويسكنها يلحظ تدفق المسافرين عليها من كل العالم، في الشارع امريكيون يسيرون الى جانب ايرانيات قدمن من بلاد الحجاب ليتنشقن رياح الحرية في أرض تشبه كثيرا واحة هونغ كونغ وسط الصحراء الصينية القاحلة. سواق الشاحنات الاتراك بعد ان يفرّغوا بضائع بلادهم في اسواق الاقليم النهمة يفترشون مقاعد المقاهي في قلب اربيل وهم يدخنون الشيشة ويتحدثون الى الكرد دون خشية الرقيب التركي الرسمي والشعبي!! مستثمرون المان وهولنديون وفرنسيون يملأون فنادق الاقليم التي لا تعد، كلها انيقة رشيقة لطيفة. وفي فندق بسيط أويت اليه طيلة اسبوعين كنت زبونا دائما على حمام للساونا و مساج منظم يومي تقوم به خبيرة صينية تدلك ظهري الغليظ باصابعها الرقيقة الصغيرة ، فأنام قريرا مرتاحا بعد يوم عمل طويل ودون أن يكلفني ذلك مبلغا خياليا. العاملون في الفندق نصفهم هنود والنصف الآخر كرد، فيما مديرته عربية لا تعرف كلمة كردية واحدة و من التاسعة صباحا حتى التاسعة مساء تبقى تتنقل بهمة بين مكتبها بكومبيوتره البنفسجي اللون وبين قاعة الاستقبال والسيجارة لا تفارق اصابعها.
الكرديات دون حجاب في كل مرافق الحياة وفي مساحات اللهو، هن طبيبات في عيادات فخمة في الحي الدبلوماسي حيث مقر القنصليات الأوروبية وبرلمان كردستان ، وهن صيدلانيات في أفقر أحياء المدينة، يغلقن محلاتهن في ساعة متأخرة من الليل ويركبن سياراتهن عائدات الى بيوتهن في الساعة التاسعة مساء دون خوف من اعتداء تقوم به الشرطة أو الحرامية (ودون حجاب اجباري يتقين به شر الميلشيات). هن نادلات في المطاعم، مديرات في الفنادق، معلمات في مدرسة الموسيقى والبالية- التي عجز البغداديون عن المحافظة عليها عشية تسلط الاحزاب الدينية والميليشيات-، هن ضابطات في الجيش والشرطة، في المطار يدققن في جوازات سفر القادمات والمغادرات وابتسامة سخرية تتدلي من شفاههن وهن يتأملن ألعربيات المتعثرات بحجاب خيبتهن.
الشرطة هنا تعمل في حدود الدستور دون تعسف، وقد شهدت شجارا بين ثلاثة شبان سكارى في الساعة الواحدة ليلا، فحضر الى المكان عدد كبير من رجال الشرطة انهوا الشجار الذي تطور الى اطلاق نار في الهواء من احد المتشاجرين. أنهت الشرطة الشجار دون أن تضرب أحدا ودون أن تعتقل أحدا بل طلبت منهم بكل أدب أن يتجهوا بسياراتهم الى مركز الشرطة ليتولى القانون مجراه، وتوجه رتل من ست سيارات الى مخفر الشرطة لحسم الموضوع تحت مظلة القانون دون ضجيج.
كل الشوارع جميلة مخططة محددة منظمة ، والسيارات الفخمة تشي بمستوى دخل الناس، في اربيل لا يشاهد المرء سيارة اقل من موديل عام 2000، أليس هذا دليل عافية وقد تخلصوا من سيارات البرازيلي الكورونا والسوبر القديمة التي تضج بها شوارع بغداد ومدن الجنوب؟ في هذه الشوارع الفسيحة لا تجد باعة الارصفة الذين احتلوا ارصفة بغداد، الا يعني هذا أننا نتحدث عن شعب آخر؟
في أربيل لا ينقطع الكهرباء، وقد وجدت هذه معجزة ما بعدها معجزة، فكيف تستطيع حكومة الاقليم ان تسيطر على موارد الكهرباء فيما تعجز بغداد بجيشها وشرطتها وحلفائها عن توفير نصفها؟
البناء قائم في كل ارجاء المدينة والتحضر يتسارع ليبعد حدود المدينة المدورة عن قلعتها العتيقة الرابضة في قلبها. مجمعات تسويقية عملاقة يجد فيها المرء كل ما يشتهي، وفي حدائقها الغناء يسهر الأربيليون وصغارهم وضيوفهم متلذذين بأمن وطمأنينة وفرتها الحكومة وتفاني الناس الذين اتفقوا على التخلص من إرث الوطن المحاولة الدامي بعد أنّ أفنى أجيالا منهم.
اربيل والسليمانية ودهوك تصنع واحة أمن وسلام وحرية وديمقراطية في منطقة مظلمة قاتمة تسير الى مستقبل مرعب بطرق مسدودة بالمشروع الاسلامي في تركيا، والنووي في ايران، والحربي الجهادي في فلسطين وغزة، والقومي في سوريا الاسد.

مشاريع الغد
فلسطين التي انقسمت الى دولة عبرية ومحاولة دولة فلسطينية منتصف التسعينات، عادت لتنقسم على نفسها الى ربع دولة فتحاوية فاسدة خائفة متوارية، وربع أمارة اسلامية سلفية تلتف بشعارات القومية ويرف في سماها علم جمهورية ايران الاسلامية لا عداه.
لبنان الصغير لحد التلاشي يغلي على جمر المصالح الدولية والعربية المتقاطعة بعد ان غادرته سوريا، فبات الجنوب امارة شيعية تنفصل حالما يملّ قادتها الانتماء الى لبنان الأرز، ودون الجنوب سيغادر كل مكون وطن الشوكولاته الذي اذابته قنبلة اغتيال الحريري ونيران قذائف اسرائيل على حصون نصرالله.
اليمن توشك أن تنقسم الى إمارة شيعية بدائية في الشمال ، وجنوب عشائري تتنفس قبائله أريجا ماركسيا لبث في هواء المنطقة منذ انهيار دولة علي سالم البيض بعزيمة البعث وقدرة القائد الضرورة المفدى علي عبد الله صالح.
السودان ينتظر قرارات دولية تنقذ شعب دارفور من ابادة حكومة البشير بوطن يأويه تحت اي وصاية، وقررات اخرى تبني للجنوب المسيحي دولة تعصمه من الوباء الاسلاموي المتخلف الذي يزحف عليه من دولة الخرطوم.
الصحراء الغربية توشك أن تغادر المغرب بعد أن إنفصلت عنه موريتانيا قبل بضعة عقود في دولة مترامية الاطراف معدومة الموارد قليلة السكان.
الصومال يعيش أزمة لا مثيل لها منذ عقدين و لم يجد لها خبراء السياسة من وصف سوى بالمصطلح المضحك "الصوملة".
والغد بعد هذا لناظره قريب.

اربيل . خريف 2009







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=6353