( كوردستان.. إيزيدخان ) الوطن الأم والعنوان
التاريخ: الجمعة 04 اب 2006
الموضوع:


كفاح محمود كريم
Kmk_info@yahoo.com 

 فيما كانت البشرية قبل ألاف السنين تبحث عن معبود تعبده فتجد ضالتها في حجر أو صنم أو ربما شجرة أو ظاهرة طبيعية، كانت هناك مجموعات أخرى من البشر بين جبال ووديان وسهول كوردستان قد شقت طريقها إلى فكرة الله الواحد الأحد، وابتدأت مسارها باتجاه التحرر من الخوف والانعتاق من إشكالية التسلق عبر مجسمات لآلهة مفترضة كما كانت تفعل شعوب أخر، واستطاعت عبر بحثها الدءوب واستقرارها النفسي أن تتفرغ لصناعة الغذاء بينما كانت البشرية تبحث عنه.
  


 في أرض ما بين النهرين كانت القدحة الأولى للحضارة البشرية عموما ومنها انطلقت أشعتها إلى كل الأصقاع، من تلك الكهوف التي اختزنت بين صخورها أولى نماذج هذا الكائن البشري ونظامه الأسري وسلوكه باتجاه تصنيع الغذاء كأول حلقة من حلقات الانطلاق إلى عوالم التقدم والتطور وإيقاف مرحلة البحث المتوحشة عن الغذاء. 
من هنا انطلق الإنسان الأول حاملا إبداعين تاريخيين سينقلان البشرية في ما بعد إلى مرحلة تاريخية مهمة وخطيرة، اولهما اكتشافه لفكرة الإله الواحد المتجلي والبعيد عن الحواس المادية، والنأي بالعقل والنفس البشرية عن مجسمات الآلهة المفترضة كالأصنام الحجرية والأشجار والظواهر الطبيعية والحيوانات وما كان يخشى منه أو يعشقه الإنسان آنذاك، وثانيهما اكتشافه صناعة الغذاء والزراعة والكف عن البحث القاتل والمتوحش.
   في الأول، تحرر الإنسان من مخاوفه مما حوله ومن ثم تفرغه الذهني والحسي إلى عملية تصنيع الغذاء وتخلصه من التشتت في معرفة سر الكون والخوف وتركيزه فكرة الإله برمزٍ غير محسوس وقادر على كل شيء، ومن ثم الانتقال إلى عملية تصنيع الغذاء والانطلاق إلى عوالم رحبة في تطور سلوكه وحاجياته التي أنتجتها إبداعاته في الوصول إلى فكرة الله الواحد.
   إنساننا الأول هذا رفض تقزيم فكرة الله وتحجيمها في مجسمات وظواهر طبيعية واستلهم من كبريائه وعظمة وطنه وشموخ جباله واتساع حلمه ورِقَة مشاعره وسموها، طريقا إلى الله، فلم تثبت التنقيبات الاثارية ولا الدراسات التاريخية والدينية أي أثر لمعبود مجسم من حجر أو حيوان أو ظواهر معينة في أرض كوردستان عبر تاريخها الممتد لآلاف السنين.
    لقد كانت الديانة(المسماة الآن) الايزيدية هي الديانة السائدة وليس غيرها في كل ارض كوردستان بأجزائها الأربع الحالية، حتى ظهور الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية وأخيرا الإسلام، ولقد تعرضت خلال آلاف السنين إلى القضم سواء من خلال حملات التبشير أو حملات الفرمانات العثمانية وما رافقها من عمليات تطهير عرقي وديني، وعبر أربعمائة سنة من حكم العثمانيين تعرضت هذه الديانة إلى حملات واسعة وشرسة من الابادة الجماعية أو الاضمحلال الديني والقومي جاءت على خلفية حملات سبقتها إمارات أواخر الحقبة العباسية وما أقترفه بدر الدين لؤلؤ أبان تسلطه على حكم أتابكية الموصل وسنجار وجرائمه في حملاته على الايزيديين في الموصل وضواحيها.
   ونتيجة لتلك الحملات الشرسة التي تعرض لها أتباع هذه الديانة فقد انحسرت لدى أولئك الذين قاوموا حتى الموت والانقراض وجابهوا أنواع الإذابة والاحتواء خلال مئات السنين من حملات الأنفال الأولى التي دشنها أشباح الظلام في الإمبراطورية العثمانية وجحوشها آنذاك بما أطلق عليه بالفرمانات العثمانية وغير العثمانية والتي اعتمدت أساسا في نهجها وهو الابادة الجماعية للعرق الكوردي باستخدام الدين غطاء لتلك الجرائم البشعة فأوقعوا في صفوفهم طوفانا من الدماء والسبايا وخرابا لكل قراهم ومدنهم وما نجت حتى قبور موتاهم.
   ولعل أروع ما سجله هؤلاء البشر لتراجيديا تاريخهم ذلك الثراء في فلكلورهم وأغانيهم التي وثقت مآسيهم وعمليات أبادتهم التي أراد الكثير من المؤرخين إضاعتها أو شرعنتها تحت مضلة الدين والقومية. لقد استطاع الأيزيديون بكل إصرار ومقاومة لا مثيل لها المحافظة على هويتهم ولغتهم الكوردية الأصيلة، ولعلهم ينفردون من بين كل شعب كوردستان في أجزائه الأربعة بنقاء لغتهم الكوردية من المفردات الدخيلة سواء ما كان منها عربية أو غيرها، وأذكر هنا واقعة من التاريخ الحديث لنقاء لغتهم، حيث أوعز الزعيم الكوردي الخالد مصطفى البارزاني في مطلع السبعينات من القرن الماضي إلى المجمع العلمي الكوردي بإرسال لجنة متخصصة في اللغة والآداب إلى قرى الأيزيدية في شنكال( سنجار) للبحث عن بدائل لمفردات دخيلة عجز المختصين عن تكريدها، لقد كانت وما تزال اللغة التي يتداولها الأيزيديون من أنقى اللهجات الكوردية وأفصحها، وأكثرها اكتنازا وتنوعا في معانيها ووصفها رغم كل عمليات التعريب والإذابة والقهر القومي والديني الذي تعرضوا له عبر كل مراحل التاريخ.
   لم تكن شنكال أو سنجار ملاذا آمنا لهم في عمليات الابادة الجماعية التي تعرضوا لها سواء في كوردستان الجنوبية ( العراق ) أو الشمالية ( تركيا ) أو الشرقية في إيران أو غرب كوردستان في أجزاءٍ من سوريا كما يدعي بعض المؤرخين، بل حصنا أمينا وجزءاً من وطن تشردوا منه على أيدي العثمانيين وجحوشهم في أبشع عمليات الابادة للجنس البشري بسبب الدين والقومية، فلقد احتضنت شنكال تاريخا ثريا من الميترائيات الأساسية للديانة القديمة للكورد قبل آلاف السنين ولم يرتقي تاريخ القبائل غير الكوردية في هذه المنطقة إلى أكثر من مائة وخمسين عاما ممن استوطنوا إلى حد هذا اليوم، وقد ذكر المؤرخين ورود بعض القبائل العربية من البدو الرحل طلبا للماء والكلأ ما لبثت أن هاجرت أو استوطنت إلى الجنوب من سنجار.
   لقد كانت كوردستان موطن واحدة من أقدم ديانات البشرية إطلاقا، التي اهتدت إلى فكرة الله الواحد غير المحسوس والمتجلي على صفات المخلوق والبعيد عن التشبيه والتوسيط، ولعل مفردة ايزيدا أو ايزدا وهي أسم من أسماء الله في هذه الديانة تعني الخالق لنفسه بنفسه كما هي كوردستان صانعة نفسها بنفسها.
   وعلى مدى قرون طويلة حاولت كل الأقوام التي كانت تجاور كوردستان وشعبها ابتلاع أراضيها ومسخ سكانها تارة بسياسة الاسلمة المبطنة بالتعريب أساسا والقضاء على القومية الكوردية وإذابتها ومسخ ثقافتها وتاريخها وفلكلورها كما حصل مع السكان الأصليين لكوردستان وهم ما يطلق عليهم الآن بالأيزيديين باعتبارهم خارجين عن الإسلام تارة وكفرة تارة أخرى، حتى بلغت حملاتهم أكثر من اثنتين وسبعين حملة عسكرية كادت أن تقرضهم تماما لولا صمودهم الأسطوري ومقاومتهم العنيدة من أجل البقاء والحفاظ على معتقداتهم وفلكلورهم وتاريخهم شفاها بسبب الإرهاب الذي استخدم ضدهم.
   ولعل ما تعرضوا له خلال القرن الأخير كان أبشع من ما سبقه من ويلات وفرمانات حيث استخدمت كل النظم السياسية التي حكمت العراق منذ تأسيسه سياسة التهميش والإهمال والتفقيرومصادرة وسائل عيشهم وتطورهم وتحويلهم تدريجيا إلى مجتمعات فقيرة للغاية اقتصاديا وثقافيا وتعليميا بما يلغي وجودهم وتأثيرهم ومن ثم استعبادهم، ولعل مشروع أرواء الجزيرة في منطقة ربيعة دليل على هذه السياسة العنصرية الخبيثة، فقد أوقفوا إيصال قنوات المياه والارواء إلى أراضيهم والاكتفاء بالمنطقة التي يسكنها ويملكها العرب لإجبارهم بالعمل كفلاحين بأجورهم الشهرية أو الموسمية ومنع أطفالهم من التعليم وتشغيلهم في مشاريع الملاكين والإقطاعيين.
   ولم يكتفو بذلك بل أصدروا مجموعة من القرارات اعتبروهم من القومية العربية وما يترتب على ذلك من تغيير في اللغة وتشويه في التاريخ والفلكلور ومنع استخدامهم للأسماء الكوردية الأصيلة التي كانوا وما زالوا يتميزون فيها عن بقية شعب كوردستان، إضافة إلى تدمير قراهم وبساتينهم والاستحواذ على أراضيهم وتجميعهم في مجمعات قسرية أشبه ما تكون بمعسكرات الاعتقال وتدمير حلقات الإنتاج وتحويلهم إلى مجتمعات استهلاكية خدمية ليس إلا.
    وخلال ساعات فقط بعد سقوط النظام سقطت معه كل مظاهر التعريب التي مارسها معهم وعادت اصالتهم إلى حيث الوطن ألام والعنوان الأكبر الذي يؤشر تاريخا من الصمود والمقاومة العنيدة والإصرار على البقاء والاستمرار ولكنهم ما زالوا الأكثر فقرا وبؤسا وما زالت قراهم وبساتينهم تأن من ظلم مئات السنين، فبعد أكثر من ثلاث سنوات من سقوط النظام لم تلحق مناطقهم بالإقليم ألام والوطن الأصيل فأصبحوا ضحية الازدواجية في العلاقة بالإقليم أو مع الحكومة الاتحادية في بغداد أو الموصل مما أخر بشكل كارثي تطور المنطقة وإنقاذها من التدهور الاقتصادي والعمراني والحضاري والتربوي وخصوصا بعد الانقطاع الكامل عن الموصل نتيجة عمليات القتل على الهوية الدينية والقومية التي يتعرض لها أهالي هذه المناطق.
    ونتيجة للتباطؤ في إعادة ربط هذه المناطق بإقليم كوردستان عادت برامج وسياسة التعريب بمظاهر لا تقل بشاعة عن تلك التي استخدمت عبرما يقارب الأربعين عاما خلت فأصبح الأيزيديون ضحية تنافسات سياسية انتخابية بائسة أو عنصرية شوفينية لبعض القوى والكتل السياسية العراقية والأجنبية سواء من دول الجوار أو غيرها مما ضاعف حالة التردي في معظم مجالات الحياة الاقتصادية والزراعية والاجتماعية والحضارية رغم ما تقدمه مؤسسات إقليم كوردستان والتي تتعرض لمضايقات شتى من قبل هذه القوى ومراكزها في الحكومة الاتحادية.
   أن محاصرة المنطقة وتحويلها إلى قطاع غزة كوردستاني، حيث القطع الكلي عن تلعفر ومن ثم الموصل وحصر الاتصال بالإقليم عن طريق شريط ضيق وطريق طويل ووعر بمحاذاة الحدود العراقية السورية يتجاوز المائتين وخمسين كيلومتر للوصول إلى محافظة دهوك عبر جسر متهرئ على نهر دجلة بالقرب من فيشخابور ضاعف مأساة الأهالي وتدهور إنتاجهم الزراعي واضمحلاله وتعرضهم إلى المخاطر والاغتيال أثناء ذهابهم وإيابهم.
   إن منطقة شنكال ( سنجار ) ذات الأغلبية الكوردية والأغلبية في الديانة الأيزيدية تنتمي جغرافيا وثقافيا وتاريخيا إلى إقليم كوردستان وهي الامتداد الطبيعي والجغرافي لهذا الإقليم، حيث اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد المشتركة وهي تمثل الامتداد الغربي لكوردستان العراق من ضفاف نهر دجلة في أقصاه الشمالي الغربي وصولا إلى الحدود الدولية مع سوريا في غرب منطقة شنكال.
   وإذا كانت اليوم منطقة شنكال( إيزيدخان مصغرة ) فأنها تمثل الأيزيدخان الكبرى في التاريخ وهي كوردستان بكافة أجزائها الأربع حيث كانت تدين بكاملها بهذه الديانة عبر الزمن القديم، وهي عنوان الوطن الأم والشعب الأصيل واللغة النقية والكوردايه تي الخالصة والإصرار على البقاء والمقاومة الشرسة من أجل الحفاظ على الوجود واثبات الهوية القومية والدينية وهي التي حافظت أمام عشرات الحملات العسكرية في الأبادة والصهر على مقوماتها القومية وهويتها الوطنية وانتمائها إلى الوطن الأم كوردستان وعنوانها الأيزيدخان.








أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=617