اليسار العربي والخطاب الموقوف
التاريخ: الأثنين 09 حزيران 2008
الموضوع: اخبار



دهام حسن

إن سقوط النموذج السوفيتي للاشتراكية، في كل من الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية، كان بمثابة كارثة على الفكر الاشتراكي عموما، كما ترك آثاراً سلبية عميقة على حياة الحركات اليسارية في العالم العربي ، ولا يخفى أن هذه الحركات تعاني اليوم حالة من الحرج والإرباك والهلهلة الفكرية والتنظيمية... فلم يصمد أمام هذا الزلزال، ولم يتقبل نتائجه سوى جماعات قليلة نسبيا في تلك الحركات و(الراسخون في العلم ) حتى طاب لبعضهم أن يروجوا لفكرة يتداولها المتحاورون في نقاشاتهم مفادها: لقد ماتت الاشتراكية في عقر دارها، فلماذا أنتم تتشبثون بأفكار لم تصمد أمام الواقع؟


أليس هذا نوعا من الطوباوية في تقديس الأفكار والمفاهيم؟ التي أكل عليها الدهر وشرب؟ من هنا يحدوني القول، أن هناك أموراً كثيرة يجب أن تتنبه لها تلك الحركات في عالمنا العربي، فهي لم تعد قادرة أن تتحصن في أطر حلقية مسيّجة بجدار صيني، فأمام الثقافة الحديثة وثورة المعلومات، والقنوات الفضائية.. انكشف الغطاء وتعذر بالتالي على تلك الحركات أن تتلفع بالظلام، فقد أصبحت مراقبة بكل جوانبها العملية، من الآخرين، تسلط عليها الأضواء وتتكشف ماهيتها...
إن مجابهة الواقع الجديد تقتضي من تلك الحركات تطوير الأفكار وتحسين الأداء،وإعادة النظر في كثير من القضايا، وإعادة قراءتها من جديد بكثير من الفهم والتعمق، فما آمنت به تلك الحركات من أفكار ومفاهيم، هي أيضا جزء من الواقع المتغير، وبتغير الواقع تتغير الأفكار والمفاهيم أيضا، فلا يمكن مواكبة واقع جديد إلا بمبادئ وأفكار جديدة.. ولكن ما يؤخذ على تلك الحركات أنها مازالت تعزف على وتر خطاب متخلف وبمسار قديم، لا يتواءم مع إيقاع الواقع الجديد، وتسد بالتالي باب الحركة والاجتهاد أمام أعضائها، إلا من ( شذّ ) منهم. وكأني بقيادة هذه الحركات، قد داخلها الرعب، من هذا الواقع الجديد والمتجدد، ومن هذا الانقلاب في كثير من المفاهيم والقناعات، وشعرت تلك القيادات (التاريخية) بأن ما بنته خلال عقود من كيان فكري متماسك كما بدا لهم، قد بدأ يتزعزع ويتداعى أمام الأبصار، وبدل أن تتعظ قيادة تلك الحركات بنتائج ما حصل، وتقبل الواقع الجديد والتعامل معه بموضوعية، وبتفهم وشفافية، آثرت- للأسف- تلك القيادات تمثل قول الإمام الغزالي: (السلامة في الإتباع، والخطر في البحث....) وراحت على منوالها القديم تشدّد على مقولات جامدة فقدت بريقها وجاذبيتها، ودون حوامل اجتماعية، ودون بيئة موائمة ولا ظروف مؤاتية لتقبل تلك المقولات...
إن الجماهير الشعبية اليوم، والفئات الثقافية شرعت تقيّم الحركات من خلال ما تفعل وما تمارس، لا من خلال برامج محطوطة  على الرفوف، ولا حتى من خلال خطاب غير مترجم على صعيد الواقع. فالجماهير اليوم مطلعة على واقع تلك الحركات وممارساتها، وحتى على حياتها الداخلية، ولا ينطلي عليها إيهامها بأن كل شيء على ما يرام.. لا بد من المكاشفة، والمصارحة النقدية مع الذات، مع التذكير بأن هؤلاء ( الذين يطالبون بسور الصين) لا يطالبونه إلا (من أجل صيانة مصالحهم) حسب تعبير لينين.. ما زال الخطاب ـ كما هوـ مغلفاً برداء فضفاض ينطوي على العموميات دون أن يلامس القضايا الجوهرية الملحة التي تهم الجماهير الكادحة الفقيرة..إن تصعيد اللهجة في القضايا الوطنية والقومية (الاستعمار، الصهيونية، الوحدة، الأمة، الاشتراكية. ) وعدم التركيز على القضايا الاجتماعية اليومية الملحة (الفساد، القمع، الاستبداد، الديمقراطية، حقوق الإنسان... الخ) هو هروب إلى الأمام، وقفز على استحقاقات النضال الملحة واليومية، وما عاد ينطلي على أحد هذا التماهي في طرائق النضال: (البعيد ملحوظ والقريب ملفوظ)
يحكى أن خادمة (طاليس) سخرت منه ذات يوم عندما رأته يسقط في جبّ وهو يرسل ببصره بعيداً نحو الأفق محدقاً في النجوم قائلة : كيف يبحث في الأفق البعيد البعيد (وهو المتعثر في القريب المباشر)
في مواقف كهذه قد تكسب قيادة تلك الحركات رضا الفئات الحاكمة، إلا أنها تخسرـ حتما ـ  ثقة الجماهير، فمن يأكل من مال السلطان يحارب بسيفه.. كما يقول المثل. لهذا ينبغي أن نتنبه لهذه المعادلة، لهذه المفارقة: ودّ السلطة أم ثقة الجماهير؟ مذكراً هؤلاء بقول ماركس :(كلما زادت قدرة الطبقات الحاكمة على استيعاب أبرز رجال الطبقة المحكومة زاد حكمها رسوخاً وخطورة(
من ضمن هؤلاء هناك من يتدثرون بعباءة الماركسية، يجتزون أفكاراً وعبارات لكلاسيكيي الماركسية من سياقها التاريخي ثم يخضعونها لتحليلاتهم ومقاساتهم لتبرير مواقف خاطئة، فيتحسس المتابع إن قادة تلك الحركات، أصحاب المشاريع الفكرية الكبرى قد تخلت عن برامجها، وتراجعت عما وعدت به، فغدوا يشددون على القضايا البعيدة، ويخففون من نبرتهم في معارضة سياسة الفئات الحاكمة الفاسدة في بلدانهم : لهذا فقد اعتدنا منهم مثل هذه العبارات المتكررة منذ زمن بعيد : لا تثيروا هذه المسألة لأن هناك ضغطاً  خارجيا؛ أو.. لماذا إثارة هذه القضية وفي هذا الظرف بالذات؟ وتظل هذه الحجج المخوفة لا تنقطع ومسلطة كسيف (ديموقليس) على رقاب أية حركة لو تجرأ بعض أعضائها فأثاروا مسألة اجتماعية ما، لكي نظل منشغلين دائماً بقضايا السياسة الخارجية ولا نرى فسحة لطرح قضايا اجتماعية داخلية والتي هي الأهم برأيي، وهي التي تعزز المواقف وتوحدها من المسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية، فقد أصبح (خداع جماهير الشعب بشأن (قضايا) السياسة الخارجية قد ارتفع إلى مستوى فن عند هؤلاء كما يقول لينين...
مجرد رأي.... على جهود فئتين اجتماعيتين تنعقد الآمال :
1- على طاقات الكوادر الشابة الواعية، المسلحة بالعلم والمعرفة، يتوقف الكثير من الإصلاحات والدفع نحو التطوير والتغيير، فهي المرشحة أن تشكل عامل ضغط داخل تنظيماتها.
2- وهذا الأمر مرهون وملازم بجهود النخبة الفكرية المثقفة داخل هذه الحركات أو خارجها، لتعميق الفكر وتغليب الجانب المعرفي على الأداء السياسي اليومي، وهذه الجهود لا بدّ أن تثمر في النهاية عن تحرر تلك الحركات من رصد الفئات الحاكمة لها، ومن هيمنة الخطاب المتخلف أيضاً، وتنتهي بهذا فترة توقيف الخطاب السياسي لينطلق في فضاءات الحرية دون قيود.






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=3957