ظاهرة الفقر.. بين الواقع والسياسة..!
التاريخ: الأثنين 05 ايار 2008
الموضوع: اخبار



دهام حسن

يعتبر الفقر همّا اجتماعيا كبيرا ! وهو فضلا عن ذلك، قضية سياسية واقتصادية بامتياز،  وهو كذلك في كل بلد، وفي أي مجتمع إذا ما توخينا الدقة.. والباحثون في قضايا الاقتصاد والمجتمع، يعرّفون الفقر عادة على أساس مستوى دخل الفرد أو الأسرة، أو هو حصول الفرد أو الأسرة على قدر من الدخل يعبر عن مستوى منخفض من المعيشة...


لا شك هناك مؤشرات مختلفة على ظاهرة الفقر، منها معدل البطالة، كمية الإنتاج والاستهلاك، الأجر المنخفض، وعدم تكافؤ الفرص، من النواحي التعليمية والمهنية والأمور السياسية.. بيد أنه ليس ثمة معيار محدد أو ثابت لبيان خط الفقر، فالنسبة تختلف من بلد إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن زمن لآخر، كما لا يعد الحجم الكبير في دخل وميزانية الدولة، مؤشرا على غنى المواطنين ورفاهيتهم؛ ولا حتى مساحة الأراضي الشاسعة والصالحة للزراعة، وغناها بالموارد، أو حتى قحطها، ليس ذلك هو الدليل على حال المواطنين في الثراء أو الفقر، كل هذا بالأساس يعود إلى السياسة الزراعية، أو السياسة الاقتصادية على العموم , وإلى طبيعة النظم الحاكمة بوجه الحصر خصوصا...
 إن مناولة مسألة الفقر بالعرض والتحليل، ومحاولة تجاوزها، ليست بالمهمة السهلة، بل هي في غاية الصعوبة والتعقيد.. فكثير من الدول تفتقر إلى دراسات متخصصة للوقوف على أسباب الفقر والجوع والحرمان وبالتالي معالجة هذه الأسباب.. فمنهم من يحمّلون مؤشرات تزايد السكان بانخفاض المستوى المعيشي، وعلى العموم لا يمكن لنا أن نحمّـل الطبيعة الفقر والجوع؛ ولا حتى تزايد السكان، فبدراسة معمقة يمكن لنا أن نضع حدا لقلقنا, ونتجاوز مشاعرنا بلوم أنفسنا، عندما نعي أن أسباب الفقر ليس لعيب فينا.؛ فإن الجائعين يمكن لهم أن يتحرروا من جوعهم، ويتجاوزوه، بعد أن يتعرفوا على أسبابه، فالطبيعة ليست هي السبب، بل أن جشع الإنسان، هوالمسبب في الحالة المزرية التي يعيشها أخوه الإنسان.. فالإحصائيات تشير وتؤكد عن إمكانية الطبيعة توفير الغذاء لكل إنسان، وبالوسع استثمار الأراضي بمساحات أكبر، وزيادة الإنتاج كما ونوعا، واتباع سبل التحديث الزراعي، ولا يتحقق ذلك إلا بالسيطرة العادلة والديمقراطية على إنتاج الموارد، واستثمار الثروة الناتجة عن الأرض للتنمية في حقول أخرى، وهنا ينبغي على الحكومة أن تساهم من جانبها في تنمية وتطوير الريف، وتحسين شروط القروض، لكي تحفز الفلاحين الفقراء، والعمال الزراعيين لتحسين كمية ونوعية محصولهم، والحقيقة أن هؤلاء لن يدخروا جهدا فيما لو أحسّوا أن شطرا محسوسا من ريع المحاصيل يعود إليهم، بحيث لا يستأثر بها المالك وحده، أو تصادرها الدولة بتعويضات زهيدة..
 لقد كان فيما مضي الجفاف والفيضانات والآفات الزراعية من المسببات القوية في المجاعة والفقر، لكن كثيرا من الدول قيض لها أن تحد من أخطار هذه المسببات، فعمدت إلى الاهتمام بشبكات الري،ومقاومة الآفات الزراعية، فأمدت الفلاحين بالمبيدات والسماد اللازمين، كما قامت بتشجيعهم بمزيد من الحوافز...كما كان لا بد من تقليص في الاستغلال ما أمكن ، من قبل المالكين في بعض المناطق، ومن قبل الحكومة في بعض البلدان، فالإصلاح في الاقتصاد والسياسة متلازمان، فلا بد هنا من سياسة اقتصادية سليمة، ونظام سياسي ديمقراطي عادل، وتحديث مضطرد، في التكنولوجيا، وتطوير وتحسين في علاقات الإنتاج...
 نعود فنقول أن مساحة الأراضي، حتى حين جدبها الظاهر، ليس بمؤشر على سبب تفشي الفقر والجوع، إنما يعود ذلك إلى السياسة الزراعية لأية حكومة كانت، إلى سياسة سوء استخدام واستثمار الأرض.. فالسودان مثلا تعتبر سلة الغذاء العالمي لو أحسن التصرف من  قبل النظام الحاكم، ومع ذلك يعيش سكانها في فقر وجوع، وتجتاحها مجاعات بين حين وآخر حتى إلى وقت قريب، والسبب يعود إلى سوء إدارة النظام وسيطرته، والتحكم السيء في الموارد الإنتاجية، فلا بد هنا من إعادة النظر في سياسة توزيع الأراضي ، وأشكال الاستثمارات، وما يستلزم ذلك من إصلاحات مضطردة في أكثر من صعيد .... إن السلطات السودانية المتعاقبة على الحكم، هي التي تتحمل مسؤولية ما آل إليه وضع السودان، رغم هذا فالحالة السودانية غير ميئوس منها، لو جيء بمن يحكم بالعدل والديمقراطية وأحسن التصرف، وسعى جادا لمعالجة الحالة، واندار إلى التنمية والتطوير في مختلف الحقول، وركز على الاستثمارات، وادخل العلم في حيز الإنتاج...
إننا لو استعرضنا دولة أخرى... فسوريا مثلا، غنية بالموارد، وفيرة بالطاقات، ومع ذلك يعيش غالبية السكان على خط الفقر، والسبب يعود إلى طبيعة النظام القائم في سوريا الذي استحكم بكل مفاصل الحياة في البلاد، دون عناء بحث في سبل المعالجة والنهوض, ودون السعي الجاد للحد من استشراء الفساد..
 إن الصين اجتاحتها موجات من المجاعة في الماضي، بسبب الفيضانات من ناحية ، والجفاف من ناحية أخرى، وكانت الضحايا البشرية  بالملايين، لكنها أولت أخيرا اهتماما كبيرا، لخلق نظام زراعي، يجنبها من كوارث الفيضانات والجفاف، فعمدت إلى تحسين مجرى الأنهار، وحفر ما يشبه الخزانات بين الجبال، وحبس المياه  في الأنفاق والانتفاع بالمياه الجوفية، ومن آلاف الآبار، فوضعت بالتالي حدا لمعاناتها، وجنبت البلاد من الكثير من الكوارث.. فما حدثت من مجاعات في التاريخ، ناجمة بالأساس عن سلوك بعض الفئات البشرية المتحكمة في الأرض والاقتصاد، وناجم عن طبيعة النظم الحاكمة بالدرجة الأولى، وبسبب البنية الطبقية للمجتمعات، وجراء الاحتلالات الأجنبية في عهد من العهود، لقد اجتاحت المجاعة سوريا في عهد الاحتلال الفرنسي، بسبب سياسات الاحتلال، فكثيرا ما كانت تلجأ قوى الأمن والدرك، إلى البحث عن محاصيل الفقراء المخبأة كقوت عامهم في الأجفار، فتتم مصادرتها، ليتم مدّ جيشها المحارب خلال الحرب العالمية الثانية.. كان جون ستيوارت مل الاقتصادي البريطاني المعروف يقول: إن المستعمرات ليست سوى مؤسسات زراعية، يقتضي منها إمداد المجتمع الأكبر الذي تنتمي إليه....
في أوربا في الماضي، كان هناك من حمل أسباب الفقر على تزايد السكان كما قلنا في مستهل مقالتنا؛ لكننا لو تتبعنا السياسة الزراعية في الريف، لوجدنا أن الأرستقراطية قامت بحماية مساحات واسعة من الأراضي، وتسويرها، وتخصيصها لرعي الأغنام، والتركيز على محصول واحد أو محصولين، كان هذا من أسباب الفقر، وبالتالي  سببا لهجرة العمال الزراعيين من الريف ليستقروا في المدن، لكي يعملوا في الصناعة والتجارة ومهن أخرى.. وكان بالإمكان استيعاب كل هؤلاء لو جرى التحديث في الزراعة، والاستعانة بعمل القوى الفائضة في الريف، وأيضا كان ممكنا التوسع في استثمار الأرض... إذن ليس تزايد السكان هو سبب الفقر والجوع، إنما السياسة الزراعية المتبعة من قبل بعض المالكين أو الحاكمين المتنفذين هي المسؤولة عن الفقر؛ أما العمل في الصناعة، فإن مصنعا واحدا قد يستخدم عددا من العمال المهرة، سوف ينجم عنه توقف آلاف الحرفيين أصحاب المهن الحرة عن العمل، وهؤلاء يضافون إلى سوق البطالة، وهنا لسنا بوارد أن نحمل الآلة أسباب الفقر والبطالة، مثل اللوديين الذين حطموا الآلات والمكائن محملين إياها سبب فقرهم ، وتقليص أو ضياع فرص العمل من بين أيديهم، فابتكار التقانة ينبغي أن تكون في خدمة الإنسان وراحته، وبغية الزيادة في الإنتاج، لكن الطبيعة الطبقية لمن يملك ومن لا يملك هي السبب في فقر وجوع هؤلاء، وفي هذه الحال فـ (إن الفقراء يتضاعفون بضعف سرعة الأغنياء) بتعبير أحدهم، وهنا يطرح النظام المستقبلي أيا كانت تسميته  وبما تحمل من رؤى جديدة مثل العدالة والمساواة والديمقراطية والتنمية والتطوير والحرية إلخ... فالديمقراطية كسلاح نضالي سلمي للطبقات الدنيا خاصة، أصبح وجودها ضروريا  لتقسر الطبقات على التنازل، وترغم الحكومات للاستجابة لتطلعات الفقراء والكادحين طالما يمتلكون أصواتا يهزون بها أركان السراي الحكومي... 
إن الزراعة التي كانت تؤكـّل الملايين في ظرف ما، يتحكم اليوم  فيها بعض المستثمرين والتجار، فضلا عن القوانين الزراعية المتخلفة والجائرة، والسياسة الاقتصادية المركزية المتشددة؛ إن التنمية البشرية، واكتساب الخبرة والكفاءة، وتشجيع الاستثمارات، واتباع سياسة اقتصادية رشيدة، مؤسسة على دراسات علمية، هي الطريق إلى النجاح الأكيد لأية أمة من الأمم؛ وهذا رهن بالتالي إلى قيام حكومة وطنية ديمقراطية..
إن أية ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، ينبغي ألا يقف عندها الباحثون  بالعرض والتحليل فحسب، إذ لا بد من البحث عن أنماط التغيير، والعمل على تدبير البدائل، والتأسيس عليها، والانطلاق بها نحو آفاق مستقبل مريح، وهذا ما نادى به أحد كبار الفلاسفة عندما قال في موضوع آخر ما معناه: ليس كافيا تفسير العالم بل المهم هو تغييره..من هذا المنطلق ندعو: ليس كافيا أن نقف عند معاني ومفاهيم الفقر بالعرض والتحليل، إذ لا بد أن يتبع ذلك التفكير في صناعة البدائل لتجاوز الحالة، وهذا يتطلب وعيا ونضالا مستميتا، فالفقر والجوع ليسا قدر الشعوب ، وإنما هما من صناعة بعض الفئات المتحكمة في رزق العباد، وناصية البلاد؛ فلا بد إذن من النضال السياسي في أكثر من صعيد، فما عرف عن دول النمور الآسيوية، أن بعضها كانت قاحلة، ضعيفة بالموارد، ومنها من اتسمت بمناخ وبيئة جغرافية غير مؤاتية، وكانت متخلفة وفقيرة، رغم كل ذلك شهدت هذه الدول مرحلة من التنمية البشرية والاقتصادية والثقافية، فأصبحت اليوم تضاهي الدول الأوربية في تطورها، وينعم شعبها  بحالة من الرخاء والاستقرار، أليس كل هذا يعود إلى طبيعة تلك النظم .؟ نضع هذا التساؤل أمام السادة حكام العرب برسم الأمانة، ولننتظر الجواب ؛ ولكن .!هيهات هيهات من جواب...!







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=3777