العرق والثقافة والأمة والهوية السياسية في تركيا: بعض الملاحظات[1]
التاريخ: الأثنين 28 نيسان 2008
الموضوع: اخبار



مارتن فان برونيسين، جامعة أوتريخت/جامعة برلين الحرة
الترجمة عن الإنكليزية: راج آل محمد
 
1- حول بناء الأمة والإثنيات المقاومة
كانت فكرة بناء الأمة سائدة في الدراسات الأمريكية عن "الدول الجديدة" في آسيا وأفريقيا خلال الستينيات [من القرن الماضي]. وقد عولجت الفكرة على أنها عملية حتمية ومفيدة. وكان الصوت المعارض الأول هو ووكر كونور  Walker Connor  الذي لفت الانتباه في مقالته (بناء الأمة أم تدمير الأمة)- التي يُقتبس منها دوماً- إلى المنطقة العمياء في التيار السائد في تلك الدراسات. إذ لاحظ أن أياً من النصوص في الاتجاه السائد في "العلم السياسي" عن العالم الثالث لم تشر إلى وجود الأقليات القومية ومقاومتها للانصهار في الأمم القائمة على شكل دول.


وقد وجد كونور أن فشل الأدب السياسي  في بناء الأمة يُعزى إلى 12 عاملاً على الأقل ولكن أياً منها لم يكن يرتبط بالولاءات القومية. ربما تكون فروع المعرفة الأخرى أكثر حساسية إلى هذه الوقائع، ولكن في علم الاجتماع والانثروبولوجيا كانت مقالة كليفورد كريتس  Clifford Greetz المعنونة بـ"الثورة التكاملية" المنشورة سنة 1963 استثناء في فهمها للمسألة. بالنسبة لكريتس أيضاً كان ميل التطور الاجتماعي باتجاه الدمج مع الأمم الكبرى (مثل الأمة الأندونيسية) ولكنه نظر إلى الولاءات الإثنية كعقبات خطيرة في طريقها.
   في عام 1972 استطاع كونور أن يسوق أكثر من مثال على انفصال الحركات القومية التي شكلت تهديداً للدول الجديدة وأظهرت ضعفها. في عام 1997 بدا تفاؤل الستينيات ساذجاً إلى حد لا يصدق، وبات من الصعوبة بمكان فهم عمى العلماء السياسيين بشكل خاص للاختلاف القومي. إننا نعيش في عالم حيث الكثير من المقولات الكبرى فقدت رواجها حيث يقول البعض أن "شكل" الدولة –الأمة في طريقها إلى نفس المصير. ومن المثير للدهشة أن الدراسات عن تركيا قد سمحت لنفسها بالانقياد وراء النظرة الذاتية للنخبة الكمالية وتملصت من مسألة القومية في الجمهورية التركية.
2- المواطنة التركية، الهوية الثقافية التركية والعناصر غير التركية.    
في نهاية بحثه يشير ايريك-يان تسوكر  Erik-Jan Zucher إلى غموض متأصل في الفهم الكمالي للهويتين الثقافية والقومية التركية اللتان تبدوان، كما يقترح هو، جذر المشكلة الداخلية التي تواجهها تركيا اليوم. من ناحية أخرى، نجد صيغاً مختلفة لعبارة أن كل شخص في البلد يختار الهوية الثقافية التركية هو تركي ويستمتع بالتالي بالحقوق القانونية. ويُتوقع من  المهاجرين والإثنيات غير التركية المستقرة في المنطقة أن تتخلى عن هويتها لصالح الهوية التركية. من ناحية ثانية، بالنسبة للبعض من النخبة الكمالية على الأقل، فإن ثقافة المرء تكون مغروسة معه منذ نشأته/نشأتها ولا يمكن تغييرها. بمعنى آخر، تبدو الثقافة كميزة عرقية وراثية. وضمنياً- كما أشار إلى ذلك تسوكر، ولكنني لم آراه يُذكر بشكل واضح في أي مصدر تركي- فإن الكرد واللاز والجركس واليهود لن يكونوا قادرين على تبني الهوية الثقافية التركية بشكل كاف مما يعني أنهم سيبقون مواطنين من الدرجة الثانية.
   على العكس من المحللين الأكاديميين، السياسون العمليون ليسوا فقط قادرين على التوفيق بين التناقضات فحسب،بل أيضاً يعمدون إلى أن يكونوا متناقضين. فثقافة تكين آلبTekin Alp في الولادة ، كما يفترض المرء، لم تكن تركية، ولكنه لم يجد صعوبة في أن يُقبل كتركي. والأمر ذاته ينطبق على ضيا غوكالب الذي ظل طيلة حياته يحتفظ بموقف متناقض من الثقافة الكردية لبيئته الأم. لقد ذكر ضيا عرضياً ولكن بنبرة توكيدية أن الكرد والعرب والجركس يمكن (ويجب) أن يصبحوا أكراداً.
    وسواء اعتبرنا أن تكين آلب يفكر في الهوية الثقافية بلغة عنصرية- ولكنني لست مقتنعاً شخصياً بأن هذه القراءة صحيحة[2]- يمكن للمرء أن يتسائل فيما إذا كانت كلمة  race (عرق) لم تكن تُستعمل في ذلك الحين بالمعنى الثقافي و/أو الجغرافي (مثل استعمال البريطانيين لها حتى الوطن الحاضر). هناك عبارة مشهورة تُنسب إلى مصطفى كمال في صحيفة محلية في ديار بكر عام 1932 يقول فيها:" إن أهالي ديار بكر ووان وأرضروم وترابزون واستانبول وثريس  Thrace  [منطقة في جنوب شرقي أوربا تشمل أجزاءً من اليونان وتركيا وبلغاريا. المترجم] أبناء سلالة واحدة ويجري في عروقهم الدم النفيس ذاته. فإذا ما اجتزأنا العبارة- وهو ما يحصل عادة عند اقتباسها- يمكن أن تُفسر على أنها اعتراف بأن مخاوف شعوب تركيا الأربعة (بما فيها المهاجرين المسلمين من بقايا المقاطعات العثمانية السابقة) من خلال التاريخ المشترك وعناصر الثقافة المشتركة يرتبطون ببعضهم على الرغم من الاختلاف العرقي. ولكن سياق العبارة يُظهر أن كمال تبنى قراراً آخر بشأن المشكلة التي أشرنا إليها اعلاه. فقد أخبر سكان ديار بكر بأنهم ينحدرون من أتراك أوغوز Oghuz  والمعنى الضمني هو أن كل سكان تركيا (فيما عدا بعض المجموعات العرقية مثل الأرمن والغجر، كما قد يظن المرء) منحدرون من الأتراك. وبعد وقت ليس بطويل أُعيد تعميد الأكراد باسم "أتراك الجبال".
   إزدواجية أخرى، وهي الصفة الأكثر ميزة في موقف الكماليين من الكرد، يتجلى في العبارة ذاتها في ديار بكر. فمن جهة يُقال أن الكل أتراك ومن جهة أخرى الأتراك هم من يوّحدون ويعلمون الآخرين. (انظر الهامش 6) قبل ذلك بسنتين كان منظّر  CHFووزير العدل محمود عزت (يوزكورت) قد ألقى خطاباً أكد فيه على الدور القيادي للأتراك:" إن قناعتي الراسخة، وليسمع الأعداء والأصدقاء على حد سواء، هي أن الأتراك هم أسياد هذا البلد ومن ليس تركيا حقيقياً لا حق له سوى حق واحد في الوطن التركي ألا وهو حق أن يكونوا خدماً او عبيداً." هل الأكراد مؤهلون لأن يكونوا أتراك حقيقيين كما قال محمود عزت أم هل كانوا من سلالة الخدم؟ من الواضح أن غير الأتراك الذين كان يقصدهم محمود عزت هم الأقليات المسيحية والمقيمين الأجانب، وربما كان رد الفعل العالمي على هذا الخطاب قد كلفه منصبه (حيث أن عصمت باشا لم يُدرِج اسمه في مجلس الوزراء الذي شكله فيما بعد في شهر أيلول من عام 1930). ولكن بعد ذلك مباشرة تم تعريف الكرد بشكل واضح كـ "أتراك حقيقيين" بينما بقوا في الوقت نفسه يخضعون لسياسات الصهر المتعمدة.
   ولا يزال الالتباس قائما حتى اليوم. المادة 66 من دستور 1982 تؤكد أن " كل شخص مرتبط بالدولة التركية من خلال رباط المواطنة هو تركي" وهو تعريف مدني غير عنصري للمواطنة التركية (التي يعترض عليها الكثير من الأكراد على اعتبار أن هناك إنكار لهويتهم القومية).في المناقشات على نص المسوّدة، عارض الجنرال إحسان كوزكيل  Ihasan Gozkel  على صياغة هذه المادة:" المواطن صيغة عامة تشير إلى الأشخاص الذين يعيشون في الوطن نفسه. من غير الممكن الحديث عن الانتماء إلى أمة طالما ليست هناك لغة وعادات وتقاليد مشتركة، والتاريخ المشترك والأسلاف أنفسهم وهي العوامل التي تمنح الأمة اسمها. بمجرد قبول شخص ما كمواطن، لا يمكننا أن نغيّر الدم في عروقه وأن نستبدله بدم تركي، وليس بمقدورنا كذلك أن ننتزع من قلبه وعقله قيمه وأن نعيد بناءه روحيا وجسديا بالثقافة التركية، والقيم التركية، وبالتاريخ الحافل للأتراك وإذا شئتم بالتفوق العرقي للأتراك (...) يمكنكم أن تجعلوا من شخص ما مواطناً ولكن لا تستطيعون أن تخلقوا منه تركياً (...) إذا ما أردنا أن نحدد المواطنة والانتماء لتركيا، يجب بكل تأكيد أن نضيف عنصر تبني الهوية التركية. فالشخص الذي لا يستطيع أن يردد من كل قلبه كلمات "سعيدٌ كل من يعتبر نفسه تركياً " لا يمكن أن يكون  تركياً.
   من الواضح أن اعتراضات كوزكيل التي فرضت نفسها هي التي جعلت محمود عزت يتمسك بالتفريق بين مواطنين من الدرجة الأولى ومواطنين من الدرجة الثانية اعتماداً على قبول الثقافة والهوية القومية التركية. وقد حذر من مغبة إظهار الاختلافات الإثنية إلى العلن. الازدواجية والتوتر التي لاحظهما تسوكر في تكين آلب واضحة تماماً هنا. من ناحية أخرى، يذكر كوزكيل بوضوح بأن تبني الهوية التركية من قبل الدخلاء شرط أساسي من شروط المواطنة الكاملة، ويشير من جهة أخرى إلى أن تغيير الهوية الإثنية للناس شيء مستحيل تقريبا. وقد اختارت أغلبية أعضاء اللجنة الدستورية أمة تركية موحدة (وكما نعرف كانت هناك عودة لإجراءات قوية للصهر [القومي] بعد انقلاب 1980 مباشرة).
   عندما ناشد ساسة أوربيون في لقاء مع أقرانهم الأتراك بالحوار مع الأكراد، أبدى برلماني من المقاطعات "الكردية" موقفاً أقرب ما يكون لموقف كوزكيل وهدد بالنتيجة النهائية لموقف كهذا. لقد كان ذلك البرلماني هجيناً (كانت أمه كردية) ومهنته طبيب فتكلم عن التمرد القومية الكردية بلغة طبية. حيث شعر أن هناك بعض الحالات القابلة للعلاج  ولكن في حالة 5-10% من السكان فإننا نتعامل مع "تناذر"[3] غير قابل للعلاج. و"الإرهاب" الحالي من أعراض ذلك التناذر، وبما أنه غير قابل للعلاج، فإن أية محاولة إلى تسوية الحرب الحالية عن طريق المفاوضات سوف يعطي نتائج عكسية. وقد أحجم عن الإسهاب في المعالجة الطبية التي ظن أنها ضرورية ولكن بدا انه كان يفكر بلغة جراحية.
   إن استعمال اللغة الطبية بشكل مجازي والمعالجة الجراحية ليس جديدةً في تاريخ تعامل تركيا مع الكرد. ففي تقرير مرفوع إلى وزارة الداخلية حول الظروف في ديرسم في عام 1926، وصف المفتش حمدي بي  Hamdi Bey  المقاطعة بـ "الخراج الذي ينبغي على حكومة الجمهورية أن تجري له عملاً جراحياً لكي تمنع مزيداً من الألم." وبعد عقد من الزمن، استعمل وزير الداخلية شكرو قايا  Sukru Kaya استخدم المجاز نفسه لتفسير لماذا [لا][4]تكون ديرسم مقاطعة مستقلة تحت أمرة إدارة عسكرية خاصة والمعالجة الطبية أخذت أخيراً شكل الحملات العسكرية الثقيلة الوطأة بين عامي 1937 و1938 والتي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية.
3- أدوات بناء الأمة:
لكن النظرة السائدة بين صناع القرار الأتراك كان هو أنه من الممكن للجماعات الإثنية غير التركية أن تتبنى الهوية الثقافية التركية وأن الصهر بقوة كان وارداً. ورغم أن سياسات الصهر كانت مهمةً في [تشكيل] الهوية القومية التركية، فإنها لاقت القليل من الاهتمام في الدراسات التاريخية عن تركيا وبالكاد تكون هناك دراسات جدية ومفصلة. وقد كان الباحثون الأجانب حتى وقت قريب ينظرون بإعجاب إلى التحديث الذي قاده الجيش ويغضون النظر عن الطرق العملية التي جُلبت فيها المدنية إلى الجموع غير المتحضرة. بالنسبة للمؤرخين الأتراك من غير المرغوب فيه أن تنقب في هذا الجانب من الماضي القريب. من غير الممكن أن تكتب الآن عن الكمالية والكرد من دون أن تشير إلى اسماعيل بيشكجي، الذي يٌعتبر عملياً الشخص الوحيد في تركيا الذي يُقوَّض الإرث الكماليّ والذي، كما نعرف، دفع ثمن شجاعته غالياً. ورغم النبرة الجدالية المتزايدة في أعماله، فإنها تُعتبر مساهمة مهمة في مراجعة تاريخ الجمهورية التركية.
   كانت فكرة صهر القوميات غير التركية فكرة رئيسية في مؤتمر Turk Ocaklari  في العشرينيات. وكما لاحظ جورجيان، فإن Turk Ocaklari تلقت المزيد من الدعم من الحكومة على إثر ثورة الشيخ سعيد وقد تزايد بسرعة عدد الـ ocak في المقاطعات الشرقية. وقد كان هذا بحد ذاته محاولة للصهر القومي. وقد كان مراقب Turk Ocaklari للمقاطعات الشرقية حسن راييت (تانكوت)  Hasan Reit (Tankut)مدافعا لا يشعر بالكلل لتتريك المنطقة مقترحاً إجراءات صارمة اعتمادا على الانقسام القائم بين السكان. وقد اقترح أولاً التركيز على العلويين الذين يستخدمون اللغة التركية في شعائرهم الدينية وبالتالي يمكن أن يكونوا أكثر سهولة في الانصهار خاصة إذا ما تم استغلال خلافاتهم مع الأكراد السنة بحكمة. وفي مرحلة لاحقة، في أواخر حياته، اقترح حرفيا دق اسفين متكلمي الزازية والكرمانجية من خلال إخلاء خط بعرض 30 ميلاً وإسكان الفلاحين الأتراك في القرى التي تم إخلاءها.
   في مسعى منه لمعالجة موضوع صهر يهود تركيا خاطب أكين آلب اليهود في كراسته  Turklestirmek  الصادرة عام 1928 بالوصايا العشر التالية -التي يجب أن تُحترم كتلك الموجودة في العهد القديم-:
1- تسمّوا بأسماء تركية
2- تكلموا التركية
3- أدوا جزءاً من صلواتكم على الأقل في الصومعات باللغة التركية
4- ترّكوا مدارسكم
5- أرسلوا أطفالكم إلى مدارس الحكومة
6- انشغلوا بقضايا الدولة
7- عيشوا مع الأتراك
8- تخلصوا من الروح الطائفية لديكم
9- انجزوا اعمالكم الخاصة ضمن الاقتصاد الوطني
10-  اعرفوا حقوقكم[5].
ويمكننا أن نفترض، مع أنه لم يذكر ذلك صراحة، أنه قد اقترح الوصفة ذاتها للكرد، والعرب والجركس والأقليات المسيحية الأخرى.
    وقد تطابقت الممارسة الفعلية إلى حد بعيد مع تلك الأفكار وفي بعض الحالات سبقتها تاريخياً. أدى إغلاق المدارس في عام 1924 إلى حظر فعّال للهجات العامية غير التركية للمسلمين (حيث لم يكن ذلك ممكناً لغير المسلمين بسبب معاهدة لوزان). من ذلك الوقت فصاعداً بات التعليم الرسمي متاحاً فقط باللغة التركية حتى وإن أدى ذلك إلى أن يكون التواصل بين المدرسين والطلاب في حده الأدنى. وكان معنى ذلك لعدة عقود أن مستوى التعليم في المناطق الكردية بقي متدنيا جداً مقارنة بغربي تركيا. إن رداءة التعليم هناك منعت المدارس القروية من العمل كوسيلة فعالة للصهر. وهو علاج أُعتبِر متأخراً في أواخر الستينيات مع تأسيس  bolge yaltili ilkokullari  التي أُقيم معظمهما فعليا في المناطق الكردية[6] يحتفظ الكثير من الخريجين بذكريات أليمة عن طرق التلقين الوقحة في تلك المدارس والضغوطات الجسدية والذهنية التي تعرضوا لها من أجل التكييف. ( بالصدفة كان لهذه المدارس تأثيراً في جمع الأطفال من مناطق واسعة معاً وتنمية الشعور بالهوية الكردية المشتركة، في بعضها على الأقل. كما أصبحت هذه المدارس الداخلية، وإن بدرجات أقل من الجامعات في المدن الكبرى، أرضاً خصبة لنمو الشعور القومي الكردي).
   وقد أرجع التبني القسري لأسماء الكنية في عام 1934  الكثير من العائلات الكردية إلى أصول تركية أو تركمانية Ozturks أو التتار أو الأوزبك كما إن أسماء قراهم لم تعد كردية أو أرمنية بل اتخذت اسماءً تركية. وبات التكلم باللغة التركية إلزامياً لكل القرويين القادمين إلى المدن، وفي السنوات التي كانت الكمالية في ذروتها، كان على القرويين أن يدفعوا غرامة عن كل كلمة يتفوهون بها. كانت هذه السياسات استفزازية وأبعدت سكان القرى أكثر عن الحكومة ولكنها لم تساهم في الصهر [القومي].
   لكن الطريقة الأكثر إثارة في الصهر القسري التي مارستها السلطات الجمهوريّة كانت التهجير الجماعي. عمليات التهجير بالطبع جزء من الميراث العثماني ولكن في فترة الجمهوريين فقط نرى أنها استُخدِمت كأداة في بناء الأمة والنص الذي كتبه إسكان كانونو   Iskan Kanunu  سنة 1934يوضح بجلاء بأن هدف النقل الجماعي للسكان في حينه كان صهر العناصر غير التركية في بوتقة الثقافة التركية. المادة الثانية من ذلك القانون قسم البلد إلى ثلاث مناطق للاستيطان: تلك التي ينبغي أن يزداد فيها سكان الثقافة التركية وتلك التي يمكن أن يوّطن فيها الجماعات التي ينبغي صهرها وأخرى ينبغي إفراغها لأسباب متنوعة (صحية، أمنية...الخ)
   في السنوات السابقة لهذا القانون كانت عمليات تهجير الكرد تجري على قدم وساق لأسباب أمنية أو لأسباب تتعلق بالثورات الكردية، ولكن ربما كانت فكرة الصهر قد لعبت دوراً كهدف ثانوي. في أعقاب الحرب العالمية الأولى لم يُسمح للقبائل الكردية التي كانت قد هربت من مناطقها إما بسبب تقدم الجيوش الروسية أو تم تهجيرها من قبل السلطات العسكرية العثمانية لأسباب أمنية أن تعود إلى مناطقها الأصلية. بل تم تقسيم هذه القبائل إلى وحدات لا تتجاوز 300 شخص وتم تشتيتهم في بحيث لن يشكلوا أكثر من 5% من السكان. في 1924 وصف ناطق باسم الكرد ذلك لضباط في الاستخبارات البريطانية بأنه جزء من سياسة منهجية لتتريك الكرد.
   إلا أن قانون إعادة التوطين شهد أكثر تطبيقاته تشدداً في ديرسم في أعقاب قمع انتفاضتها في عام 1937. وديرسم مثال أيضاً عن نجاح وإخفاق سياسات الصهر بشكل عام. ورغم أنه كان ذات مرة أقل أقاليم الجمهورية اندماجاً، إلا أنه ساهم بنسبة غير متكافئة من المفكرين والسياسيين في البلد؛ أشخاصٌ اندمجوا بشكل جيد في الحياة السياسية والثقافية للبلد وإن كانوا بشكل عام يساريين ومنشقين على الطيف [السياسي].
أكراد مدافعون عن الصهر 
طوّر ضيا غوكالب- ولا أريد الخوض هنا فيما إذا كان كرديا "حقيقياً" أو تركياً او زازاياً- أفكار واضحة عن الصهر القومي ( أو كما سماه  istimlal  وهو مصطلح لم يلق رواجاً) للكرد في سلسلة من المقالات نُشِرت ديار بكر  Kücük Mecmua بين أعوام 1922-1923. وقد أعطى أمثلة عن قبائل تركية تكرّدت وأخرى كردية تترّكت ولاحظ عموماً أن العملية الأولى جرت في الريف حيث الثقافة الكردية أقوى والأخرى في المدينة حيث الثقافة التركية كانت أقوى. وهو لم يصغ أبداً برنامجاً عن الصهر الموجه للكرد ولكنه أوضح بشكل جلي مع أي من الثقافتين كانت عواطفه.
   ربما تكون حالة شكرو محمد سقبان  Sükrü Mehmet Sekban  مثيرة للاهتمام أكثر. وشكرو هذا قومي كردي سابق كتب في عام 1933 كراسة اقترح فيها انصهاراً كاملاً في الثقافة التركية كحل للمسألة الكردية. وكان شكرو نفسه قبل ذلك بعشر سنوات يحتج في كراسة بعنوان  Kürler Türklerden ne istiyorlar  على سياسة "المحو والصهر القسري" وطالب بحقوق الكرد في التكلم بلغتهم والتحكم بالثروات الطبيعية في مناطقهم. وفي كراسته المنشورة سنة 1933 أنكر بأنه كان للجمعيات الكردية التي كان عضوا نشيطاً فيها ( جمعية الاتحاد والترقي الكردي 1908، وهيفي 1912 وجمعية تعالي كردستان بين أعوام 1918- 1920) أية نوايا انفصالية، وأكد على الرابطة التاريخية المتينة بين الكرد والأتراك راجعاً إلى الماضي الوسط آسيوي لكلا الشعبين (كما ورد في الأصل!). وأكد على أن الثقافة الكردية كما كانت موجودة في العراق في ذلك الحين لم تؤدِ إلى شيء لأنه لم تكن هناك مواد جيدة صالحة للقراءة. وكانت فرضيته تقتضي أنه من مصلحة الأكراد أن يتخلوا عن ثقافتهم لصالح الثقافة التركية الأكثر غنىً كما تبنت شعوب أخرى كثيرة قد تبنت ثقافات الآخرين دون أن يتلاشوا (وقد ذكر بشكل خاص تبني السلتيين للغة الألمانية في حوض الراين وأصبحوا بالتالي جزئاً من أمةٍ قوية). ربما كان لدى سقبان أسباباً شخصية لهذا الارتداد- إذ كان يعيش في المنفى وأراد أن يعود إلى تركيا- ولكنه أعطى تفسيراً آخر لأصدقائه السابقين الذين انزعجوا، لأسباب مفهمومة، من هذه الكراسة.حيث شعر أن اضطهاد الكرد في تركيا سيخف إذا ما تلاشى تمايزهم الثقافي وظن أن فقدان الثقافة الكردية سوف يكون ثمناً مستحق الدفع.
   حالة أكثر تعقيداً من سابقتها يمثلها محمد عارف فرات  M. Erif Firat الذي استخدمت الدعاية الرسمية [للحكومة] كتابه  Dogu illeri ve Varto tarihi.  كان (فرات) ينتمي إلى عائلة هورميك الزازية العلوية البارزة التي قاتلت ضد الشيخ سعيد في 1925. ككل القبائل العلوية التي عاشت بين أغلبية سنية كان لهم تاريخ طويل من المعاناة على يد القبائل الكردية السنية واعتبروا النظام الجمهوري تحرراً. بدا فرات مقتنعاً بأنه وبقية القبائل العلوية من أصول تركية حقاً، وفي كتابة قدّم تاريخاً زائفا زاعماً فيه أن كل القبائل الكردية من أصل تركي. والكتاب مثل نموذجي عن ذلك الصنف من الكتابات وكان له تأثير طويل على فهم الأكراد العلويين لذواتهم.
إلى أي حد كانت سياسة الصهر ناجحة؟
هناك فرق ملحوظ بين استجابة الجركس واستجابة الكرد لسياسات تركيا الرامية إلى الصهر القومي. كانت هناك فترة قصيرة من الوعي القومي بين الجركس أيضاً في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي أثارتها بلا شك مبادئ ويلسون.
ولكن حتى عهد قريب بدا الجركس وكأنهم تبنوا بملء إرادتهم الهوية التركية ومخلصين بشدة للدولة التركية الأمر الذي نجده بين نسبة ضئيلة من الكرد.
   عدد الأشخاص من الأكراد الذين وصلوا إلى مراتب عالية في الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية التركية (قد يخطر على بال المرء هنا شخصيات مختلفة مثل يشار كمال، وكاميران إنان ويالم أرز ومحمد آغار) يشير إلى أنه هناك حالات قليلة جداً من الانصهار الناجح. من الواضح تماماً أنه ليست هناك احصائيات دقيقة يمكن الاعتماد عليها، ولكن من مقابلاتي الخاصة مع عدد من الأكراد يشير إلى أنه في عام 1960 كان الصهر القومي مع الكرد المدنيين قد نجح إلى حد كبير. ولكن منذ أواخر الستينيات حدث انبعاث تدريجي للقومية الكردية. ومن الملفت للنظر أن العملية تلك لم تحصل بين الكرد القرويين الذين انصهروا قليلاً نسبياً ولكن بالضبط بين الكرد الأكثر انصهاراً واندماجاً، والأكثر تثقيفاً. ومن السخرية بمكان أنه ربما تكون ثقافتهم القومية التركية هي التي حولتهم إلى قوميين أكراد.   
[1] ورقة مناقشة مقدمة إلى ميكا ارتيغون  Mica Ertegun الحلقة الدراسية التركية السنوية عن الاستمرارية والتغيير: إيدولوجيات الدولة المتغيرة من آواخر الامبراطورية العثمانية إلى بدايت الجمهورية التركية 1790-1930 قسم درسات الشرق الأدنى، جامعة برنستون، نيسان 24-26، 1997
[2]
[3]  التناذر بلغة الطب تعني مجموعة أعراض تظهر في وقت واحد (المترجم).
[4] في الأصل كلمة (لا) غير موجودة ولكنني اعتقد أنه من الأصح أن تكون بهذا الشكل. 
[5]
[6]







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=3729