حلبجة عنوان قضية... ورمز مأساة شعب
التاريخ: الأحد 16 اذار 2008
الموضوع: اخبار



  فوزي الاتروشي
وكيل وزارة الثقافة في العراق

كانت لحظة صـــاعقة في حياتي , حين تبلغت يوم 16/اذار/1988 بخبر فاجعة حلبجة , كنت جالساً في المقر الاوروبي للحزب الديمقراطي الكوردستاني في (فينا) عاصمة النمسا.
كان الزمن صعباً والامكانيات اكثر من متواضعة واعلام النظام الدكتاتوري يمارس التعتيم على كل شئ . رغم ذلك تحرَّكنا بسلاح التصميم والعزم والايمان . كان يتحتم ان نؤسس لحملة تضامن عالمية لان السيل بلغ الزبى والحرب العنصرية بلغت حدها الاقصى .


بقيت مع زملائي على اتصال بالشهيد (شوكت شيخ يزدين) في الداخل , كان كل شئ يوحي ان النظام مصممَّ على انهاء وجود شعب ووضعه على رفوف النسيان , وكنا بالمقابل عازمين على جعل الفاجعة عنواناً لقضية نطرق بها على الضمير العالمي .
في هذه الاثناء نقلنا الفرع الاوروبي للحزب الديمقراطي الكوردستاني بأمر القيادة من فينا الى برلين , كانت تنظيمـــات الحزب في كل القارة الاوروبية قد نزلت الى ميدان العمل الجماهيـــري – الاعلامي – العلاقاتي , ونسقنا مع الاخوة في الاتحاد الوطني الكوردستاني والاحزاب الكوردستانية الاخرى ومع مئات من المنظمات الاوروبية الحقوقية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني والاوساط البرلمانية في المانيا وفي مختلف العواصم في اوروبا , وتم طبع وتوزيع عشرات البوسترات والاتصال على مدار الساعة بمنابر الاعلام .
اصبح الانسان الكوردي اينما كان خلية نحل , وكانت الفاجعة من الغرابة والهول بحيث اثارت دموع كل انسان شريف , واذكر ان احدى مدارس (برلين) خصصت حصتها الاولى للتعريف بالكورد وبالفاجعة التي جعلت مدينة حلبجة تقفز الى الذاكرة في كل زاوية من العالم الى جنب (هيروشيما) و(ناكازاكي) . عمَّت المظاهرات والاحتجاجات وكنا نواصل الليل بالنهار لأصدار تعميمات حول عشرات الفعاليات المتنوعة . كان الهدف واضحاً وهو منع الابادة وكانت صور حلبجة المطبوعة على بوسترات رسالة اعلامية بالغة المغزى وواضحة المعالم .
رأيت بأم عيني مواطنين المان يكتبون على ظهورهم "نستحي ان نكون الماناً"كأحتجاج ضد الشركات الالمانية التي زودت النظام الدكتاتوري بالمواد الكيمياوية .
استمرت الحملة وتواصلت ضمن غليان جماهيري وشعبي وصمت عربي واسلامي ودولي رسمي ,  حتى كانت الانتفاضة المليونية عام 1991 التي حوَّلت الكورد الى "صورة متلفزة" على مدى اسابيع , وهنا حصل التحول النوعي حين انضم الخطاب الرسمي الدولي الاوروبي والامريكي الى الخطاب الشعبي , وما زلت اتذكر وزير العمل الالماني حينها وهو من الاتحاد الديمقراطي المسيحي حيث قاد مظاهرة حاشدة تضامناً مع الشعب الكوردي , وكان حزب الخضر والحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني وقوى المانية عديدة ضمن حملة التضامن التي شملت كل انحاء اوروبا .
في هذه الاثناء بذلنا جهداً مع سياسيين مثل (كلاوديا روت) و(زيكي مارش) وقيادات الاحزاب الالمانية ومنظمات المجتمع المدني وهي قوية ومؤثرة للغاية في المانيا , وذلك لجمع معلومات حول الشركات التي زودت النظام بالسموم الكيمياوية وفعلاً استلمنا من حزب الخضر الالماني قائمة بالشركات وكان لهذا الحزب واحزاب وشخصيات اخرى دور اساسي لاحقاً لأصدار احكام بالسجن بحق بعض التجار الالمان . كانت القضية الكوردية ملتهبة في كل مكان ويقال ان صورة المرأة البــــاكية على الشاشة وهي تهرب منادية بوش الاب (ارحمنا نحن ايضاً بشر) كانت ذات تأثيــــر عاطفي بالغ دعته للتفكير بعمل شئ , والاعلام في هذا العصر – بحق- يصنع القرار .
تداعت الاحداث وسافرنا في ربيع عام 1991 الى دمشق ومنها الى بيروت لعقد اول مؤتمر للمعارضة العراقية على وقع الانتفاضة وجموعها الهادرة . وكان ان حققت القضية الكوردية والعراقية انتصارها السياسي الهام بصدور القرار (688) في 5/4/1991 الذي غيَّر ميثاق الامم المتحدة لجهة استباحة التدخل لأغراض انسانية ومنع خروقات حقوق الانسان وتحجيم الطابع المطلق لسيادة الدولة وانشاء "المنطقة الامنة" في كوردستان العراق.
المادة الاعلامية الاساسية التي هيأت لنا فرصة النجاح الباهر في اجتذاب الرأي العــــام العالمي , هو الفلم التسجيلي الوثائقي عن حلبجة بعد القصف الذي عرض مئات المرات في المناسبات والفعاليات في كل عواصم العالم , وكذلك التقارير التلفزيونية الحية عن النزوح المليوني في جبال ووديان كوردستان.
تزامن عملنا السياسي والاعلامي مع القيام بحملة شاملة لجمع التبرعات السخية وارسالها الى الوطن في ذلك الزمن الردئ حيث فقر الموارد وضيق ذات اليد , كان الفرع الاوروبي للحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي كنا نقود اعماله عند حسن ظن الجميع , والمعلوم انه منذ بداية عمله اوائل ستينات القرن الماضي ظل هذا الفرع يجزل في العطاء في المواقف والايام العسيرة , وكان بعد نكسة عام 1975 رائداً في ضخ الدماء في شرايين الحزب والثورة والنضال التحرري الكوردي.
بالعودة لأصل الموضوع ومع استعادة شريط يوميات ذلك الزمان اقول ان قفزة نوعية حصلت في الحضور الكوردي في المؤتمرات العالمية فكان لنا حضور فاعل في مؤتمر الاشتراكية الدولية في برلين عام 1992 وكان ثمة فقرة خاصة حول الكورد وحينها كنا حتى ظهيرة اخر ايام المؤتمر مع الشهيد (صادق شرفكندي) الرئيس السابق للحزب الديمقراطي الكوردستاني في ايران , الذي اغتيل مساءاً في مطعم (ميكونوس) اليوناني في برلين . واذكر ان رئيس وفد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني لم يتمالك نفسه وبكى في الاذاعة الالمانية . بعد ذلك واظبنا على الحضور في مؤتمرات الاحزاب الاوروبية , واذكرمنها حضورنا الى مؤتمر حزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني وحزب (باسوك) اليوناني والاجتماع  الاستشاري للاشتراكية الدولية في البرتغال ومؤتمر حقوق الاقليات في قبرص عام 1994. وعشرات المؤتمرات الدولية والندوات السياسية ومؤتمرات المعارضة العراقية . كانت الساحة ملتهبة عنفواناً ونشاطاً وكنا اقسمنا ان نتحول الى جسر للعبور الى ضفاف الوطن الخضراء , وكان لنا ذلك.
ما زالــــت قضية (حلبجة) لغــــــاية الان تتفاعل في ساحـــات اوروبية عديدة ولا سيما المانيــا , فالنائبة البرلمانية الالمانية (ئولي اوليكا) قدَّمت مرتين مساءلة قانونية في البرلمان الالماني وهي آلية تجبر الاحزاب المشاركة في البرلمان على عقد جلسة مناقشة وابداء رأي بهذا الصدد , وكان كاتب هذا المقال على اتصال بها لتنسيق الامور وهي تصر على استثمار الفاجعة للوصول الى المزيد من المساعدات التنموية لضحايا (حلبجة). وقبل ايام اعلن نجل احد تجار السلاح الكيمياوي الالمان في البرلمان الالماني تقديم الاعتذار للشعب الكوردي بأسمه وبأسم والده الذي توفي عام 2002 وكان احد المتورطين في القضية , وذكر ان وصية والده هي تقديم الاعتذار لما شعر به من وخز للضمير وتمزيق في العواطف.
وستبقى حلبجة عنوان قضية ورمز لمأساة شعب مصمم على انتزاع حقه في الخبز والحرية.







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=3520