سنجار.. والخبز الحار
التاريخ: الأربعاء 16 كانون الثاني 2008
الموضوع: اخبار



  كفاح محمود كريم
 
    ربما كان القمح المنتج في سنجار من أقدم وأكثر أنواع الحنطة جودة في إنتاج الخبز، وربما كان هذا الإنسان الذي يعيش الآن فوق أديم سنجار هو حفيد أكثر من سبعين ألف سنة في العمق الزمني للحياة وأنتج أول حلقات الزراعة في تاريخ البشر، وربما أيضا ولتراكم قيمي وأخلاقي عالٍ كان الخبز السنجاري الذي لا يكاد يبرد ذا نكهة ومذاق عاليين، فهو الساخن دوما والخارج من تنوره المتقد فور وصول الضيف في أي قرية أو بيت من بيوت المدينة وأطرافها، وتلك والله أجمل ما يميز سكان المنطقة على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم وأصولهم ومستويات معيشتهم.


    سنجار واحدة من اعرق المدن الكوردستانية والعراقية بجذورها الممتدة عبر التاريخ الى ما وراء ما قبل التاريخ، حيث هجع إنسانها الأول في باطن أكثر من سبعين كهفا في وادي شلو المثير للجدل، في تخوم جبلها الممتد لأكثر من سبعين كيلومترا في سهلٍ يعانق الصحراء والسهل الممتد الى أقاصي كوردستان الغربية في عفرين وقامشلو. 
   وإذا ما صدق ألآثاري الأمريكي سيتون لوئيد في تحقيقاته وتنقيباته الأثرية في عام 1936 حينما زار سنجار باحثا عن أجداده الأوائل، ليكتشف هناك أدوات ولقى تدله الى الحنطة والشعير والقرية والاستيطان، في سابقة لإنسان سنجار الأول وشقيقه في (زيوه جه مي)، الذي ابتدأ خطواته الأولى باتجاه الشمس والحضارة قبل سبعين ألف سنة كما توقع سيتون لوئيد!
   في هذه المدينة تختلط تضاريس متناقضة في أجوائها ومناخاتها وطوبوغرافيتها، لتمنحنا بانوراما رائعة من التكوينات الإنتاجية في الزراعة وملحقاتها والحيوانية بأصنافها ونوعياتها، ولتعطينا أيضا أشكالا جميلة ومثيرة أحيانا للتركيبات السيكولوجية والسلوكية للسكان في هذه التضاريس المتناقضة.
   فمن الصحراء التي تمتد جنوبا حيث البدو الرحل من العرب والكورد، وعشرات القرى القريبة من بعض الينابيع أو واحات الشتاء والربيع حول مدينة البعاج التي تقع الى الجنوب من سنجار حوالي 35 كم، والتي تمتاز في معظمها بتربية واحدة من أفضل أنواع الأغنام في المنطقة إن لم تك في العالم والتي تعرضت الى عمليات تهريب رهيبة على أيدي المهربين والتجار الى خارج العراق، ولعل عمليات التهريب التي كان يقودها سرا على حسن المجيد وأخيه عبد حسن المجيد وأقربائه عن طريق رجاله وعملائه في أواسط التسعينات من القرن الماضي والتي تحدثت عنها الصحافة الإسرائيلية دونما ذكر لأسماء المهربين واكتفت بالقول بوصول عشرات الآلاف من الأغنام العراقية الى إسرائيل، بينما كانت مجاميع أخرى تقوم بتهريب قطعان كبيرة الى دول الخليج والسعودية.
  والى الشرق والغرب من المدينة حيث السهل الممتد الى أطراف الموصل من جهةٍ والى الحدود الدولية مع سوريا من جهةٍ أخرى، والمعروف بخصوبة تربته وإنتاجيته العالية للحبوب، تنتشر الكثير من القرى التي تعتمد تربية الحيوانات والزراعة فيما يعرف بــ (الماطورات) وهي مزارع صغيرة تعتمد الآبار السطحية في الإرواء وتنتشر فيها بساتين التين والزيتون وأنواع أخرى من الفاكهة والمحاصيل الحقلية الموسمية كالبصل والثوم وأنواع الخضراوات الصيفية والشتوية.
   والى الشمال حيث جبل سنجار، ذلك الجبل المثير في موقعه وسط هذا السهل العظيم، يأتي امتدادا ربما لسلسلة جبال حمرين التي تشكل حدود كوردستان الطبيعية، ويمتد لأكثر من سبعين كم من الشرق الى الغرب حيث يتلاشى عند الحدود الدولية مع سوريا، ورغم شحة مياه هذا الجبل قياسا الى طوله وارتفاعه وعرضه أيضا إلا أن الفاكهة التي ينتجها تكاد تكون الأكثر جودة في المنطقة إن لم تكن في كوردستان والعراق جميعا وبالذات التين السنجاري المعروف بجودته ولذته، إضافة الى أنواع أخرى من الفاكهة والأعناب والزيتون، كما يمتاز عسل هذا الجبل بمذاق مثير بلذته ونقائه ونكهته ويشتهر في مجمل كوردستان والعراق ودول الخليج.
   سنجار إذن مدينة مثيرة للجدل والفضول والمميزات، بل ومدينة طالما كانت ملاذا آمنا للكثير من الناس الذين تركوا أوطانهم لأي سبب كان، وللمغامرين والتجار ورجال الحرف والمهن والصناع ودعاة الدين والإصلاح.
  ويذكر المؤرخون بأن سنجار كانت في كثير من الأوقات والمحن ملاذا لأمراء وملوك وقادة، كما كان يحصل في صراعات أواخر الإمبراطورية العباسية ودويلاتها في الموصل وسنجار ودمشق وحلب واربيل وغيرها، حيث يهرب الكثير من المتحاربين وممتلكاتهم الى هذه المدينة وأهاليها ليستقروا فيها آمنين مستأمنين على أموالهم ونسائهم.
     وهكذا حال الكثير من سكان سنجار الحاليين الذين قدم أجدادهم أو جدهم الأول قبل قرنين أو قرن أو ما بينهما من بلاد الشام أو من آسيا الصغرى أو من بقية أنحاء كوردستان والعراق كوردا أو عربا أو آخرين، فاحتوتهم المدينة وسكانها الأصليين ومنحتهم هويتها واصالتها، حتى لا تكاد تفرق بين سكانها الأصليين ومن قدموا إليها في الأزياء والعادات والتقاليد وحتى في الفلكلور.
   حتى وصل العنصريون إلى الحكم في مطلع الستينات من القرن الماضي وبداية عمليات التعريب سيئة الصيت بشكلها الرسمي والمبرمج والتي بدأت باستقدام الغرباء إلى المنطقة وتمليكهم آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية حول المدينة وأطرافها حتى حصلت انتكاسة 1975 م حيث  دمر العنصريون كل شيء وأحالوا تلك القرى الزاهية إلى خرائب ودمار في انفالاتهم التي بدأت هنا على سفوح جبل شنكال وقتلوا كل من عارض أو رفض الانصياع لعاصفة الشوفينية والعنصرية التي اجتاحت شنكال بعد انتكاسة آذار 1975، وجمعوا الآخرين في مجمعات أشبه ما تكون بمعسكرات الاعتقال النازية إبان الحرب العالمية الثانية.
   وبدأوا بفرض برنامج التغيير القومي واللغوي والثقافي عليهم وتفريغهم تدريجيا من كينونتهم بمنع تداول لغتهم الكوردية الأم، ومنع استخدام أسمائها للمواليد الجدد، بل العمل على تغيير الكثير من الأسماء الكوردية للقرى والأحياء وحتى الأشخاص، وصولا إلى المنع التام لأي شيء يتعلق بالكوردية لغة وثقافة وسلوكا.
  وخلال ثلاثة عقود ونيف، مارس العنصريون أبشع أنواع التعذيب والحصار والاضطهاد العرقي والديني والمذهبي للكورد في شنكال لتغيير قوميتهم وثقافتهم وأسمائهم وحتى اضطرارهم لاستبدال أنسابهم وأجدادهم بأجدادٍ لعشائر عربية أو انتماءٍ لتلك العشائر مقابل اعتبارهم مواطنين يحق لهم العيش والتملك والتعليم أو الرحيل خارج شنكال مع مصادرة أموالهم وممتلكاتهم ومحاربتهم في أرزاقهم وحياتهم وتعليمهم في المدارس والجامعات.
  إن هذا الشعب وهذه المجموعة من شعب كوردستان والتي تعرضت خلال قرون إلى حملات رهيبة لأبادتها سواء ما كان منها بسبب ديانتها الايزيدية أو قوميتها الكوردية، نهضت عشية سقوط النظام وكأن شيئا لم يكن من سياسات التشويه والتغيير القومي فصدحت الحناجر بكورديتها وتغنت تلك الجموع الهادرة في العاشر من نيسان 2003 وهي تستقبل قوات البيشمه ركه بنشيد ( ئي ره قيب ) القومي، لتعبر عن مكنونات هذا الشعب وأصالته ولتعيد للمدينة وجهها الحقيقي وهويتها الكوردستانية التي عمل النظام على تشويهها واغتيالها عبر أكثر من ثلاثين عاما من سياسة القهر والتطهير العرقي والإبادة الكلية لثقافة شعب عريق.
   وخلال أشهر من سقوط النظام استطاع هذا الشعب الأصيل والمتحضر بسلوكه أن ينظم انتخابات حرة ونزيهة لمجلس محلي للقضاء في أكتوبر 2003 لينتخب بعد ذلك قائم مقاما بالانتخاب الحر والمباشر في أول ممارسة من هذا النوع في تاريخ العراق بأجمعه منذ تأسيسه، ولتظهر حقيقة القضاء والمدينة التي أصر النظام العنصري السابق على تعريبها وإلغاء هويتها الكوردستانية، فجاءت نتائج الانتخابات في أكتوبر 2003 لتؤكد هوية شنكال الكوردستانية الحرة.
  ولأول مرة في تاريخ هذه المدينة تفتح أكثر من مئة وخمسين مدرسة للتدريس باللغة الكوردية من الصف الأول، كما تم افتتاح ثانوية كوردستان لأول مرة أيضا في المدينة بعد عودة كثير من العوائل التي تم تهجيرها في منتصف السبعينات من القرن الماضي. ولأول مرة أيضا يتم تدريس منهج الديانة الايزيدية لمعتنقي هذه الديانة في كل مدارس القضاء.
   لم يرق هذا التطور والتحول في حياة الناس بالمدينة وأطرافها وخصوصا وهي على أبواب العودة إلى أحضان الوطن في الإقليم على خلفية تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي الدائم فبدأت برنامجها ألتدميري الذي مارسته طيلة ثلاثة عقود في كوردستان وبلداتها من سنجار إلى خانقين مرورا بكركوك، فكانت ضربتها الأولى قبل انتخابات كانون ثاني 2005 بيومين فقط لتحاول إيقاف التصويت للدستور الدائم والذي يعتبر صمام أمان العراق الاتحادي والديمقراطي والخطوة الأولى لعودة كل هذه المناطق إلى الإقليم. ثم عادوا ثانية في الرابع عشر من آب لينفذوا جريمتهم الكبرى بالتعاون مع مخابرات دولية إقليمية ذات صلة ومصلحة في إبادة الكورد من الايزيديين والمسلمين على حد سواء، وإيقاف مسيرة كوردستان والعراق في التنمية والتطور وتعويض سنوات الدكتاتورية في التقهقر والتخلف بما يدفع العراق نوعيا إلى الأمام. فقد أرسلوا أربع شاحنات مفخخة بمئات الكيلوغرامات من المواد الشديدة الانفجار إلى اثنين من المجمعات القروية التي كانت قد سلخت في انفلة شنكال عام 1977 وقد حانت عودتها إلى القضاء ثانية، لتحيل المجمعين خلال ثواني إلى ما يشبه المناطق المنكوبة بالزلازل ولتقتل مئات الأطفال والنساء والشباب وتجرح وتعوق  مئات أخرى، وتدمر مئات البيوت الطينية وتحيلها إلى تراب كما فعلت سابقا في إزالتها لعشرات القرى في سبعينات القرن الماضي وآلاف القرى في ثمانينات نفس القرن في حلبجة وكرميان وبهدينان، مستخدمة ذات الأسلوب والعقلية والحقد الأسود منذ فرمانات العثمانيين وحتى أنفال البعثيين، لكنما دون جدوى فعقارب الساعة لن ترجع إلى الوراء وسنن الطبيعة والحياة لن تقبل هذه الهمجية ثانية أن تعود أو تسود.
  حقا إنها الفرمانات التي أنتجت الأنفال وها هي اليوم تتحد لتنتج هذا الحقد الدفين والقسوة الوحشية لأولئك الذين لا يفهمون لغة الحضارة والإنسان فيتقهقرون إلى الحضيض بينما تندفع شنكال وشقيقاتها من مدن الشمس إلى الذرى رافعة رغيف خبزها الحارالى القادمين من كل صوب وحدب إشارة للحب والسلام والجود.







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=3277