الازدواجية في السياسة أو (النفاق السياسي)
التاريخ: الأربعاء 24 تشرين الاول 2007
الموضوع: اخبار



  محمد قاسم
ibneljezire@maktoob.com

ربما تستند السياسة في سلوكها، في ظنها ،على مشروعية تستند –ربما- إلى مفهوم (قداسة الحق) في معاداة الذين يحاولون التجاوز على هذه القداسة في الحق، عبر عدوان على النفس البشرية–مهما كان شكله،وذروة هذا العدوان هي الحرب–
فمن أبسط وأولى حقوق الإنسان ( المحافظة على البقاء)وهذا نوع من تجسيد قداسة الحق.
وربما النوع الآخر من تجسيد الحق، هو في (الوطن) باعتباره الحاضن لحالة (استمرار البقاء) إضافة إلى العيش، والأمان، وعناصر الفكر والاعتقاد والعمل...الخ.


 فكان لابد من اللجوء إلى بعض الحيل والخداع -عمليا- للوصول إلى هذا الحق –المقدس- واعتبار ذلك الأسلوب وسيلة مشروعة في الدفاع عن الحق. ((الحرب خدعة))كما في الحديث.

كما أن الأجهزة الاستخباراتية التي تعتمدها الأنظمة،وتمدها بقسط كبير من ميزانية المجتمع –أحيانا بما لا يقنع-... ما هي سوى واحدة من التعبير عن مشروعية الحيل والخداع التي تتبعها هذه الأجهزة عبر جميع سلوكياتها التي تبلغ التصفية الجسدية، وزرع الفرقة بين أطراف مختلفة داخل صفوف –المفترض-خصما أو عدوا..؟! وغير ذلك.  
ولعل قراءة تاريخ الصراع بين البشر على مستوى الأفراد ومستوى الجماعات (الشعوب والأمم) ستتيح لنا الخروج باستنتاج –بل هو تقرير واقع- أن الصراع شأن طبيعي وملازم لطبيعة التكوين-الحياة- في الكون.وهذا ما تبناه عدد من الفلاسفة، لعل أبرزهم فلاسفة الماركسية عبر مفهوم ((صراع الأضداد)). ولكن النظرية موجودة قبلهم بعشرات القرون –وربما مئاتها- فنظرية ((الخير والشر)) سائدة منذ بدء الخليقة في الوجدان الشعبي، وتبلورت على أيدي مصلحين ومفكرين وأنبياء..لتشكل رؤية متميزة في ميثولوجيا الشعوب عبر التاريخ بأشكال مختلفة.
الخير والشر متضادان يتجه كل منهما للانتصار على الآخر –وعادة الخير يغلب الشر في سيكولوجية وثقافة البشر التقليدية-ربما كانت الأفلام الهندية التقليدية خير نموذج لذلك.
 ولعل هذه الثنائية، تبرز كنظرية مميزة، لدى زردشت-نبي أو مصلح- في صورة كل من (آهورامزدا) إله الخير و(اهر يمان) اله الشر.[i].وان كانت طبيعة الصراع بين الخير والشر هنا تختلف عن طبيعة الصراع لدى الفلسفة الماركسية. ففي الحالة الأولى الصراع يتجه إلى إلغاء المقابل،الخير يرمي إلى إنهاء الشر،والعكس صحيح وهو تحليل أخلاقي، في حين أن الصراع لدى الماركسيين هو حالة تركيب، ينتج عن صراع الأضداد -في ذات الأشياء المادية أساسا- يؤدي إلى تطور حتمي-أيديولوجيا الديالكتيك التاريخي والمادي- وهو تحليل فلسفي،ولا ينبغي أن نغفل إن الديالكتيك المادي هو قلب للديالكتيك المثالي الذي ابتكره هيغل الألماني(الأطروحة –الطباق-التركيب) باعتراف ماركس نفسه.
والمهم بالنسبة إلينا هو أن حالة التناقض أو التضاد في حياة البشر، أنتجت مفاهيم –على صعيد الفكر السياسي- تقر باللجوء إلى ازدواجية الموقف والسلوك،دفاعا عن الحق المقدس- عند البعض على الأقل،  للوصول إلى الحق،حق الدفاع عن الوطن،والمعتقدات والعقائد والقيم والمبادئ ... المقررة لدى كل فرد أو جماعة –شعبا أو امة-..!
فهل هذه المشروعية تخص مرحلة ثقافية من تاريخ البشرية، أم هي ثقافة مرافقة للوجود البشري منذ القدم..؟!
وهل تحتفظ هذه المشروعية بكونها –فعلا – حق في الوقت الحاضر،وفي المستقبل، باعتبارها مطلقة، كقيمة ملازمة لطبيعة التكوين البشري التي تحتضن واقع الصراع كبنية دائمة فيها..؟!
ألا يمكن لتطور الوعي البشري وارتقاء القيم لديه، أن يحيل فكرة الصراع –كواقع مفروض لا مفر منه- إلى نوع من التكامل بين البشر في صيغة ما –العالمية،الكونية،العولمة...- عبر تكامل وتآلف الملامح، والمحطات الأساسية في ثقافة البشرية..من خلال رسالات الأنبياء، و جهود المصلحين والتي غلّبت قيما كونية, ربما وثيقة الأمم المتحدة واحدة مهمة من تجليات خلاصتها - وقد وقعت عليها جميع أنظمة العالم.. وان وجد بعض تحفظ  لبعضها على مواد ما منها..!
 المهم إن هذا يمثل القبول بقيم كونيه مشتركة،ينبغي أن تسود بين جميع الشعوب على وجه الأرض, وهذا اتجاه لصالح الخير- إن جاز التعبير – على حساب البشر .
أو هو - على الأقل- يمثل تطلعا ًايجابياً لوحدة مصير البشرية،ومسؤولية الجميع حيال المساهمة في إيجادها، و الارتقاء بها دوماً.
 و الأمر نفسه يوجه نحو إلغاء – أو هدم – مشروعية النفاق السياسي (أو ازدواجية الموقف و السلوك سياسياً – وبضمنه الحرب – تجاه الخصم ( أو العدو ).
لأن القيم -باعتبارها كونية هنا – تصبح شاملة الخصم ايضا  - ومن ثم فإن الخصومة الأزلية  تنتفى, ولكن تبقى قضية لا بد من معالجتها، وهي إيجاد آلية (ميكانيزم) التعامل و التفاعل على أساس المشترك الكوني من القيم والمبادئ . وبالتالي  فلا يجوز لأحد , فرداً أو جماعةً إلغاء الآخر , وهذا الإلغاء ((المشروع)) وفق القيم التقليدية، للخصم  واحد من مبررات ضرورة النفاق السياسي ((المشروع)).
ولا يجوز لأحد  أن يعتدي على أوطان أحد – و هذه ((مشروعية الاعتداء على الآخر في المنظومة القيمية التقليدية)) واحدة أخرى من مبررات وجود النفاق السياسي ((المشروع)).
ولكن  من جهة أخرى لا يجوز أن تكون حدود أوطان ما حاجزة لتدخل من جهة لها شرعيتها الكونية – هيئة الأمم المتحدة مثلا- للدفاع عن حقوق الإنسان المنتهكة ضمن حدود الوطن – تحت أي اعتبار – وخاصة الأقليات (أو المكونات المختلفة دينيا أو عرقيا أو مذهبيا..).
و هذا  يوجد نوعاً من التعقيد  في العلاقة بين المفاهيم والقيم - ربما تكون مبرراً بشكل ما، لممارسة النفاق السياسي ((المشروع))..!
فمثلاً:
يرى العسكر التركي- وربما النظام التركي كله- ضرورة تحجيم كردستان العراق، أو القضاء عليها، لضمان الأمن القومي التركي , و يتجاهل وجهة النظر المقابلة،وهي ضرورة إيجاد طريقة منصفة  لضمان حقوق الكُرد - سواء ضمن الدولة التي تسيطر عليهم تعسفا, أو لإيجاد دولة خاصة بهم عبر مبدأ تقرير المصير- المشترك الإنساني –خارج النفاق السياسي .
 و يبرر النظام في سورية و إيران، قمع و كبت الكُرد في دولها، بل وإلغاء  وجودهم في إطار ضمان الأمن القومي لهم، متجاهلين الحق الكردي في الحياة وفق معايير يقرها ميثاق الأمم المتحدة- وقد وقعت عليه دول المنطقة جميعا إلى جانب دول العالم- إقرارا بصوابها وبكونها حقا-وهنا النفاق السياسي في ذروته!
في الظاهر (في الواقع،في الموقف الرسمي المعلن) توقيع على ميثاق الأمم المتحدة بكل ما فيها من أحكام إنسانية،وتبجح باستمرار ((إننا من المساهمين الأُول لهيئة الأمم المتحدة)) أما في الواقع، وفي التطبيق، وفي الممارسة العملية..،فليس فقط تدير  الظهر للمضمون الذي وقعت عليه،بل وتنتهكه بفظاظة وبأشكال مبتكرة حتى..!!!
وما هو المستند في ذلك؟.
 إنه القوة التي تمتلكها تجاه مواطنيها الكرد وغيرهم..!
 فلولا القوة التي تمتلكها الأنظمة التركية، و الفارسية، والسورية، والتي عبرها تضفي شرعية على سلوكياتها المخالفة لقيم ومبادئ حقوق الإنسان .. مع الكرد،لولا هذه القوة  لما استطاعت هذه الدول أن تتخذ من هذه المواقف والسلوكيات، أساسا لممارسات - هي تحتج عليها عندما يتعلق الأمر بمصالحها. تكيل بمكيالين –كما يقال-.فتركيا تهتم بحقوق التركمان في كردستان العراق وتتخذ الأمر ذريعة للتدخل في شأن داخلي عراقي،ولكنها تستكثر –حتى على الأمم المتحدة للتدخل فيها، دعما لحقوق الملايين من الكرد مثلا،والأمر ذاته بالنسبة لكل من إيران وسوريا وغيرها... وحزب الله في لبنان يتخذ من مبررات قناعاته الخاصة-بل مصالحه الخاصة،لأن القناعات والمصالح لا تتطابق دائما -  حجة للخروج على الدولة اللبنانية،وتتجاهل وجودها القانوني،في تحالف سياسي يخالف – ربما المصلحة اللبنانية- مع سوريا وإيران،ولكنه يستكثر على الكرد في العراق، وهم ليسوا ،أساسا، جزءا من العراق، لتتدخل في شؤونهم بنوع من الخروج عن مألوف الخطاب الدبلوماسي في كيل الاتهامات لهم لأنهم يطالبون بحقوقهم المشروعة والمغتصبة تاريخيا في العراق..؟
كما أنه  يخلط – هنا – بين ما هو ديني وما هو سياسي في توليفة خاصة به للنظر إلى الأمور انسجاما مع مصالحه السياسية..!
 ولكن معيار القوة هذا –إذا اعتمد كقيمة ثابتة-ألا يبرر  لأمريكا أيضا أو غيرها –مثلا- أن تمارس لعبة المصلحة تأسيسا على  مشروعية ما هو سائد لدى الجميع، بفعل ما تراه حفظا لمصالحها وأمنها القومي ((وفق النفاق السياسي ((المشروع)). فتهاجم العراق وأفغانستان، وربما إيران وسوريا أيضا..
ما الفرق؟
إما أن نعتمد المبادئ مصدرا للشرعية وهو موضح ومفصل في ميثاق الأمم المتحدة، وما على الناس إلا تنفيذ ما فيه...وهذا –واقعيا غير محقق -. وإما أن نعتمد القوة معيارا للمشروعية-أمر الواقع- وفي هذه الحال، يمتلك كل قوي مشروعية الدفاع عن مصالحه المفترضة –تحت أي مسمى-.
إذا لابد من البحث عن مشروعية النفاق السياسي في السلوك المنضبط والمحدد بقوانين ومبادئ وقيم...
وفي هذه الحال لا يعود المسلك أو التفكير،نفاقا سياسيا،بل يصبح الأمر حقا مشروعا تواضع الناس جميعا عليه وعلى الجميع التقيد به لضمان حياة طبيعية سلسة يعيش الجميع فيها بأمان وسلام، و إلاّ..!
------

* منشور في موقع ثروة - سوريا إلى أين

--------
1- ((أهورا مزدا (الإله الحكيم-الكبير) الموجود منذ الأزل عالم النور والظلام ،ويخلق في عالم النور كائنات روحية/فرافاشي/ وهي أرواح نقية مجردة تسبح بحمده وتقوم بعبادته،ويخلق أهريمان في عالم الظلام،فعالم النور رمز للخير وعالم الظلام رمز للشر،والعالمان متجاورين في هدوء وهما لا متناهيان من جوانب ثلاثة ولكن كل منهما يحد الآخر من الجانب الرابع،عالم النور في الأعلى،وعالم الظلام في الأسفل وبينهما فراغ مملوء بالهواء وفي حين أن أهورا مزدا غير محدد بالزمان،إذ لا تاريخ لوجوده،ولا نهاية لبقائه،لكنه محدود باهريمان في المكان لفترة محدودة ((وبعد أن ينتصر على أهريمان)) يصبح لا نهائيا في الزمان والمكان،أما أهريمان فمحدود في الزمان والمكان)) نشرة المثقف التقدمي –تشرين الأول 1997-مقال قصة الخلق في الديانة الزرادشتية- فارس عثمان







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=2841