رحيل المفكر السوري الثلاثيّ الخيبات : طيّب تيزيني
التاريخ: السبت 18 ايار 2019
الموضوع: اخبار



ابراهيم محمود 
  
رحل صاحب مشروع " من التراث إلى الثورة " المعلَن عنه في اثني عشر جزءاً، المفكر السوري، والأستاذ الأكاديمي الجامعي طيب تيزيني " 1934-2019 " عن عمر يناهز الـ 85 سنة، وهو في صراع ليس مع المرض ، وإنما مع الواقع الذي ذاق فيه أكثر مما هو مر في سوريا فحسب، وكقطب ثقافي عربي وسوري معاً، تاركاً قرابة ثلاثين عنواناً بحثياً يلتقي فيه السياسي والفكري والنقدي والتاريخي، مثار جدل هنا وهناك، إلى جانب مشاركات فكرية وغيرها، إنما صاحب خيبات ثلاث لم يتحرر منها حتى النهاية.



وقبل التوقف عند هذه القامة الفكرية، بغضّ النظر عن أي ملاحظة نقدية توجَّه إليها، أنوّه إلى أنه كان أستاذي الجامعي في قسم الفلسفة " دمشق " في سبعينيات القرن الماضي، مدرّساً لمادة " الفلسفة العربية " حيث لم يكن يخفي وداً في التعامل مع طلابه، في مجاله الدرسي، وإدارة الحوار، وإن كانت شخصيته تنمّ عن تشدد في الموقف بداية ونهاية، فهو كسواه من أكاديميي الجامعة، لم يخلّفوا طلاباً ذوي عقول منفتحة، إنما نفوس منبطحه ثقافة وتفكيراً وإرادة حرة ، وقد أشرت إلى هذه النقطة في مقال طويل ومنشور في مطلع الألفية الجديدة، وفي الصحافة المحلية عينها.
ترك آثاراً وأثار نقاشات في الداخل والخارج، وهو يوائم بين السياسي والفكري، وبالعكس، وأحياناً كان السياسي، إلى درجة الإيديولوجي يغلب الفكري، أو يتحكم بمساره البحثي، من خلال منهجية متعالية رغم توصيفها بالجدلية المادية.
طبعاً من حق الرجل المتوفى حديثاً أن يشاد بشخصيته البحثية- الفكرية، وأهليته الكبرى في إدارات الحوارات، والرد على منتقديه، إلى درجة تسفيه آرائهم وحتى السخرية اللاذعة منهم" نذكّر بمسلك ماركس- أنجلس، في كتاباتهم الباكورية: الشبابية، كما في " العائلة المقدسة " لم لا، وهو الذي درس في ألمانيا ونال شهادة الدكتوراه فيها ، حول موضوع " رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" عام 1971 ، لتصبح هذه الأطروحة، وإلى حد كبير الخميرة الفاعلة في مشروعه البحثي العمري  المستهَل به، والذي لم ينجَز منه سوى ستى أجزاء، ليتفرغ للكتابات في موضوعات سجالية ومنهجية الطابع وحدثية يومية، مع تطعيم فكري فلسفي هنا وهناك، كما في :
حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث، الوطن العربي نموذجاً، دار دمشق، دمشق 1971، ثلاث طبعات.
روجيه غارودي بعد الصمت، دار ابن خلدون،بيروت، 1973.
مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة من 12 جزءاً، دار دمشق، 1982.
ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده و فرح انطون / تأليف فرح أنطون ؛ تقديم طيب تيزيني، دار الفارابي، بيروت، 1988.
في السجال الفكري الراهن : حول بعض قضايا التراث العربي، منهجا و تطبيق ، دار الفكر الجديد، بيروت، 1989.
على طريق الوضوح المنهجي – كتابات في الفلسفة والفكر العربي، دار الفارابي، بيروت، 1989.
بيان في النهضة والتنوير العربي، دار الفارابي، 2005.
والكتاب الأخير هنا، ينوَّه إلى آخر ما عرِف به ككتاب مستقل.
ماذا عن الخيبات الثلاث التي جعلتها صفة عنوانية رئيسة عنه؟
ذلك هو المهم، بالنسبة للتعامل مع أي اسم، وما يحمله الاسم من قيمة واعتبار، وليس مجرد اسم له موقعه الأكاديمي المحمي، وجمهوريه المؤسساتي والخدمي أو الموجَّه بالصوت والصورة، فتلك آفة كبرى، تعرَف بها المنطقة، وفي العالم العربي مثالاً، ولعل تيزيني كان يعيش افتتان هذا الجانب بتأثير من منطلقه المنهجي ذي اللفحة الماركسية المعرَّبة، وتأثره بالأسلوب القدحي إزاء من يعتبره " يناه منه " أو من ألزم نفسه بحمايته: طرفاً، أو فكراً ما :
الخيبة الأولى، وهي تتمثل، في أنه سعى جاهداً إلى إدخال الفكر العربي، في منحى تاريخ واسع، دون الالتزام به، في أطروحته والجزء الأول من مشروعه الاثني عشري " رقم الكمال: الدزّيناتي "، رغم دعواه الماركسية، ونقده لسياسات الاستشراق الاستعماري الطابع، حيث مد بمفهوم هذا الفكر إلى أعماق تاريخ المنطقة، جاعلاً منه عربياً" هنا، بم يختلف عن مدوني التاريخ العربي- الإسلامي، في اعتبار كل ما وصل إليه الإسلام عربياً، والسلطة عربية، وقد جعل من السامية عربية، وقد بلغ الطُّعم التوراتي بصدد مزعم العرق السامي كما دشَّنه سفر " التكوين " التوراتي، وافتتن به العرب فقهاء إسلام ودين، وكتبة تاريخ وأنساب...الخ.
الخيبة الثانية، عندما تقرَّب من البعث، وأصبح في مقام رفيق حزبي بعثي، مشاركاً في أمسيات عقائدية توجيهية في المحافظات السورية، حتى أن لقب " مثقف الشبيبة " كان عرِف به في سبعينيات القرن الماضي، عند القيام بجولات عقائدية تثقيفية مؤطرة وفي المراكز الثقافية وغيرها.
ذلك ما قلَّل من بنيته الفكرية، ونظرة الآخرين الثقافية إليه، وهي خيبة لعلها تلاقت مع الأولى، جهة التشدد في الطروحات الفكرية ذات المد العقائدي" الإيديولوجي " وأنا أنطلق في ذلك من معيش ثقافي مباشر مباشر معها في الأمسيات الثقافية المعدة على نطاق واسع، جهة المتابعة والنقاش. لعل آخر هذه اللقاءات، زيارته إلى المركز الثقافي في " قامشلو " قبل انفجار الأوضاع في سوريا، ونقده الموجه إلى عموم الكتاب وجمودهم الفكري، ومن ثم رهانه على المهمشين، وتلك كانت " الفأرة التي خرجت من عطسة الجبل، أو وقد اعتصر الجبل، ناسياً موقعه، وما يخص جدة هذه الأطروحة وغرابتها بالنسبة إليه، ونسفها كذلك لعموم ما شدد عليه سالفاً، وقد أصبح خارج المؤسسة الحزبية، متجاهلاً طبيعة ما يشير إليه، كما ذكَّرته بذلك وقتذاك، وبنوع من السخرية تحديداً.
وربما نكون هنا، إزاء الخيبة الثالثة، وكيف أنها تلاقت مع الحديث السوري الكبير، واعتقاده أن ما يجري يمكن أن يسفر عن توجه مجتمعي جديد، أبعد من نطاق طاعون " إفساد من لم يفسَد بعد " المقولة التي كررها كثيراً في لفاءاته، وفي كتاب له بهذا العنوان، فاعتقل إثر مشاركته في مظاهرة دمشقية، وأهين، ولم يظهر على شاشة التلفزة إلا قليلاً فيما بعد، كما لو أن الصفعة/ الإهانة الأمنية أيقظته من سباته التاريخي بخيباته الثلاث، ليدرك حجم الواقع الكارثي، فركن إلى الصمت، لعلع صمت نادمه وآلمه وأحجمه عن الخروج الفعلي إلى الخارج حتى رحيله الأبدي حديثاً.
لقد كان هناك خلط كبير بين اشتهاء القراءة الفلسفية والتوحم بها، إن جاز التعبير، وتوسيع نطاق الواقع القائم على الثبوتيات والأوثان الإيديلوجية الرهيبة، والرغبة المناصبية والدخول تحت ظلال ذوي السطان تعبيراً عن نزوع فكري قومي عربي: عروبي كثيراً، وحزبي بعثي، أو بمنطق " الأمة العربية " و" الوطن العربي " الأبدي.
وليس لأن الفكر لا يعرف ثوابت، ولا أسس، كونها من جهة نسبية، ومن جهة أخرى، تشكو زيفاً بنيوياً، وتتطلب الكثير من المتابعة وعدم الانجراف في لجة التعابير ذات الطابع الثقافي الشعبوي والسلطوي.
كان لديه خلط، وبدافع " الإخلاص المزعم " للوطن التاريخي، والأمة الخالدة، بين المنهج الجدلي المادي، وافتقاره المستمر إلى ما يكشف عن محدوديته، وقابليته المستمر للتحول والاختلاف، فيكون يومه ليس كأمه، وغده، ليس كحاضره، وهو داء جل النشطاء الفكر العربي عموماً، والأفكار التي تخص ما هو عربي وفي الشأن السياسي، وهو الذي كاتن يرى سدرة منتهاه في الممارسة الحزبية السياسية، كما لو أنها عكازته، ليصبح أعرج التفكير كثيراً.
كان لديه خلط كبير وكبير هذه المرة، وبناء على ما تقدم، على نسيان مسيرته الحياتية والفكرية كما لو أنها عصية على النقد، كما ينبغي، ودحضها كلياً، إن تطلبَ النقد الدقيق ذلك، وبنية المستجدات وآفاقها، كما في تطرقه إلى المهمشين ودورهم في إصلاح الواقع أو تثويره، ودون أن يحدد من يكون هؤلاء، فهم أنفسه تنوع جنسي، نوعي، أو عرقي وديني، ليكون التعميم تأثيماً هو الآخر لما آل إليه أمره.
وليكون الذي تعرَّض له، ثم التزامه الصمت " البيتوتي " حكمة رفعت من مقدامها، من ناحية، لكنها لم تخف ثغراته الفكرية والسّيرية من ناحية ثانية، كون الذي أدركه ربما جاء بعد فوات الأوان، بأكثر من معنى .
تلك ضريبة مدفوع الثمن مسبقاً، ومضاعفة لأهل الفكر، وأكثر من هذه وتلك، بالنسبة إلى الذين يعرَفون بتاريخ " نضالي بحثي " وفكري، وأكاديمي، وكيفية تداول أسمائهم بين الأجيال ذات النسَب الجامعي، قبل كل شيء.






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=24939