مصطفى بكر «بافي بروسك»: مثقّف ليبرالي علماني، مُخلص في المسار القومي والإنساني
التاريخ: الأثنين 03 كانون الأول 2018
الموضوع: اخبار



حوار وبحث وتوثيق: إدريس سالم

الحلقة الأولى

قبل الثورة السورية، كان عنوان أحد أصدقائي كالتالي: (الجمهورية العربية السورية – محافظة حلب – مدينة عين العرب – شارع الوحدة العربية)، بعد الاستقرار المبني على التفاهمات، أتوقّع بل أجزم أن العنوان سيصبح كالتالي: (الجمهورية السورية – إقليم كوردستان سوريا – مدينة كوباني – شارع الشهداء). هكذا كان يحلم أحد الأراعيل والقامات الكوردية في غربي كوردستان، يحلم في أن تزيل عواصف الثورة وربيعها كلّ غبار الاستبداد وجنون الدكتاتورية والفكر العفلقي، حلم راوده منذ أن بدأ العمل السياسي.

أبٌ روحي، مُخلص في المسار القومي، مناصر ومؤيّد للحقّ، لا يعرف علوّ منزلته وشرف نضاله وسعة حكمته وحُسن تصرّفه إلا مَن قرأ صفحات مسيرته, وتتبّع حياته. مثقّف ليبرالي علماني. مليء بالعطاءات النضالية الوطنية والقومية والإنسانية. هادئ بطبعه، متواضع في علاقاته، متابع دائم لمسيرة وهموم مجتمعه وشعبه. أوصاه والده الراحل في ألا يخون رفاقه، وأن يحافظ على الشرف وشرف مَن يأويه، وأن يقول الحقّ ولو على رقبته، وأن يكون في المقدّمة عند مواجهة الصعاب.


ناشد أديان العالم، عدا الدين الإسلامي، لإنقاذ كوباني من بَرَابرة العصر، وكأيّ كوردي يغادر مدينته، يترك خلفه كتبه ومكتبته ومذكّراته وذكرياته ونبيذه، بلمح البصر اختفى كلّ شيء حوله، النبيذ الذي شربه، والأرمن الذين أحبّهم. رفض البقاء بعيداً عن أزهار قريته، فعاد إليها وحيداً عندما قُرِعت أجراس العودة، بعد انتهاء قيامة كوباني البربرية الشرسة والانتصار على دُعاة الله عام 2014، ليجد له صديق أو صديقين، هُنا وهناك، وليزور أصدقائه الآخرين في مقابر المدينة، لتكون الحياة بالنسبة له مجرّد مادّة أولية للذكريات. 

خُضِع لعملية قلب مفتوح في مدينة رُها الكوردستانية، فأبى أن يغادر الحياة، ليقاومها ويعود إلى قريته. يرى أن الاختيار الحرّ هو أساس الشرف، وعدا ذلك ما هو إلا سفاسف وعادات غرائزية مفروضة، وأن الكوردي وعبر تاريخه، يبحث دوماً عن أداة قاطعة، ليمزّق بها جسد أخيه الآخر. رفض وحارب العقلية البدوية الصحراوية، التي تعشعش في رؤؤس غالبية النخب العربية – يميناً ويساراً – تمنعهم من قبول وجود اﻵخر، وما يتمخّض عن ذلك من مشاركة في السلطة والثروة، ولو في أدنى المستويات، غير أن كلّ ذلك ﻻ يعني أن يرتمي الكوردي (عاطفياً) بين براثن مَن هم (عملياً) جنود تحت الطلب، وإجراء لدى الآخرين، بثمن حزبوي بخس.

من وجهة نظره النقدية المُحايدة، يرى أن الإسلام كان ولا يزال حاملاً للعروبة، على كافة مستوياتها العنصرية الصحراوية، بينما يعتبر ذلك الدين الطارئ على الأمم الأخرى احتلالاً فكرياً ليس إلا، مسح كافة الطقوس والأديان المتوارثة لدى تلك الشعوب، ليحلّ محلّها ويلعب بعد ذلك دور الاستلاب؛ إذ أصبحت تلك الأمم الخاضعة للاحتلال رافعة لبيارق ذلك الدين الطارئ وناشرة له بحرارة وحماس الجنود العقائديين.

إن المشكلة الرئيسية في المجتمع الكوردي الحالي، تكمن في نظرة أفرادها الأحادية للأشياء، ولا شكّ أن هذه الأحادية أتت مع الاحتلال الإسلامي لبلاد الكورد – قائد أوحد، معبود أوحد، مثال مطلق أوحد – بينما الحقائق العلمية تقول غير ذلك، فالثنائية هي أساس الحياة، فلولا ثنائية الذكر والأنثى لما كان استمرار النسل، ولولا السالب والموجب لما كانت الطاقة الكهربائية، ولولا الخَلَاء والمَلَاء لما كانت الحركة.

لعلّ مفكّرينا الأوائل أدركوا هذه الثنائية، من خلال مراقبتهم للطبيعة وما يطرأ عليها من متغيّرات دورية، إذ يعتبر الفيلسوف زرادشت خير مَن جسّد ثنائية الخلق والوجود، فنراه يقول: "هناك صراع دائم بين الخير والشرّ، بين إله الخير (آهورا مَزدا) وإله الشرّ (أهريمان)، ينتهي الصراع بانتصار الخير على الشرّ، وبذلك تنتهي الحياة" هذا ما يقوله بافي بروسك عن مشكلة العقل الكوردي.

يقرأ الواقع السياسي السوري المستقبلي بطريقة عقلية حكيمة، فطالما بقيت العقلية البدوية المتخلفة (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)، مسيطرة على واضعي الدساتير لسوريا الغد، وما دامت تلك الدساتير مقبولة من قبل أكثرية الرُّعاع المُصفّقين، فلن تخرج سوريا من جملة مآسيها، إلا لتقع في مهاوي عميقة معقّدة، فهو يرى أن لا سلام نسبياً، وأن لا استقرار في سوريا الغد، ما لم تكن اتحادية فيدرالية، يفصل فيها الدين عن الدولة.

يؤكد أن هناك خطّان سياسيان يتحكّمان بالواقع السياسي الكوردي، أولهما يتمثّل بالتحالف الدولي بقيادة أمريكا، والذي أصبح غربي كوردستان بفضل إقليم كوردستان العراق لاعباً أساسياً فيه، وفي المنطقة، وباتت نجاحاته بادية للعيّان، لذلك ينبغي على الوطنيين الكورد الساعيين للتحرّر الوطني والقومي، أن يعملوا جاهدين لإنجاح هذا المحور، فيما الخطّ الثاني، هو خطّ الممانعة، الذي تقوده روسيا الحالمة بإعادة إمبراطوريتها السوفيتية، وتسعى لعرقلة وفرملة الخطّ الأول، وبالتالي هناك الكثير ممَن يرون مصلحتهم في ذلك، دولياً وإقليمياً أو كوردستانياً، بحسب اللقاء الذي أجراه الصحفي الكوردي عقيل صفر معه، ونشره في وكالة "رحاب" الإعلامية.

رفض تحويل ثلاثة أجزاء من كوباني إلى متحف، فهو يرى أن تجربة البعثيين المنهزمين أمام إسرائيل, واعتبارهم مدينة القنيطرة متحفاً على همجية الدولة الإسرائيلية باءت بالفشل الذريع، وأن تقليد البعثيين في ذلك الأمر مُعيب؛ لأن المدينة لأصحابها، وليست مشروعاً لأحد، وبالتالي الموافقة الخلبية الافتراضية التي جاز عليها رفاق حزب الاتحاد الديمقراطي في الإدارة الذاتية ليست سوى كذبة فادحة.

في قصّة طريفة معبّرة فيها الكثير من الحكمة يقول بافي بروسك: "قال لي والدي المرحوم، بينما كان المغنّي الكبير (مشّو بَكَه بُور) البرازي، يغنّي لروّاد مضافة ضيعتنا ملحمة "مَمْ وزين" التراجيدية، عطس أحد الحاضرين بقوّة وفي الوقت نفسه نهق حمار مربوط في الجوار؛ توقف عزيز النفس (مشّو) عن الغناء نهائياً، وهو في ذروة الملحمة – لقاء العاشقين على نبع القساطل – قائلاً: (ها قد أصبحنا ثلاثة.. يردّ أحدنا على الآخر)".

في منشور له على صفحته في الفيس بوك يقول: "عندما أستمع إلى القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وهو يرتّل القرآن بصوته الرخيم، وفق فنّ التجويد البليغ، أتذكّر معاصريه من الفنّانين العِظام، أمثال عبد الوهاب وأم كلثوم...، فأحلّق إلى السماء بخيالي ودون أجنحة أو وسائل ركوب، أما عندما أستمع إلى صوت مؤذّن حارتنا البائس، أتذكّر لا شعورياً جحيم الكوميدية الإلهية للشاعر الإيطالي "دانتي أليغييري"، وكأنني هابط إليه، فتنتابني القشعريرة والكوابيس من هذا النشاز المزعج".
فيردّ عليه الموسيقار والفنّان رشيد صوفي ضاحكاً: "باڤي بروسك، وأنا أشعر ذات الشعور، وخصوصاً عند آذان الفجر، حيث الصوت مَدَاه يتّسع مع الصدى، وكأني أسمع موّال كوردي بشكل نشاز".

كتب في وفاة ابن كوباني وابن قريته، الفنّان الخلوق آزاد عارف مسي، إثر جلطة دماغية قاتلة:
وداعـاً أيّها الفتى الجميل
وداعـاً أيّها المغنّي الحزين
وداعـاً أيّها العاشق لكلّ ما هو جميل
وداعـاً أيّها الحالم بغدٍ أفضل
وداعـاً أيّها القنديل المضيء الذي انطفئ فجأة
هيّا يا فراشتي الجنة (سيمار وروسيم) لتستقبلا روح والدكما ضيفاً عزيزاً.


في موقف أقلّ ما يقال عنه بأنه موقف شجاع وجريء ونبيل، عاشته روجين مصطفى، مع والدها بافي بروسك، وهي في مقتبل السابعة عشر من العمر، حيث تقول: "في عام 2007 اعتقل الأمن السوري مجموعة من الشباب الكورد في مدينة حلب، وكنت أعرف أكثريتهم، حيث عذّبهم الأمن بطريقة وحشية، ليستشهد أحد الشباب حينها، فاعتصم أبي مع مجموعة من أصدقائه ورفاق حزبه في مدينة دمشق، تنديداً بممارسات القمع والاضطهاد ومطالبةً بالإفراج عن المعتقلين الشباب، فحدّثته عن نيتي للمشاركة في الاعتصام، فوافق وأخذني معه، وعندما وقفنا في ساحة الاعتصام وأمام المحكمة كان المكان مطوّقاً بعناصر أمنية ومخابراتية، فأخبرني بأنه لن يحصل أيّ مكروه، إلا أنهم هاجموا المعتصمين كما لو أنهم في حالة حرب مع الأعداء، وضربوهم ودفعوهم بكلّ قوّة وإهانة، حيث ضربوا زوجة صديق أبي بشكل وحشي ومؤلم. وبارتباك وخوف كبير أخبرت أبي عن الوضع والضرب والأمن، فقال بأنه لن يتحرّك من مكانه، إلا أنهم اعتقلوه أمام عيني، فبكيت كثيراً، وكان موقفاً موثّراً، ما زلت أعيشه بذاكرتي".

وُلِـد مصطفى بكر، أو (بافي بروسك) كما يلّقب في الوسط الاجتماعي والسياسي، في قرية (قوله – Qule)، تموز 1951، والده "حسن بَك مسْك"، ووالدته "زركة إيبي أحمد" من قرية (زرافك – Ziravik)، جدّه من أمّه اسمه "إيبي أحمد". متزوّج، له سبعة أولاد، أربعة بنات وثلاثة صبيان. كان في السنّ السادسة عندما أخذه والده لأول مرّة إلى كوباني، ليسجّله المدعو "عثمان شيخ خضر" وهو كاتب للعرائض.

علّمه شيخ القرية جمال قره كيجي "جمال حمد مسلم" حفظ القرآن الكريم، لستّة أشهر، ثم درس المرحلة الابتدائية في قرية الشيوخ الفوقاني «الواقعة غربي كوباني مسافة 35 كم»، والإعدادية والأول الثانوي في مدينة منبج، والثانوية في المعرّي والمأمون والشهباء في حلب.

في مدرسة الشيوخ الفوقاني قيّمه المعلّم من خلال مستواه الذهني والتعليمي، فأخبره بأنه يستحقّ لأن يُنقل إلى الصفّ السادس، إلا أن والده كان يترجم له، لأنه لم يكن يجيد الحساب والكتابة والقراءة باللغة العربية جيداً، لذلك أخبروه بأنه سيكون في الصفّ الثاني.

عندما كان في المدرسة لم يكن يجيد اللغة العربية أساساً، فكان يجتمع حوله أطفال المدرسة ويسألونه عن اسمه وعنوانه وما إذا كان جائعاً أو عطِشاً، وهو كان يجيبهم بكلمة (إِيي)، لأنه كان يعرف الحرف (E) باللغة الإنكليزية، حتى عندما كانوا ينعتونه أو يشتمونه كان يجيب بذلك الحرف أو الكلمة، الذي يعني باللهجة الشاوية (نعم)، فكان الأطفال ينظرون إلى بعضهم ويضحكون، وعند توزيع جلاءات المدرسة في نهاية العام الدراسي خرج الأول في صفّه، فتعلّم اللغة العربية بشكل جيّد، وبعد انتهائه من المرحلة الابتدائية، ذهب إلى إعدادية مدينة منبج، فدرس في ثانوية البنين حتى عام 1970 أو 1971، كان دائماً الأول في صفّه، يهتمّ به المعلّمون وإدارة المدرسة.

في عام 1971 سافر إلى حلب، ليدرس الصفّ الحادي عشر العلمي، من المرحلة الثانية في مدرسة (المَعرّي)، كوّن علاقات زمالة وصداقة مع الطلاب الأرمن والمسيحيين السوريين وشباب جبل الكورد. بقي في حلب حتى البكالورية، حيث لم ينجح في الصفّ الثاني عشر الثانوي، لينتقل عام 1972 – 1973 من مدرسة (المَعرّي) إلى مدرسة (مأمون)، درس فيها عاماً واحداً، أيضاً لم ينجح، وفي عام 1973 – 1974 انتقل إلى مدرسة (الشهباء)، وغيّر فرعه العلمي إلى الفرع الأدبي، لينجح بعلامات جيدة، ويدخل كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية، وفي السنة الرابعة من دراسته تدهور حالته الصحية، حيث عانى من الهشاشة الشعرية في عينه، ما أجبرته تلك الحالة لترك دراسته والسفر إلى إسبانيا، بقصد العلاج، ليعود بعدها إلى قريته. 

مارس التدريس بصفة (مُكلّف) في مدارس صوران وإعزاز وأخترين وجورد عوّاد، ليساعد نفسه ووالده مالياً ومعيشياً، ليتزوّج في أواخر عام 1979، حيث خلّف سبعة أولاد، أربعة بنات وثلاثة صبيان، عاش حياة مناسبة، حيث تزوّج امرأة اقتنع بروحها وعقلها.

تعلّم الكثير من المفاهيم والدروس الأدبية من أساتذته الكبار والقديرين في ابتدائية الشيوخ الفوقاني وإعدادية مدينة منبج وثانويات حلب، الذين علّموه اللغة والفلسفة والتاريخ والجغرافية، فلم يستطع نسيان أفضالهم وتعاملهم معه، كأستاذ اللغة العربية برهان صدقي، وأستاذ اللغة الفرنسية رشاد يتيم ونائل محمود نديب، ومحمد ملا غزيل، وأستاذ اللغة العربية مصطفى قطيع من مدينة إدلب، وكرم بطل ومحمد خير حلواني من حلب، وأستاذ الفلسفة منان محمد العفريني الذي درّسه عام 1973 في ثانوية الشهباء.
 






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=24367