كيف صار برهم صالح رئيساً للعراق ؟ ولماذا؟
التاريخ: السبت 13 تشرين الاول 2018
الموضوع: اخبار



د. ولات ح محمد

  عندما أسس الدكتور برهم صالح مع الدكتور كوسرت رسول داخل الاتحاد الوطني الكوردستاني في مارس آذار من العام الماضي ما سمي آنذاك بمركز القرار، ثم عندما أعلن صالح بعد شهور من ذلك الحدث انشقاقه عن الحزب عدّ كثيرون (وأنا منهم) ذلك تعبيراً عن حراك رجل مثقف وإصلاحي رافض لحالة الفساد والتحكم العائلي والتفتت التي انتابت صفوف الحزب عقب رحيل مؤسسه المرحوم جلال طالباني. ولكن سرعان ما تبين لاحقاً أن السيد صالح إنما كان يبحث لنفسه في كل ذلك الحراك فقط عن موقع يكون فيه الرجل الأول (وهو ما لم يكن متاحاً له داخل حزبه) عندما ذهب إلى تشكيل جسم سياسي برئاسته هو سماه "التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة" 


وفي خلده يدور اعتقاد جازم بأنه سيكون من خلاله وفي القريب العاجل الرجل الأول في إقليم كوردستان إذا ما أحسن استغلال الظروف التي حلت بالناس بعد الاستفتاء، ظاناً أنه إذا انتقد حزبه القديم وقياداته والفساد الذي ينخره وإذا تهجم على الحزب الديمقراطي واصفاً قياداته بالجمود والعناد والتسرع والفشل، وأنه إذا حمّلهم جميعاً مسؤولية أزمات الإقليم السياسية والاقتصادية والخلافات مع بغداد فإنه سيتمكن من جمع الجماهير الكوردستانية حوله وستعلن الأحزاب التقليدية إفلاسها خلال شهور، وإنه سيتمكن كذلك من كسب الطبقة السياسية العراقية التي لم يكن أحد ليخدمها في هجومها على الكورد في ذلك التوقيت العصيب ويبرر لها حصارها للإقليم أفضل من برهم صالح بخطابه ذاك.
   في يونيو حزيران من العام الماضي أعلنت قيادة الإقليم قرارها إجراء الاستفتاء على الاستقلال في أيلول سبتمبر. وعلى الرغم من أن قسماً من الاتحاد الوطني كان مع القرار والقسم الآخر ضده، فإن برهم صالح الذي كان ما يزال في صفوف الحزب التزم الصمت ولم يعبر عن موقفه (مع أو ضد) من ذلك قرار، واستمر صمته (منتظراً ظهور الخيط الأبيض من الأسود) حتى يوم الاستفتاء حين أدلى بصوته في أحد مراكز الاقتراع ثم رفع إصبعه الملونة مع ابتسامة معهودة قائلاً للصحافيين: "لقد صوّتنا لاستقلال وحرية كوردستان"، هذا الكلام الذي تبينَ فيما بعد أنه كان مجرد تسجيل موقف مؤيد للاستفتاء طمعاً في مكتسباته االلاحقة ظناً منه أن البارزاني سيعلن استقلال كوردستان في الغد. 
    بعد أيام كشف صالح القناع عن موقفه إثر ظهور ردود الفعل السلبية إقليمياً (الإيراني تحديداً) ودولياً (الأمريكي تحديداً) إزاء الاستفتاء، إذ انقلب السيد صالح (الذي صوت قبل أيام فقط لاستقلال وحرية كوردستان) رأساً على عقب وراح يهاجم الاستفتاء وكل من شارك في الإعداد له وروج له ووصفهم بالفاسدين والمتهورين والعنيدين سعياً منه لتسويق نفسه لدى الشارع الكوردي من جهة، ولدى الأطراف غير الكوردية المعترضة على الاستفتاء بشدة داخل العراق وخارجه من جهة ثانية، طارحاً بذلك نفسه البديل العاقل والحكيم والمتزن والنزيه والحداثي والعراقي الوطني عن القيادات الكوردية "المغامرة والفاسدة" التي تسعى لتقسيم العراق ونهب ثرواته حسب خطابه آنذاك.
    تلقفت القوى الإقليمية السنية والشيعية على حد سواء داخل العراق وخارجه إشارة الدكتور الحكيم والوطني ففتحت أمامه قنواتها الإعلامية المرئية والمقروءة وأجرت معه خلال أسبوعين ما لا يعد من اللقاءات، فكان يظهر أحياناً أكثر من مرة في اليوم الواحد على تلك الوسائل، وكأنه الرجل الذي أخرج الزير من البير أو جلب الذئب من ذيله. استعداداً لتلك الحملة كان صالح أعد لنفسه مجموعة من الأفكار والجمل والصيغ اللغوية المنمقة وغير التقليدية اعتبرها برنامجه الانتخابي آنذاك ليسوّق بها لنفسه لدى الداخل والخارج فقام بتكرارها في كل تلك اللقاءات التي أجريت معه في ذينك الأسبوعين. وللتذكير سأورد بعض تلك الجمل والكلمات التي تكررت في معظم تلك الحوارات: 
أولاً ـ من أقواله للتسويق الداخلي كوردستانياً:
ـ لا يمكن الاستمرار بمنظومة الحكم الحالية في إقليم كوردستان.
ـ 70% من سكان الإقليم دون سن الثلاثين يحتاجون إلى حكم عادل وإصلاح الحكم الحالي.
ـ طالبنا بتشكيل حكومة انتقالية تتولى ترتيب الأمور في البيت الكوردي وتوفير الرواتب للناس وتتولى التفاوض مع بغداد لأننا بحاجة إلى حكومة تستند إلى الشرعية وتعبر عن مصالح الناس. 
ـ الأحداث التي تجري الآن فيها من الانعكاسات لعملية الاستفتاء. كانت هناك أطراف ذهبت إليه وأصرت عليه. 
ـ السياسات العنيدة هي السبب.
ـ نحن بحاجة إلى الحكم الرشيد. أنا ليبرالي ديمقراطي. العدل أساس الحكم. نأمل الحصول على دعم المواطنين في الانتخابات حتى تكون مرتكزاً للديمقراطية والعدالة. 
ثانياًـ  من أقواله للتسويق الداخلي عراقياً:
ـ انسحاب البيشمركة من كركوك جاء بقرار من القيادة العسكرية الكوردية تجنباً لأي مواجهة عسكرية. (هذا تسويغ لتسليم جماعة 16 أكتوبر لكركوك).
ـ قوة بغداد وقوة البصرة قوة لكوردستان، وقوة كوردستان قوة لبقية أنحاء العراق. أهل البصرة وأهل السليمانية يتطلعون إلى مستقبل آمن.
ـ سياسة فرض الأمر الواقع لا يجدي نفعاً في العراق. الأفضل أن نذهب إلى بغداد ونحتكم للدستور. (وكأن الكورد هم الذين أهملوا الدستور). 
ـ كان هناك من يتصور أن الحدود ترسم بالدم. فالحدود التي ترسم بالدم تزال بالدم أيضاً. (هذا تسويغ لاحتلال كركوك وغيرها وقتل أهلها). 
ثالثاً ـ من أقواله للتسويق الخارجي:
عند سؤاله عن رأيه حول الدور الإيراني في العراق وفي مسألة كركوك قال:
ـ إيران جارة مهمة للعراق. الإيرانيون احتضنوا المعارضة العراقية أيام صدام. لا نستطيع تجاهل الدور الإيراني. تواصلهم مع القيادات العراقية والحكومة معروف. كانت رسالتهم بعدم إجراء الاستفتاء.
ـ قبل إلقاء اللوم على الآخرين يجب مراجعة الذات. يجب أن تتحمل القيادة الكوردية المسؤولية.
    بهذا الخطاب الموجه نحو الداخل حيناً ونحو الخارج أحياناً (مع أنهما لا ينفصلان) سوّق برهم صالح لنفسه على المستويين معاً، ولكن المفارقة أنه وجد في الداخل العراقي وفي الخارج من يشتري ذلك الخطاب لأنهم لا يريدون منه أكثر من هكذا كلام وموقف، بينما فشل فشلاً ذريعاً في تسويق نفسه لدى الشارع الكوردستاني الذي كان يعلم أنه مجرد خطاب انتخابي لن يقترن بأي فعل؛ فقد اكتشف صالح في الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة أن لغته المنمقة وشعاراته من قبيل (الحكم الرشيد، حكم عادل، إصلاح الحكم الحالي، توفير الرواتب للناس، جيل الشباب، السياسات العنيدة وغيرها) لم تجلب له سوى مقعدين اثنين فقط، فلاذ بالصمت المريع وقرر عدم خوض انتخابات برلمان كوردستان الأخيرة يقيناً منه بأنه سيتعرض لفضيحة/هزيمة جديدة. 
    نتيجة لكل ذلك كان الرجل على وشك إعلان إفلاسه السياسي بعد أن نفدت كل أوراقه وفشلت كل محاولاته في بلوغ المركز الأول، إذ صار معزولاً على الساحة الكوردستانية (لا حزب قوي ولا منصب ولا شارع يدعمه أو يصدقه)، وهذا ما لا يرضي خطط المعلم سليماني الذي كان يراهن على نجاحه، فأرسل إليه برقية عاجلة يأمره فيها بالعودة إلى حزبه القديم (الذي هجره وأساء إليه كثيراً) مقابل ترشيحه لرئاسة العراق، كما أرسل ذات البرقية لبعض قيادات الاتحاد الوطني يأمرهم فيها بقبول عودة صالح مقابل ضمان وصول مرشحهم إلى الرئاسة. أما سيادة الرئيس المرشح فلم يكذّب رسالةً لسليماني، وكما ترك حزبه الأول من أجل الكرسي الأول (الذي رفعه وقدمه لتولي مناصب كثيرة في كل من بغداد وأربيل)، سرعان ما أدار ظهره دون تردد لرفاقه الجدد في تحالفهم الديمقراطي العادل مادام العرض يتعلق بموقع الرجل الأول على الكرسي الأول، وصار الاتحاد الوطني خلال أربع وعشرين ساعة بقسميه الراضي والزعلان قابلاً بـ"عودة الابن الضال" إلى أحضانه الدافئة وإلى موقعه القيادي أيضاً، دون أن يحاسبه أحد على إساءاته للحزب وقياداته ودون أن يلتفت هو إلى أنه عائد إلى مؤسسةٍ نَعَتَها بكل الموبقات خلال عام مضى. هكذا جيء بالرجل من قاع الفشل والعزلة ليخوض تجربة مضمونة النتائج مادامت مدعومة من الجار الشرقي المتنفذ.
    لماذا لم يعرض الاتحاد الوطني مرشحه على القوى الكوردستانية للتشاور والتنسيق كما جرت العادة؟. أرى أن ذلك يعود لجملة أسباب: الأول معرفة الاتحاد أن تلك القوى لن توافق على صالح، وبالتالي سيجد نفسه أمام خيارين، صعب ومستحيل: فإما المضي مع مرشحه رغم رفض تلك القوى له، وبالتالي وضع نفسه في عزلة كوردستانية، وهذا صعب، وإما تقديم أحد المرشحين البدلاء (الذين كانوا أصلاء قبل مجيء صالح) للتوافق عليه، وهذا يعني تجاوز إرادة المعلم سليماني، وهذا مستحيل. ولذلك اختار الاتحاد أقل الحلول تكلفة بالنسبة إليه وهو التضحية بالتوافق الكوردي والذهاب منفرداً مع مرشحه المرفوض كوردياً. السبب الثاني أن أصوات القوى الكوردية ليست ضرورية داخل البرلمان لإنجاح صالح مادامت كل القوى الشيعية التابعة لسليماني إضافة إلى بعض القوى السنية ستصوت له. أما الثالث فهو أن ترشيح صالح لم يكن محل إجماع داخل الاتحاد نفسه فكيف له أن يعرضه على الآخرين؟.
    لم يكن في انتخاب المرشح برهم صالح مفاجأة أبداً؛ فالبرلمان الذي شرع قبل أشهر قوانين وأصدر قرارات بفرض حصار على الإقليم وشعبه وإغلاق مطاراته والهجوم على أبنائه وفصل نوابه وموظفيه عقاباً لهم جميعاً على المشاركة في عملية الاستفتاء، (هذا البرلمان) لن ينتخب رئيساً للجمهورية شخصاً كان من أبرز الفاعلين في عملية الاستفتاء والمروجين لها في الداخل والخارج، مهما امتلك من الكفاءة والنزاهة والأهلية والسمعة الطيبة، بل سيختار من هاجم الاستفتاء (بعد مشاركته فيه) وهاجم قيادة الإقليم وقدم تسويغات للهجوم على كركوك كما بينت تصريحاته آنفة الذكر التي يبدو أنها كفّرت عن مشاركته الصورية في الاستفتاء وأكدت للداخل والخارج أن مشاركة صالح تلك جاءت من باب الانتهازية والالتحاق بالركب وليس عن قناعة ومبدأ، وأنها كانت محاولة منه للتقرب من الجمهور الكوردي تمهيداً للانتخابات التي كانت ستجري بعد خمسة أسابيع من إجراء الاستفتاء، وطمعاً في أن يكون شريكاً في مكتسبات الاستفتاء إن حصلت. 
    في 2014 وعقب توافق الأطراف الكوردية على فؤاد معصوم مرشحاً لها لرئاسة العراق مفضلة إياه على برهم صالح قال هذا الأخير لصحيفة الشرق الأوسط رداً على سؤال حول إقصائه: "هناك الكثير من المواقع التي قد تودي بالسياسي أو المسؤول إلى الهاوية"، فهل فكر صالح في الهاوية هذه المرة عندما رضي بأن يصل إلى ذلك الموقع بتلك الطريقة ورغماً عن الإرادة الكوردية التي من المفترض أنه يمثلها؟ أم أنه كان أساساً في الهاوية سياسياً، ولم يكن لديه ـكوردستانياًـ ما يخسره إنْ قبِلَ العرض أو ما يكسبه إن رفضه، فقبِلَه ولسان حاله يقول: الكرسي أولاً، وليكن من بعده الطوفان؟.
    عندما تكون حنان فتلاوي أولى المباركات لبرهم صالح، وهي المعروفة بحقدها وتهجمها على الكورد وعلاقاتها القوية بجماعة صفقة كركوك في 16 أكتوبر، وعندما يكون أبرز المباركين لسيادة الرئيس في لحظات فوزه الأولى ذلك المتواري في لندن خلف صفحة ألكترونية ينفث فيها حقده (كالمراهقين) على الكورد، أعني مدير استخبارات صدام حسين وفيق السامرائي الذي وجه تحياته لأبطال 16 أكتوبر (من الكورد والحشد وغيرهم) على إنجاحهم برهم صالح، وعندما تكون باكورة تعيينات الرئيس الجديد تسميته أحد أبطال 16 أكتوبر (آراس شيخ جنكي) في منصب كبير مستشاريه، عندئذ ستعلم عزيزي القارئ لماذا صار برهم صالح رئيساً للعراق؟ وكيف؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنويه: في مثل هذه الأيام من العام الماضي كتبت مقالاً تحت عنوان (الوجه الآخر لبرهم صالح.. قراءة في خطابه التسويقي) متسائلاً حول الانقلاب المفاجئ في موقف صالح من الاستفتاء (بعد مشاركته فيه) وحول تصريحاته السلبية المفاجئة بالتزامن مع ضغوط الجيران شرقاً وغرباً وتهديداتهم بحق الإقليم، ولكنني امتنعت عن نشره آنذاك حذراً من  أكون مخطئاً بحق الرجل وأملاً في أن يغير السيد صالح مواقفه لاحقاً. ما فعلته الآن هو أنني أضفت إلى ذلك المقال الفصل الأخير من مسرحية الرئاسة الذي جاء تتويجاً لكل ما قاله صالح وفعله قبل عام.







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=24210