في حدود الثقافة
التاريخ: الخميس 04 ايار 2006
الموضوع:



بقلم فريد سعدون

الثقافة الكردية هذا الكائن الغائب الحاضر، يعلن عن وجوده بالرغم من محاولة الآخر إلغاءه، يوهم العالم بنفيه، ويقود بحرابه عجلة التاريخ نحو العالم السفلي، ويأبى التاريخ إلا أن يصحح مساره ويقوم الاعوجاج الذي يرتئيه له كل كذاب مبير.




 وحين تسقط الأقنعة يظهر الوجه الأصيل، قد يبدو الأمر على هذه الشاكلة أكثر من بدهي، بل يأخذ منحى من السذاجة اليومية التي نتعاطاها على السجية والسليقة، ولكن المطلوب هو أين تبدأ وأين تنتهي حدود هذه الثقافة الكردية الوليدة بالكاد من سبات المظالم التي منعتها من الارتقاء ومنافسة غيرها ؟ يظهر من الحالة الراهنة أن الحقل الثقافي الكردي بات مباحا لكل من أمسك القلم وخط  سوادا  في بياض، وأصبحنا قريبين من المشاعية المفتوحة على النهب الفوضوي لجلال الثقافة وهيبتها، واختلط الدعي بالجدير، ولكن المتلقي الكردي أكثر نباهة من ادعاء  المدلسين، وغرباله أشد نعومة بثقوبها مما يتصوره المغفلين، فهل يقتضي الأمر أن نشرح مفهوم الشخصية الواعية المدركة والقادرة على التحكم في تصرفاتها ثم تعليل هذه التصرفات وإيجاد المبررات لها إذا اقتضت الحاجة، هذه البساطة في التفكير تبدو ضرورية كمتلازمة لإمكانية العيش السوي والسليم في المجتمع وإلا صار فاقد العقل كمالكه، إنها الضرورة التي تستوجب الحد الأدنى من التفكير وتصويب التصرفات ليستطيع الإنسان التواصل مع غيره ونسج علاقات إيجابية تعبر عن نشاطه، ثم التحول نحو المساهمة في بناء جواره والارتقاء بالمجتمع مهما كانت إنجازاته متناهية في الصغر، وهذا غير ما نرمي إليه ونقصده بل نحاول أن نستوضح معالم الثقافة التي رسمت للكيان الكردي ملامحه وصورته، وهذه لا تأتي إلا من خلال بث الحيوية في مفاصله عبر الأفكار المبدعة الخلاقة، أو ممارسة هذه الأفكار بطريقة سليمة مثالية، ولهذا المثقف الكردي مقومات كما هو حال أي مثقف في العالم، ويأتي في مقدمتها ملكة الإبداع التي تصقلها التجربة وتشذبها كثرة المران والتدريب، وتفعيل النشاط العقلي وتحكيم الفكر والخبرة المعرفية، بعيدا عن النزوات الشخصية أو الانفعالية المرتبطة بالانطباعات الآنية التي تولدها المواقف الارتجالية غير المبررة في ذاتها كونها ردة فعل عصبية استفزازية على الأرجح لا تحسب في خانة التدبير والتفكير، ومن هنا تأتي قدرة التكيف مع الواقع الاجتماعي، وتظهر الحاجة إلى إرادة قوية وبرمجة مسبقة للمواقف كي تستطيع المواءمة بإيجابية مع الظروف المحيطية، بمعنى تطويعها وتدجينها وجعلها أكثر مرونة وقابلية للمسايرة، فيكون التفاعل معها ضمن نسق من العلاقات الطيبة المثمرة بعيدا عن التصادم والتنابذ، وهذا الأمر يرتبط بعوامل عدة منها فكرية ونفسية واجتماعية واستعدادات تربوية، وخلفية أسرية مؤثرة وغيرها من الشروط التي تترك بصماتها بشكل مباشر أو غير مباشر في تحديد مسار حركة الإنسان ضمن المجتمع، ولكن المثقف أكثر عرضة للانتقادات في حال اقترب من حدود الآثام أو الأخطاء لأنه يعد طاقة المحرك الذي يشحن المجتمع بالدوران، ولكننا لا نحمل المثقف كل الوزر، ولا نلزمه بما هو غير ملزم به، إذ تكفيه المعوقات التي تعترض طريقه، واللاتناسب بين توجهاته وعطالة المجتمع بكل عاداته وتقاليده وإرثه الرجعي المتراكم عبر قرون طويلة، وهذا يفرض تعاضدا بين السلطة بآلتها المناهضة لتحرر المثقف وبين عطالة المجتمع، في وجه القيم والمعرفة التي يحاول المثقف نشرها أو ممارستها، فلا بد من توفر أساسيات حتى يستطيع أن يقوم بدوره المنوط به، وهي في الوضع الراهن في حدودها الدنيا، فالمثقف يعاني أزمات متتالية يجاهد للتنصل منها كي يجد لنفسه متنفسا يعبر فيه عن فكره أو إبداعه، تبدأ من الرقابة الصارمة على فكره واستلابه حرية التعبير ولا تنتهي عند النشر وتوصيل نتاجه إلى المتلقي،  فيحتاج الأمر إلى أكثر من خطوة لتحقيق هذا الغرض، منها الإمكانيات المادية الضئيلة وعدم توفر الحافز المعنوي، وغياب المؤسسات التي تقدم الدعم أو تتبنى النتاج وتقوم على طباعته ونشره وتوزيعه، ثم ضياع المردود المادي الذي من الممكن أن يعيل المثقف وأسرته إذا اقتضى الأمر ليكتسب من نتاج فكره وليس من قوة عضلاته، وانتفاء البيئة الملائمة للكتابة بأريحية، وهذه العقبات غيض من فيض وتكاد تكون عامة تشمل المثقف العربي أيضا ولو شئت أضفت أضعافها بالنسبة للمثقف الكردي،وهي تشكل قوة العطالة التي تكبح حركة الثقافة وتؤخر تقدمها وتؤثر بالتالي على النتاج الإبداعي، ومن هنا سيكون المثقف الكردي جديرا بأوسمة البطولة لقدرته على الروغان من هذا المصير القاتم والتملص من الحصار الذي تفرضها عليه، فقد استطاع تحقيق قدر مناسب من الإنجاز الذي يحق له التباهي به، حيث تجاوز الإطار المحلي ليصل إلى درجة الإقليمية وحتى العالمية والأمثلة تشهد على ذلك، إذ نقرأ أسماء تلمع في حقل الثقافة العالمية بمختلف جوانبها، وصارت الكتب تترجم إلى اللغات الحية وتزاحم إبداعات الآخرين، وكذلك المعارض الفنية، والأفلام التي حازت على جوائز عالمية وغيرها من مجالات الإبداع، فقد خرج المثقف من الشرنقة المفروضة عليه، واخترق الحصار بتصميمه وإرادته وعزيمته التواقة إلى رسم معالم جديدة لحياة تليق به، وإذا كانت الثقافة الكردية لا تقارن في مجال الكم بالثقافات الأخرى فإنها ضمن الظروف التي تعايشها شكلت إنجازا رائعا سمته التحدي والمثابرة، والساحة الثقافية الكردية هي ساحة ما زالت غضة تتلمس طريقها بإصرار في خضم التعقيدات التي تجابهها وتحاول طمس نزوعها نحو الانعتاق والتحرر والتقدم، وصارت الخبرات الكردية تزخر بها الجامعات وهذه الفئة النشطة تثري الساحة الثقافية بنتاجها الأدبي أو الفكري أو السياسي وحتى الاقتصادي والإعلامي، وبدأت الهيئات الثقافية والمؤسسات تبصر طريقها في الوجود والظهور،وإن كانت محاولات وليدة بالكاد تعبر عن حالة من التوجه في الطريق السليم من الإنجاز، ولابد لها من أن تترسخ وتتحول من طور التأسيس إلى الإبداع والعطاء ثم لتقلع بفاعلية تهيأ لها سبل النجاح والتطوير، وبذلك تكون الصورة العامة للحالة الثقافية الراهنة مبشرة وتدعو للتفاؤل، فهي بالرغم من العراقيل و الصعوبات تأخذ حيزا مناسبا من الفضاء الإبداعي، والمهم أن الخطوة الأولى قد أثمرت عن هذا الحراك الثقافي المشهود الآن، ولكن الأفضل هو إدراك التحديات ومحاولة التغلب عليها ، ونعتقد أن الحالة الفردية بالرغم من ضرورتها إلا أن المبادرات الجماعية ستؤتي أكلها بشكل أسما، فأحوال المجتمع لا تحتمل الأنانية المفرطة في الأخذ بزمام الأمور ولابد من التحرك المنضبط ضمن السرب والاستفادة من خبرات المحنكين من أهل التجربة، إن مثقفينا مدعوون إلى البحث عن صيغة يستطيعون بها أن يباشروا إستراتيجية صائبة رغبة في إعلاء شأن الثقافة الكردية وجعلها في خدمة المجتمع وتطوره، فهذا الوقت العصيب والمصيري يحتم علينا التقارب، وليعلم كل صاحب فكر أو ثقافة أن فكره وثقافته إما أن تكون أداة لخدمة أمته أو أداة لاقتراف الخطيئة والخيانة، وهنا نكون قد وصلنا المفترق فإما إلى اليمين أو إلى الشمال.                          





أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=225