الهجرة عبء أم مكسب
التاريخ: الأحد 19 اذار 2017
الموضوع: اخبار



خوشناف سليمان

حادثة بائع الخضار التونسي المُهان بوعزيزي، الذي أضرم النار في نفسه في ديسمبر 2010 إحتجاجاً على الظلم والفقر، أشعلت سلسلة من الثورات وموجات التغيير في المنطقة، امتدت فيما بعد الى سوريا أيضا وأججت فيها حريق الحرب المستمرة الى يومنا هذا، وما تبعها من ويلات وأهوال، أدت الى إستفحال موجة نزوح وهجرة، ليست لها مثيل في التاريخ المعاصر. ومنذ ذلك الحين، أي منذ منتصف مارس/آذار 2011، تشهد سوريا أكبر أزمات النزوح والهجرة في العالم وأسوأها منذ الحرب العالمية الثانية. وبحسب تقرير نشره مركز نرويجي لرصد الهجرة، فقد تسبب الصراع الدائر فيها بنزوح أكثر من 11 مليون إنسان، وهي نسبة تقارب نصف سكان البلاد قبل الأزمة، منهم أكثر من ٤ مليون لاجئ خارج البلاد.


في هذا السياق، تمثل هجرة مئات الآلاف من الكُرد السوريين من موطنهم الأصلي، أكبر كارثة ديوغرافية يتعرضون لها في سوريا. الهجرة الكُردية هذه لا تشبه مثيلتها لأبناء جلدتهم السوريين، التي بدأت قبل إندلاع الحرب. آنذاك قامت مجموعات كُردية غير قليلة باللجوء الى الخارج، نتيجة لممارسات نظام البعث التعسفية بحقهم. نذكر هنا على سبيل المثال، لا الحصر، مشاريع الإحصاء لعام 1962 والحزام العربي لعام 1974 وبناء المستوطنات العربية في القرى والبلدات الكُردية، وما تضمنت من خطط عنصرية، إنعكست سلباً على التركيبة الديموغرافية الكردية في سيرورتها التاريخية، والتي كانت تهدف بالأساس الى تفريغ تلك المناطق من سكانها الكُرد. بالتزامن مع سياسة الإضطهاد القومي هذه، هناك عوامل أخرى، تتعلق بمشكلة العمالة الخفية وإنعدام الإستثمار في البنى التحتية للمنطقة الكُردية، ونقص الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والطاقة والمياه وإستصلاح الأراضي الزراعية. وفي مجرى الحرب الدائرة في سوريا ومن مخلفاتها، انشاء كانتونات خاضعة لنفوذ "ب ي د"، الفرع السوري لحزب "ب ك ك" التركي، المتجسدة في تثبيت سلطة الأمر الواقع في المناطق الكُردية، والتي مارست وتمارس القمع وتنتهج سياسات استبدادية جائرة ضد المناوئين لها، مما أدت، في نهاية المطاف، الى تفاقم وتيرة الهجرة واجبار الكثيرين، وخاصة قوة الشباب العاملة، على مغادرة وإخلاء مناطقهم الأصلية.هذه الموجة الجديدة للهجرة الكُردية، تثير في الحقيقة، أكثر من تساؤل وأكبر المخاوف حول أسبابها وتداعياتها االمأساوية على مستقبل السكان الكُرد في البلاد.

النزوح واللجوء والهجرة
النزوح او اللجوء، هو تغيير المكان من جانب أفراد ومجموعات سكانية ضمن حدود الدولة الواحدة، او الانتقال الى الخارج، بهدف البحث عن ملجأ آمن. أما الهجرة، فهى عملية توطينية وتعني الرحيل من البلد الأم الى آخر بغرضِ الاستقرار، فالهجرة تتم عن سابق إصرار على تنفيذ الفعل. النزوح واللجوء يتفقان على أنهما هجرتين قسريتين غير إختياريتين، أما الهجرة، فهي عملية طوعية، وكلها مجتمعة هي عناصر مكونة لعملية الحراك السكاني، التي تحدث بسبب المجاعة والحروب وتدهور الأوضاع الأمنية وسوء الأوضاع الاقتصادية والإضطهاد العرقي والديني. الهجرة في بعدها التاريخي، مرتبطة بشكل عضوي برغبة الإنسان في التغيير وفي البحث عن معيشة أو حياة أفضل. في علم الإقتصاد، تتجسد الهجرة، أي حركة قوة العمل، في قانون العرض والطلب بين مجموعتي الدول الفقيرة والثرية. الاولى تعرض فائضها من اليد العاملة، التي لا تجد فرص عمل كافية، بينما الثانية تعاني من نقصها، التي تكفل إستمرارية عملية الإنتاج. هذا التبادل يحقق فائدة مزدوجة للطرفين، أي المصدِرة للأيدي العاملة، والمستقبلة لها. فهناك، إذن مصلحة تبادلية وتكاملية لهجرة قوة العمل.
في الحقيقة، تعاني معظم الدول الصناعية المتقدمة، ومن ضمنها الأوروبية، أزمة ديموغرافية، مرتبطة بمشكلة الشيخوخة وانخفاض معدلات الإنجاب. وهي أزمة تهدد مستقبل القارة "العجوز"، حيث تشير التنبؤات بإنخفاض عدد سكانها خلال السنوات القادمة بنسبة 13%، ومن المتوقع أن تصل نسبة فئة الأعمار ما فوق 65 عاما الى الربع من مجموع السكان بحلول سنة 2050، علما أن 10% فقط منها ستكون باقية في ميدان العمل. وفي هذا الصدد، تشير بيانات صادرة عن معهد الإحصاء الوطني الفرنسي، الى انخفاض عدد المواليد في البلاد بنسبة 2 في المائة مقارنة مع 2015، وفي ألمانيا تراجع عدد الولادات نسبة الى الوفيات بمقدار مائتي ألف، وفي إيطاليا نحو مائة وستون ألف. أما على مستوى الإتحاد الأوروبي ككل، فقد بلغ عدد المواليد الجدد 5 ملايين مقابل 5,2 وفيات لنفس العام. ووفقا لإحصائيات ألمانية، فمن المتوقع أن ينخفض عدد سكان إلمانيا الى 78 مليون نسمة خلال العقود الثلاثة القادمة، ثلثهم من فئة كبار السن، العاجزة عن العمل. وليس واضحاً بعد، كيف سيتمكن الهؤلاء بتسديد الديون التي راكمتها 82 مليون شخص في السنوات السابقة.
على هذه الخلفية، جاءت فكرة الهجرة كبديل قادر على تعويض النقص الحاصل في اليد العاملة ومعالجة مشكلة التهرم السكاني في تلك المجتمعات، حيث يشير تقرير لصندوق النقد الدولي، الى أن زيادة الهجرة بنقطة مئوية واحدة في صفوف السكان البالغين في البلد المضيف، قد تعزز الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة 2 بالمئة على المدى الطويل. وحسب بيانات الأمم المتحدة، يتعين على بلدان الإتحاد الأوروبي حتى عام 2050، إستقبال نحو 1,8 مليون مهاجر سنويا، كي تستطيع الحفاظ على عدد النشطاء الإقتصاديين وتأمين زيادة في النمو الديموغرافي لديها. فضلاً عن كل ذلك، تحتاج غالبية هذه البلدان الى فئة خاصة من العاملين، الذين يقومون بأداء أعمال قذرة ومتدنية الكفاءة، غالبا ما يمتنع المواطن المحلي عن ممارستها.
ولكن في المقابل، فأن تصاعد أعداد المهاجرين الى أوروبا مؤخرا، قد يُخلق مشاكل وتوترات اجتماعية مزمنة، وتثير ردود أفعال سياسية معادية لهم في البلدان المضيفة. ولعل تقوية نفوذ الحركات اليمينية المتطرفة وتصاعد خطابها الشعبوي خلال السنوات القليلة الماضية هو أسطع دليل على ذلك. صحيح أن الهجرة غذت النمو الاقتصادي في بلدان الاتحاد الأوروبي، بيد أنها أبطأت، في الوقت ذاته، معدل النمو السنوى بنحو 0,8% في المائة مابين 2011 و 2015. وسبب ذلك، حسب معطيات البنك الدولي، يعود أساسا الى تدني بنية القوى الوافدة، من حيث المهارة والقدرة التنافسية والانتاجية، حيث تنتمي غالبيتها العظمى الى فئة الشباب في مرحلة ما قبل البلوغ، والتي تتطلب تخصيص أموال ضخمة لتدريبها وتأهيلها وخلق أفضل توازن بين مهاراتهم وإحتياجات السوق. في هذا السياق، يجدر التنويه الى ظاهرة أخرى، تكرست خلال العقود الأخيرة في مجتمعات دولة الرفاه، وتتجلى في نشوء حالة من الوهن وذبول الحيوية، أفضت الى خلق شريحة عاطلة عن العمل، تستهلك الخيرات وتسبب المشاكل في المجتمع، مما أدى في نهاية المطاف الى بروز حالة من فقدان الحماس والنشاط تشبه الإنحطاط. ومع مرور الزمن أتسعت حدود هذه الفئة وإزدادت قوة وجبروتا. يُضاف إليها الآن فئة أخرى أجنبية مهاجرة، تطالب أيضا بمزيد من الحقوق والإحتياجات. في المحصلة، نشأ وضع، بات فيه أولئك الذين يعملون وينتجون الخيرات، يشعرون باليأس والتزمر الى درجة أصبحوا معها يبالغون في تصرفاتهم وسلوكهم المتعصب وغير المتسامح! وهنا يجب التأكيد على أن المشكلة لا تكمن في وجود دولة الرفاه بحد ذاتها، لأن عدم وجودها يعني ترك المرضى والمعوقين والعجزة، الذين لا يستطيعون التحكم بمصائرهم وقواهم، الى تعسف وجَوْر القدر. القضية تتمثل في إتكال الفرد المنتج والقادر على العمل، على هبات ومساعدات إجتماعية مدى الحياة! ومن هنا ينبغي فرض قيود مالية وقانونية معينة تسد الطريق أمام سوء التصرف، وتدابير تضمن منحها لأشخاص، يستحقونها وتكفل لهم آفاق من أجل المُثابرة والمواظبة على العمل، وتمنعهم أن يتحولوا الى كسالى يبتزّون الدولة الى آخر رمق.

تحويلات المهاجرين المالية
على العموم تساهم الهجرة في تحقيق عملية التنمية من خلال ثلاثة محاور: التحويلات المالية، ونقل المعارف والخبرات المكتسبة الى الوطن الأم، وبناء المشاريع الاستثمارية المشتركة التي يؤسسها المغتربين. وتشكّل التحويلات المالية للمهاجرين مصدرا بالغ الأهمية لرفد إقتصاد العديد من البلدان بالموارد المالية، ولتدفق الرؤوس الأموال الأجنبية إليها. فقد أرسل المغتربون في عام 2014، ما يزيد على 435 مليار دولار الى أوطانهم وما يقارب 460 مليار دولار حتى نهاية عام 2015. من الناحية الاقتصادية، تعتبر التحويلات المالية نقطة إيجابية للهجرة، وتأتي بمثابة حافز قوي لتشجيع الإستهلاك المحلي، وزيادة الأصول المالية، حيث تقوم الأسر الفقيرة بإستخدامها لتلبية إحتياجاتهم الأساسية، ولتمويل التعليم والرعاية الصحية والإسكان والاستثمار في المشروعات الصغيرة، بينما تقوم الأسر الميسورة الحال بإستثمارها في شتى الميادين. وتشير إحصائيات عديدة بتفوق حجم التدفقات المالية للمهاجرين حجم تدفقات المعونات الأجنبية وتدفقات الإستثمار الأجنبي المباشر. وتنعكس الآثار الإيجابية للتحويلات على الاقتصاد الكلي للدول المستقبلة، في دورها الهام في مساندة ميزان المدفوعات فيها، وفي دعم إحتياطاتها من النقد الأجنبي، بشرط توفر البيئة المناسبة والسياسة الإقتصادية الرشيدة. أما على مستوى الاقتصاد الجزئى، فإن التحويلات تساعد على تكوين رأس المال اللازم للمهاجرين بما يمكنهم من القيام بمشروعات إقتصادية، تمكنهم من الإرتقاء بمستوى المعيشة والإنفاق لأسرهم. لكن ومع ذلك ورغم آثارها الإيجابية على الإقتصاد ككل، إلا أنها تعتبر ظاهرة مؤقتة، ولا تساعد كثيرا على خلق فرص عمل دائمة، وهي بذلك لا تمثل بديل للجهود الرامية الى تحقيق النمو المنشود. علاوة على ذلك يتوجه الكثير من المهاجرين الى جلب أسرهم الى بلد الإقامة في مرحلة ما.

البحث عن حلول
الهجرة كونها قضية سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة، تحتاج الى تفكير وتأمل جاد في أسباب نشوئها، والتي تتلخص بشكل أساسي في ميل الناس الطبيعي في البحث عن مكان آمن لهم. لذلك، يجب التعامل مع قضية المهاجرين بأبعادها الانسانية وبعيدا عن المتغيرات السياسية. وأنه من المؤكد، في حال تحسين الأوضاع الأمنية العامة وتأمين فرص عمل كافية لهم ولأفراد أسرهم ومعالجة قضية اللامساواة، فأن نسبة غير قليلة منهم ستباشر بالعودة الى أحضان الوطن الأم. وعليه ينبغي، في المقدمة، تفعيل الآليات والإلتزامات الدولية لعودة سليمة، وتوفير أرضية ملائمة تشجعهم على الرجوع. من هنا يجب تبني إستراتيجية واضحة، كتلك التي تتبعها مؤخرا بعض دول أوروبا الوسطى، التي تعاني ايضا من هجرة العقول والأيدي العاملة من أصحاب المهارات والمستوى التعليمي المتميز، إستراتيجية قائمة على تخصيص أموال كافية لبرامج العودة.







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=21984