تحريف التحريف
التاريخ: الخميس 11 شباط 2016
الموضوع: اخبار



د. محمود عباس

  تخطت سوريا ثلاثة مراحل من الصراع، طمرت بعضها، ونبتت على لحدها مؤامرات واستراتيجيات، بدأت بين الشعب والسلطة، فظهرت على ساحاتها أوجه عديدة، وشرائح مارقة، من البشع إلى الأبشع، وخطت مؤامرات متنوعة من القذر إلى الأقذر، وعقدت مؤتمرات مليئة بالنفاق، حامت حول طاولاتها كل أنواع النفاق ناهيكم عن الانتهازية وتجارة الحروب، وتلاقت ضمن أروقة فنادقها أشرار العالم. والصراع الأن على عتبات الموتى، لنقلها إلى مستنقع أقذر، ستؤدي إلى المزيد من الدمار وتكثيف عمليات النزوح، والتهجير القسري، وزيادة المعاناة والتجويع، وتكوين معسكرات جديدة، يسهل لتجار الحروب المزيد من الأرباح والنهب. ففي الحروب تباح كل المقدسات، فكلما ظهرت عقبة أمام اتفاقيات الدول الإقليمية والكبرى حول سوريا، تزداد مآسي الشعب في الداخل، وتتفاقم المعاناة.


 لم يبقى مكان لدخول قوى جديدة، غطيت مساحاتها، بكل أنواع الأشرار، لا علاقة تربطهم، سوى أساليب القتل، فمعظم المعارك الجارية، صراعات متنوعة، تجاوزت حدود الطائفية، والقومية، والعامل المشترك الوحيد هو أن الدمار شكله واحد، ومعاناة الشعب واحدة، والنزوح يشمل الجميع، مع ذلك هناك قوى تريد أن تبلغ نهايات تلك الأطراف التي لم تبلغها التدمير بعد. فسلطة بشار الأسد وبعض الدول الإقليمية، تخطوا مرحلة الاتجار بقضية الشعب السوري، والصفقات أصبحت تعقد على سوية تجار الحروب، تحت أغطية الوطنية والمذهبية، والديمقراطية والحضارة.
لسنا في سرد الأدب التراجيدي، فسوريا ستكتب عنها على مدى قرون قادمة، وبأكوام من الصفحات الأدبية والفكرية، وستسطر عنها أشعار بلا حدود، وستعرض مسرحيات لا نهايات لها، ستبقى جميعها دون سوية مأساة عائلة واحدة ضاعت تحت أنقاض برميل من البراميل التي أسقطتها طائرات بشار الأسد، أو صاروخ روسي، ولن يبلغوا معاناة أطفال سوريا المتجاوزة مراحل فقدان الذات الطفولية. فلكل سوري روايات تراجيدية تكفي لخلق ملهاة إلهية مكتوبة بأقلام الأباليس. 
  سوريا تنزف، بكل قومياتها وشعوبها وطوائفها، دماً واقتصادا وسياسة، ولم يعد في كيانها مكان لجرح آخر، من همجية سلطة بشار الأسد، وجهالة المعارضة، وكأنها تعاني من مرض الناعور (اقتباسا لمقولة الأخ إبراهيم محمود، بعد معذرة منه، وفي حالة مخالفة) والتدخلات الخارجية الشريرة، فاقمت من المعاناة. فمن لا يعاني منه جسدا، أو روحا أو فكرا، ضمن الذين لهم رابط مع سوريا، لا بد وأنه يسكن جغرافية العدم، أو أنه يعيش العدم الفكري، ومن لا يشارك كلية المآسي والمصائب والقضايا المصيرية، لابد وأنه في الظلمات قانع، فالمشاهد الحقيقي هو الذي يرى كل الأوجه البشعة والشريرة المحاطة أو المقتحمة لأرض سوريا والغارزة مخالبها في الثقافة السورية، الإنسان السوري يعاني من كل الأبعاد والأطراف، والذي يشاركهم لا بد وأن ينتبه إلى المصائب كلها، فلا فرق بين البعيد عن الوطن أو الساكن فيه، ومن يميزها يكون منخدعاً لمفاهيم بثتها سلطة بشار الأسد، منذ بدايات الثورة السورية، وهو التفريق بين الخارجي والداخلي، مطلوب من الكل، والخارجي بشكل خاص إزالة الأغطية عن الخبثاء قدر المستطاع، فأنصاف الحلول تؤدي إلى المزيد من الأخطاء وترسخ ديمومة المعاناة واستمرارية الثقافة المشوهة، وطغيان الاستبداد.
 نقل بشار الأسد وحلفائه الثورة السورية وبحنكة خبيثة، من مرحلة الصراع بين الشعب ونظامه، إلى صراع بين سلطته والطامحين إليها، وغيبوا معا شعار إسقاط النظام، استمرت العملية سنوات ثلاث ، أكثر أو أقل، فالتاريخ سيظهرها يوما ما، ليتدخل فيها قوى بوضوح أكثر، وبعد أن كشف الغطاء عنهم، أنحرف الصراع على السلطة مرة أخرى، إلى الولوج في صراع دولي على أرض سوريا، انتقلت القوى المتصارعة على السلطة إلى أدوات لتوزيع المصالح الاقتصادية على سوية الشرقين الأوسط والأدنى، فالأدوات في نهايات تلك المرحلة أصبحت أكثر من واضحة، واستخداماتها بينة، والصراع تجاوزت عمليات الطغي على السلطة، لتولج إلى هيمنة مذهبية، وصراعات قومية وثارات تاريخية، جميعها تداخلت، وحاول كل طرف تغطيتها بغطاء، تحتها بقيت تلك الأوجه الشريرة والبشعة. استمرت المرحلة فترة أقصر من الأولى لكنها كانت أقذر وأعنف، دفع ثمنها الشعب السوري من دمائه وأمواله. 
  لبشاعة الصراع الأخير، وتفاقمه، والتوازن الذي كان بين الطرفين، أحيت كل جهة منظمات شريرة من ذاتها، لتنتقم، فبدأت المرحلة الثالثة، وهي الانتقام دون غاية وهدف، وشملت الجميع دون استثناءات، أشرك الطرفان فيها الأمنين من الشعب، بتقسيمات اعتباطية، فغذى وأشبع بعضهم داعش وضخموها، دعموا النصرة وأشباهها، وبما أنها منظمات تكفيرية إسلامية المنبع، تفرز كل من ليس معها حسب مصالحها، تكفر الدول الكبرى، والسلطات الإقليمية مارقون وأعراب، ومن ليس معهم مرتدون أو أعداء للدين، استخدموا هذه المفاهيم ودعموها بأجزاء متقطعة من الثقافة الإسلامية، وبالطرق البشعة، اسندوها بحوادث تاريخية متضاربة، دون أن يكون لهم إيمان بها، فكان من السهل لاتباعهم سلك كل الدروب، وأصبح بالإمكان استخدامهم من جميع الأطراف، فطبق معظمهم معادلة قذرة لا أخلاق وقيم فيها، مقدار ما تقدم ستحصل على النتيجة.
  وعلى بنيته خدموا كل الدول الإقليمية، من إيران وسلطة بشار الأسد إلى تركيا والسعودية، ومن أمريكا إلى روسيا، إلى أن بلغوا من القوة لتهدد مصالح الدول الكبرى في جغرافيتهم، وعليه ظهرت بدايات المرحلة الجارية، الرابعة، التي على أبوابها تكاتفت الدول الإقليمية وبضغط أمريكي روسي، لعقد جنيف-3، والغاية الرئيسة منها أيصال الصراع السوري بين المعارضة وسلطة بشار الأسد إلى الأبواب المغلقة، إما عن طريق إنهاكهما كليا، أو إيصالهم إلى نهايات الطرق، وبالتالي إرضاخهم على قبول الاتفاقية المسبقة بالشروط التي يريدونها، والمهم هنا، أنهاء الصراع المسلح قدر الإمكان، ليتجه الطرفان إلى الصراع الذي ترغبه أمريكا وروسيا، ولا يهمهم، إن كان عن طريق سلطة (وطنية) أو (انتقالية) بدستور لا مركزي أو نظام فيدرالي أو سلطة مركزية شمولية جديدة، ببقاء بشار الأسد، أو خروجه دون محاكمة، أية شرائح ستستلم السلطة القادمة، انتهازية منافقة، تجار حروب، أو وطنية كآخر احتمال، سورية عروبية أو متعددة القوميات، المهم حل سياسي ترقيعي، وإيقاف المعارك في الأماكن التي لا تندرج ضمن مصالحهم.
 قلائل من يدركون أن الثورة السورية لا تزال موجودة تحت الرماد، وحرفت بمهنية عالية، وتخلصت السلطات المجاورة من لهيبها، وهم على أبواب أن يشكروا بشار الأسد وسلطته وحلفائه، على تحريفها، والصراع المذهبي مزجت بالصراع القومي، وفوقهم جميعا تبني القوى الكبرى، عالم جديد، بمفاهيم حديثة، وبمناظيرهم، وتبحث عن نشر ثقافة جديدة، تتلاءم والعالمين الإسلامي والحضاري، والمنظمات المتصارعة والدول الإقليمية تختلف على الثانويات من الأمور، وعلى سوية تكتيكات لا تتجاوز جغرافيتهم، وهم جميعا يندرجون ضمن استراتيجيات الإمبراطوريات الاقتصادية السياسية والعسكرية المهيمنة على الأرض.
   فسوريا كانت المحرقة، وشعوبها تدفع الثمن، إلى سويات تجاوزت التقديرات البشرية، وبلغت مسيرتهم المرحلة التي تمناها بشار الأسد وسلطته، حيث منطق اللاجدوى من ثورة الشعب، ومرحلة إثارة السؤال المقرف، هل الأفضل للسوريين ما هم فيه الأن أو ما كانوا عليه قبل الثورة؟! مع ذلك المسيرة مستمرة وجدلية الصراع نحو الأفضل لن تنتهي، والدكتاتوريات الموجودة في المنطقة ستزول في الزمن الآتي، بالطريقة السورية أو غيرها، فالموجود، ثقافة وسياسة وواقع اقتصادي واجتماعي لم تعد تتلاءم والتطورات الحضارية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
9/2/2016
 






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=20252