آلة الاستبداد ولذة المواجهة (شهادة ذاتية) ... 2/4
التاريخ: الجمعة 20 تشرين الثاني 2015
الموضوع: اخبار



إبراهيم اليوسف

في مشفى الأسد الجامعي:

لحظة صدق عالية التوتر
بعد أن تأكد الطبيب الذي توسط لي في صيف العام 1999 بتأمين موعد لإجراء عملية استئصال المرارة لي في مشفى الأسد الجامعي في دمشق أن لا أحد في الغرفة معي، سوى مرافقي، وهو ابن عمي المعيد الجامعي - حالياً - في إحدى الجامعات في تركيا، محمد إبراهيم توجه نحوي وأنا على السرير ليقول لي بصوت مهموس: "أريد أن أعلمك بشيء، من أين أتيت بكل الشتائم ضد..." ولم يجرؤ على ذكر الاسم، لأفهم - فوراً - أنني خلال عمليتي المحرجة التي استغرقت خمس ساعات، قد شتمت رأس النظام، وأنا تحت التخدير، ما جعلني أتوقع بأن تتم مساءلتي، فور مغادرتي المشفى، أو بعد ذلك. وما زلت أنتظر الفرصة، كي أسأله: ماذا كانت شتائمي، وأنا تحت تأثير المخدر؟


فلاش باك:
الطبيب الأمي
في الصف الثاني الثانوي 1978 كتبت مسرحية فكاهية بعنوان "استرنا الله يسترك" أخرجها الفنان فاضل بدرو، تناولت فيها شخصية من يتنطع لأداء مهمة وهو أمي، ثم كتبت مسرحية أخرى، منطلقاً من الفكرة ذاتها بعنوان "الطبيب الأمي" حضر رئيس المركز الثقافي في قامشلي محمد سليمان أحد تدريباتها، ما جعله يجن لما فيها من مقولات، واصطدم مع أعضاء الفرقة، بل اعتدى على بعضهم، بيديه، بشكل هستيري، وحولهم إلى مخفر الحي الغربي، وكان من بين الموقوفين الفنان كانيوار، والراحل جمال جمعة، وعبدالهادي إبراهيم وآخرون، وقد فقدنا نص المسرحية الذي بقي "في المخفر"، ولايزال، دون أن يعاد إلي...؟! .

المعهد العالي للفنون المسرحية:

خارج السياق/داخل السياق
بعد أن نلت الشهادة الثانوية، أرسلت رسالة إلى "المعهد العالي للفنون المسرحية" أبين فيه، أني نتيجة ظروفي الاقتصادية لم أتمكن من تقديم أوراقي للدراسة في المعهد، في موعدالمسابقة المحدد،  فتمَّ الرد علي - من مدير المعهد رياض عصمت - يحدد لي فيه موعداً لفحص المقابلة، بيد أن عدم مقدرتي على تأمين أجرة الطريق إلى دمشق، لحضور الفحص المذكور، فوت علي الدراسة في هذا المعهد، وهو ما شكل غصة، في حلقي، إلى وقت طويل...!

القنبلة
بعد حادثة مدرسة المدفعية، كنت وفرقتي المسرحية التابعة للمركز الثقافي في قامشلي قد انتهينا من عرض مسرحية "القنبلة" من تأليف رياض عصمت على خشبة مسرح المركز الثقافي، وبدأنا نعد العدة لعرضها على خشبة المركز الثقافي في الحسكة، وراح عدد من زملائي من أعضاء الفرقة، مع عدد من الممثلين في مدينة الحسكة يلصقون إعلانات عرض المسرحية على جدران الشوارع والساحات الرئيسة في الحسكة، وهي تحمل العبارات التالية: ترقبوا قريباً "القنبلة" في المركز الثقافي في الحسكة. إخراج إبراهيم اليوسف.
فجراً، تفاجأت بـ "دورية" من أحد الفروع الأمنية تداهم بيتي الطيني البسيط، وتقودني إلى مقر الفرع، لأظل هناك حوالي أربع وعشرين ساعة، راح يجري خلالها المحققون اتصالاتهم، بهستيريا، ليتأكدوا أن هناك فعلاً مسرحية بهذا العنوان، وأن لا علاقة لي بإبراهيم اليوسف المطلوب في مجزرة مدرسة المدفعية في حلب (وهو الاسم الذي سبب لي أكثر من إشكال) لتتوزع فرقتي المسرحية في فرق أخرى، ولأبتعد عن المسرح، مكرهاً، بعد تذرع القائمين على المركزين الثقافيين بضرورة مرور بعض الوقت على ما تم، ويبدو أنه، وحتى الآن، لم يأت الوقت المناسب، حيث ابتعدت تدريجياً عن المسرح.
 
في مكتب محافظ الحسكة
أول استدعاء رسمي لي، تم، وأنا طالب في الثانوية في العام 1978، عندما دق باب بيتنا شرطي من مخفر الحي الغربي، وقال: أنت مدعو إلى الحسكة غداً في تمام الساعة التاسعة صباحاً لمقابلة سيادة المحافظ (حسين حسون). 
أمنت من أبي مبلغاً بسيطاً يزيد بقليل عن أجرة الطريق بين "قامشلي" التي أقيم فيها والحسكة، ذهاباً وإياباً، ميمماً وجهي في الصباح الباكر إلى كراجات المدينة، لأصل الحسكة بعد أقل من ساعتين، بوساطة أحد باصات "الميكرو"، وأتوجه بعدها إلى مقر المحافظة في الوقت المطلوب، وأفاجأ بنار الغضب تتطاير من عيني الرجل الذي صعقني بعدم سماحه لي بالجلوس، وعدم فسح المجال لمصافحته، إذ سألني باستخفاف، وهو يذرع مكتبه جيئة وذهاباً: أأنت إبراهيم اليوسف؟

قلت: نعم.
ثم أخرج إحدى الصحف المحلية، كنت قد كتبت فيها شكوى خدمية، على ما أذكر، وقال: هل أنت من كتبت هذا الخبر؟ فقلت له: نعم. استشاط جنوناً، وهستيريا، وغضباً، وراح يتصرف كزعيم عصابة، وليس كمحافظ (سيصبح فيما بعد وزير "عدل"): لم تكن ثقافتي لتسعفني بأن أجادله، بأكثر من قولي: اقرأ أليس في أعلى الصفحة قول السيد الرئيس حافظ الأسد "لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ ولا أن يتستر على العيوب والنواقص"، العبارة التي رُددت بعض الوقت، لمواجهة الفاسدين. وأردفت: كلما أجد خطأ سأكتب عنه، ليجيبني بصوت: "اخرج، إن شاء الله، أراك مرة أخرى، وقد أسأت إلى سمعة البلد، انظر: سأرميك من الشباك إن كتبت مرة أخرى في هكذا قضايا يدفعك إليها الأعداء"!
طبعاً، واصلت كتابتي، منذئذ، وعلى نحو متواصل، في خدمة من حولي، وإن كان على حساب إنتاجي الإبداعي، وظل تهديد الرجل يتردد في أذني، حتى بعد أن وصلت إلى مطعم "الشاورما"، حيث هناك أحد معارف الأسرة "الملاكم أحمد ملايونس" لأشتري منه سندويتشي، آكلها، بشهية، وأعود أدراجي إلى  ريِّ الحسكة، أسبح فيه بعض الوقت، وأنطلق بعدها إلى الكراج، متوجهاً إلى قامشلي، لأردِّد على مسامع كل من التقيتهم، حواري مع المحافظ، وأنا أشعر بالزهو لأني استطعت أن أغيظه.

فنجان قهوة
كتبت في مقال لي ما معناه أرفض الاستجابة لأي استدعاء مبطن بعبارة "أنت مدعو لشرب فنجان قهوة عندنا" التي صارت تغطي على مصطلح "الاستدعاءات الأمنية" عشية الذكرى الأولى لاستشهاد الشيخ الشهيد معشوق الخزنوي، وحدث أن تمت دعوتي ذات مرة إلى فرع الأمن العسكري، فرفضت الاستجابة، لأسابيع عدة، ويبدو أن صبر الجهات الداعية قد نفذ، ما جعلني أفاجأ صباح ذات يوم جمعة بدورية من الجهة المذكورة تقتحم باب بيتي لتقودني إلى مقر فرع المدينة، وليتم تسليمي كتاباً بمراجعة "فرع فلسطين" خلال ثمانية وأربعين ساعة (وهو ما كتبت عنه آنذاك المنظمة الكردية لحقوق الإنسان والحريات العامة – داد). سألت عدداً من المهتمين بالشأن العام، فقيل لي: أمامك خياران إما أن تلوذ بالفرار خارج البلد، أو أن تستجيب للاستدعاء.

رهاب الاستدعاءات
ليس أسوأ من التحقيق الأمني، إلا وقع الاستدعاء الذي يسبقه وهو ما يذكرني بمقولة كانت ترددها أمي رحمها الله، وهي: ليس أسوأ من لدغة العقرب إلا مشيتها على جسد الملدوغ. لا سيما حين لا يعرف المرء عم سيستجوب، إذ تنتابه آلاف الوساوس، وقد يحضر المرء لنفسه إجابات حول أكثر ما يتوقع أنه سيكون سبب الاستدعاء الأمني بيد أنه قد يفاجأ بأن التحقيق عن أمر آخر، لم يتوقعه. في مثل هذه الحالات كنت أتصرف وكأنني لن أعود إلى البيت، أخبىء إرشيفي في مكان غير متوقع، وأرتدي ما يكفي من الملابس الدافئة، والألبسة الداخلية المناسبة، بالإضافة إلى تأمين ما يمكن من مال لإعانتي في حال الاعتقال. ولقد حدث ذات مرة، وأنا أعود من تحقيق أحد الفروع في دمشق، ليتم إعلامي، عبر الهاتف قبيل وصولي إلى مدينتي، باستدعاء من جهة أخرى في العاصمة!

الشيخ والشيوعي
بعد استدعاء أمني للشيخ الشهيد د. محمد معشوق الخزنوي، من قبل مسؤول الأمن السياسي في قامشلي (لشرب فنجان قهوة) وكان اسمه محمد الحريري، جاءني إلى البيت، وقال: تصور، أثناء التحقيق معي، قال لي ذلك الضابط: نتفهم علاقتك مع القيادات السياسية الكردية، وهذا من حقك، ولكن، ما الذي يجمعك بالشيوعي الملحد إبراهيم اليوسف؟

رقابة قصوى
كنت أضطر إلى أن أرسل رسائلي إلى خارج سوريا، من البريد المركزي في دمشق، عن طريق الأصدقاء الذين يسافرون للعاصمة، أو أكدسها فوق بعضها بعضاً إلى أن أسافر، بين حين وآخر، وذلك لأن تسعين بالمئة من رسائلي المرسلة من بريد مدينتي كان يحجر عليه، وهكذا بالنسبة إلى الرسائل الواردة، ناهيك عن تأخر الرسائل العادية جداً أشهر عدة أحياناً. ولعل أحد مهندسي البريد - واسمه المهندس إسكندر ملكي" وهومن سريان قامشلي - قدم استقالته من العمل، وحين سألته عن السبب، قال لي: "إنهم يريدونني أن أكون مخبراً على خط هاتفك وعلى خطوط بعض الأشخاص القياديين الكرد أو المعارضين الآخرين، ومنهم بعض قيادات المنظمة الآثورية" - نسيت الآن من كانوا جميعاً - ما دفعه إلى مغادرة البلاد وتقديم اللجوء في أحد البلاد الأوربية. ومن أغرب حوادث مراقبة الموبايل هو أن إحدى السفارات الأجنبية دعتني عبر الهاتف إلى عيد بلدها الوطني، وما إن أغلقت الهاتف، حتى وردتني مكالمة أخرى من المحقق الذي كان مجرد تذكر ملامح وجهه يستفزني، فقال لي: "ما دمت ستحضر حفلة السفارة الفلانية، في دمشق، مرّ، علينا لنستكمل التحقيق!" ما جعلني أعتذر عن حضور الحفلة، وأكلف أحدهم بحضورها نيابة عني، وأغلق هاتفي أكثر من شهر، تجنباً من استدعاء أمني، وقد مررت بمرحلة زمنية، كلما رن هاتف المنزل أو الموبايل، خفق قلبي، واضطربت، إلى أن أطمئن أن الاتصال عادي لا علاقة له بالاستدعاء الأمني.

أشهد أنني خفت كثيراً
بعد أن تم إطلاق النار، من قبل أجهزة الأمن السوري على المحتفلين بعيد نوروز 2010 في الرقة، تمت اعتقالات واسعة في صفوف الشباب الكردي، وتم حجب الإنترنت لأيام عدة، فاتفق بعض طلبة الجامعة الكرد في الرقة من زملاء ابني - آراس - ودون علمي الشخصي، أن يرسلوا "شريحة الذاكرة" التي تتضمن مشاهد إطلاق النار على المحتفلين - في علبة دواء متوافرة أصلاً في كل الصيدليات، عبر إحدى شركات النقل، باسمي. لا أخفي أنه حين أعلمني ابني بالأمر، أحسست بمسٍّ من الكهرباء يصعقني، فأنا منعت من العودة إلى الإمارات، وضاعت علي فرصة عملي، إضافة إلى أن الكاتب حفيظ عبدالرحمن - وهو من أقربائي - ألقي القبض عليه قبل أيام، وهو مجهول المصير، وصودرت مخطوطاته، وأنا لما أزل مطلوباً للتحقيق من قبل أكثر من فرع أمني، ناهيك عن أن التدقيق الأمني على الطرود والرسائل على أشده، وما زاد من توتري، أن - الطرد البريدي - تأخر ثلاثة أيام، لم أدر كيف أمضيتها، حيث لم أعرف طعماً للنوم، وكنت أتواصل مع هؤلاء الشباب الذين يعمل أحدهم في جهة الشحن، مستفسراً عن ساعة وصول السيارة واقفا مقابل تلك الشركة لساعات، طوال اليوم، عسى أن يصل الطرد المطلوب، وأتخلص من أعلى حالة قلق وتوتر مر أمر بها. بعد مرور ثلاثة أيام، اصطحبني الشيخ عبد القادر الخزنوي بسيارته، ليراقبني عن بعد، حيث مضيت إلى مكتب الشحن وسلمني الموظف الأمانة، لأطير بها إلى البيت غير مصدق، ولنرسل مضمونها من كمبيوتر شقيقي مهندس الاتصالات أحمد، ويصل أحدها إلى بريد - المرصد السوري - عبر إيميل وهمي  "saman" أعده بهذا الخصوص، ولتبث الفضائيات، ومواقع الإنترنت اللقطات المصورة، إلى وقت طويل.

يتبع ....







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=19938