قامشلو وقرنا الثور «عن زيارتي الأخيرة إلى قامشلو»
التاريخ: الثلاثاء 20 تشرين الاول 2015
الموضوع: اخبار



 ابراهيم محمود

كتبت عما رأيتُ أكثر مما سمعت، وسمعت ممَّن رأى ويرى أكثر مما يسمع ما يجري في روجآفا، وأحدد هنا " قامشلو " مَربَعي النفسي والحياتي منذ عدة عقود من الزمن، وذلك في زيارتي السابقة إليها بين الثلاثين من تشرين الثاني والرابع من كانون الأول لعام 2014، وهأنذا أكتب عن زيارتي المطوَّلة إليها عائلياً" صحبة رفيقة دربي وابنتي " ما بين السابع والعشرين من أيلول والسابع عشر من تشرين الأول لعام 2015. كانت قامشلو وما يحيط بها تننفس على " قرني ثور"!


حكاية/ خرافة " قرني الثور " ترددت أمامنا كثيراً ونحن صغار، عن الأرض التي تهتز، إذ كانت تفسَّر بأن ثوراً عملاقاً ينقل الأرض من قرن إلى آخر ليرتاح، وجرّاء عملية الانتقال يكون اهتزاز الأرض: قوة وعنفاً ، الأرض التي ترتعب هي الأخرى من ساكنيها وأولي أمرها.
لقد كتبت عن " المناسبة " رغم أنها ليست مناسبة " إذ متى كان للموت مناسبة يا تُرى؟"، حيث جاءت على خلفية من وفاة" حموي " يوم الخميس "مساء، أول أيام عيد الأضحى، ذهب قرباناً ما لذاك العيد، وكانت وفاته فجيعة" وقد كتبت عن هذه الوفاة مقالاً في الهزيع الأخير من ليل الخميس، وأبصر المقال النور في موقع ولاتي مه يوم الجمعة صباحاً في 25 أيلول 2015 "، وفجيعة موته لا تتعلق بمجرد رحيله الأخير، إنما جرّاء الانشطار الأهلي والعائلي والمجتمعي لكل منا في سوريا وروجآفا منها، وكل فجيعة تضاف إلى سابقتها، أي حيث يعيش كل مغترب قسري، أو نازح، أو لاجىء قسراً سلسلة ميتات/ موتات، وهو يعيش آلام المكان الأول وأهله.
وجاءت الزيارة المستعجلة، وبعد ثلاثة أيام بمساعدة رجل له موقعه الاعتباري والأمني في " دهوك " ومن باب التقدير المسجَّل له، إذ ثمة تشديد على الزيارات المتبادلة من باب الاحتياطات الأمنية وفي هذا الظرف العصيب والمضاعف كردياً قبل كل شيء. إنها حالة أخرى تستدعي كتابة خاصة عنها ليس هنا مجالها ومن باب الاحترام للعنوان وفحواه!

المرئي هو الذي يتكلم أكثر :
لا يحتاج الذاهب صوب قامشلو" قلْها قامشلي، قامشلية، قامشلوكي، في بعض التلفظات أيضاً احتراماً للمختلفين اثنياً ولغوياً فيها أيضاً "، إلى دليل يترجم ما يجري على الأرض الواقعة على طرفي الطريق المتعرج، وهو ينتقل من شرق نهر دجلة إلى غربه، حيث يختلف العالمان، وهو اختلاف طبيعي جهة المتحولات السياسية والأمنية، إنما ثمة مشترَك تخوفي يتلبسهما معاً" في الإقليم وروجآفا": الخطر الداعشي، والتهديد من الجوار بنسف أي حلم كردي ببناء كيان سياسي خاص به، إنما الخطر الآخر والمرهوب الجانب وهو يحمل علامة كردية كردية، على أرضية الخلافات المختلفة والتي تصل إلى درجة نسيان العدو المشترك في أكثر من " أحيان "، ودلالة هذا النسيان لا تتطلب تسمية لمن يريد أن يعلم.
من يقف أمامك، أو يستوقفك، أو يكون منظوراً إليك وهو رجل أمن، أو حارس نقطة مكانية، أو عسكري " أسايش "، وهو يطلب منك هويتك للتأكد من شخصك، أو يمعن النظر فيك أحياناً، كما لو أنه يتعرف إليك بالنظر وليس بالتدقيق في الهوية " البطاقة الشخصية "، وأحياناً يتكرر أكثر من سؤال عن جهة السفر وغيرها حرصاً على الأمن، وربما يحدث سوء تفاهم لأكثر من سبب: شخصي، مزاجي أو لا يخفي مزاجيته أحياناً، هنا وهناك، في مثل هذا المناخ الذي يستحيل التنبؤ بما يخفيه " طقسياً ".
هذا المشهد يفرض نفسه عليك، ويثيرك، أو ربما يستفزك من الداخل جرّاء المعاملة في هذه النقطة أو تلك. لكن تذكَّر جيداً وعلى مدار الساعة، أنك تعيش " جو حرب "، أو حرباً حتى وأنت في إقليم كردستان العراق، وأن الناظر إليك وهو يتفحصك قد تكون لديه أسبابه في طرح أسئلة سريعة عليك، غير متوقعة.. والحرب حالة طارئة يكون التوتر داخلاً فيها.
إن معايشة اللون الأخضر الداكن، أو الفاتح، في نقاط مختلفة على امتداد الطريق، ووراء الحواجز البلورية، حيث يتقاسم موظفون وإداريون وأمنيون ومتعددو مهام كرد في المجمل، لا تذكّر بالتفاؤل والخصب، كما هو رمز الأخضر بمفهومه النباتي والانبعاثي دورياً، إنما بوضعية حرب أو الاستعداد لها في أي لحظة، أو لأن ثمة ما يتخلل الملبوس وهو أن المرئي بلونه  يعرّف باللابس بوصفه منذوراً للموت في أي لحظة كرمى الأخضر الذي يرتديه، وهو احتمال قائم .
تغيير مسار الطريق عبر " تحويلات "، براكيات قديمة، وأخرى جديدة، كما هو لونها ومحيطها، وثالثة قيد التركيب، وسواتر ترابية وبراميل تنتصب في نقاط محسوبة وروافع حديدية وموانع على شكل جدول الضرب: حديدية بالمقابل وملوّنة، تحسباً لأي طارىء، ومطبات مستحدثة، وفوهات رشاشات ودوشكا وغيرها تسهل رؤيتها في مستويات مختلفة وحتى قناصة ينتشرون في أمكنة لها اعتبارها الأمني، خصوصاً أمام مداخل المدن المنتشرة على الشريط الحدودي لروجآفا، من العلامات الفارقة التي يعيشها القادم من هناك، أو المنطلق من هنا، ورغم ذلك، من النادر لفت النظر إلى حدوث إعاقة أو ممارسة زجر أو عنف كلامي وما شابه ذلك مع الغادي والقادم، إلا في حالات خاصة تتعلق بالاعتبارات الأمنية، وحيث تكون الكردية هي الجامعة بين الطرفين.
في مناخ الحرب، أو جوها، أو على مسرحها، يستحيل تجاهل انعكاساتها، طريقة الكلام، ما يستدعى منه، وما يتكرر على النفوس، إذ من المستحيل الآخر غض النظر عنها حتى إن لم يُؤت على ذكرها، لأنها تمارس " عنفها " في الداخل .
نعم، إن رؤية السواتر الترابية على مفارق الطرق، إلى جانب الإشارات التي لها صلة بالأوضاع الطارئة تبقي المرء في حالة تأهب وتهيب مما يراه ويعيشه، وهذه بداهة، فسوريا كادت تمضي عمرها السنوي الخامس في نار الموت والخراب والقتل والتدمير والانتقامات التي تبز العبث نفسه في بعض الأحيان، إذ لم يعد مجدياً السؤال: ماذا يجري، ومن يقتل من، وكيف يجري ذلك ؟ لأن كل جواب دون التحدي الكارثي، والعنف بوصفه " سيد الأحكام " حتى الآن، يبقي اللامعقول بأكثر من معنى حاصداً ثمار كل عقل قائم والدفع به صوب هاوية الذهول .
إزاء ذلك، ولهذه الأسباب لم يتوقف الأصدقاء عن متابعة كل خطوة خطوتها عائلياً إلى " الداخل " القامشلاوي، وهم الأحبة: ابراهيم يوسف، صبحي دقوري، عبدالواحد علواني، محمد شفيق علواني، عبدالغني ليلي...والمتابعة لها علاقة بالوضع اللامستقر طبعاً، إذ  لا ضمان لحياة أي كان هناك، رغم أن المعايش ما خلال الإشارات السالفة الذكر، يشعر كما لو أن كل شيء على صورته الطبيعية.. لكن ترقب الناس وتخوفهم من انفجار مباغت، أو رؤية رجال معنيين بالأمن، والذين يتقاسمون المناطق تبعاً لانتشار ديموغرافي: كردي، سرياني، عربي، وفي قامشلو بالذات، كل ذلك يؤكد على أن الجاري غير منفصل عما هو عام سورياً، فأي انفجار كارثي، أي هجوم" داعشي " مباغت متوقع، وفي أي لحظة .
كل ذلك كان يمتزج بالحزن العميق الذي تملكنا تجاه رحيل " بافي بدر" وهو " حَمُوي "، ونحن غير مصدقين متى نصل، وفي كل متر نقطعه كان التوتر يتضاعف، كما لو أن المكان نفسه يمارس دوره في تعميق المصاب.
والذين أعلمناهم بالزيارة كانوا في انتظارنا، كما لو أنهم اختزنوا تلك الطاقة الخاصة بالبكاء والحميمية والمؤاساة، عند اللقاء، أي لحظة الوصول، ليضفوا على الحدث الحِدادي قيمته الوجدانية وفاجعة الجاري، على خلفية من الغياب الطويل بالنسبة لـ" العائلة " أي  بعد أكثر من ثلاثين شهراً، وليكون للنواح طابعه الكرنفالي وتصاعده بين الفينة والأخرى، وهو تاريخ آخر يترجم نوعية العلاقة بين المتوفى وأهله .
وهو ألم تضاعف حين انطلقنا إلى النقطة التي دفِن فيها، في القرية التي عشت فيها طفولتي " خربة عنز "، وحيث يعيش أهلي الأعزة الذين مضوا حياتهم الأخرى: جداي " والدا أبي "، وعمي الذي رحل وأنا رضيع، وأختي الصغيرة التي رحلت وهي في عمر الأربع سنوات، وحيث تتجاور قبور أهلي وأهل رفيقة دربي، وكان تراب قبر " بافي بدر" يفصح عن جدته بنعومته وعدم نبت أي شيء فيه. أوه يا " بافي بدر " لكم كنت جليلاً في حياتك، وحتى في موتك المفاجىء، ونواح أهليك ومن كانوا أهليك في الجوار كان شاهداً على ذلك..وقد امتد الطريق بنا، جرّاء الوضع " غير الطبيعي، ونحن نمر بأكثر من حاجز لـ" YPG "، وفي العودة بأكثر من حاجز للنظام " عند دوار زوري، وقبل حي طي "، ومفارقة المرئي هنا جلية طبعاً .
هنا، وكما تحدثت عن المرئي، أتحدث عما كنت أدقق فيه كثيراً: حيث بدت قامشلو/ قامشلي، قامشلية، غارقة في فاجعة الحدث الذي شارف السنوات الخمس، حيث كانت وجوه الكثيرين في الشوارع التي عبرنا فيها غريبة تماماً" إنها وجوه القادمين من المدن الأخرى، وهم منكوبون ومفجوعون بكل شيء "، ليكون هناك فراغ ملحوظ يمثّل نسبة كبيرة ممن خرجوا مضطرين أو أشبه بالضطرين أو لهم أسبابهم، ربما، بصفة مهاجرين، ولاجئين، متفرقين في الجهات الأربع من العالم، ولا أخالني بعيداً عن الصواب إن قلت: إن الناظر في المرئي في المدينة الكبيرة: شوارع وأبنية ومحلات، يكون على بيّنة مباشرة مما تعيشه هي مع محيطها: المحلات التي تراءت أبوابها أو درابياتها بلونها الغامق المتآكل أو شبه الممحو، إلى جانب الأسماء التي تخص المحلات المختلفة، وحتى عيادات الأطباء والصيدليات، وهي تعيد الناظر إلى ما قبل وقوع الفاجعة السورية، ليكون هناك نخر في كل شيء، أو استسلام لمجهول غُولي أو ما يعادل ذلك .
الناس باتوا كثيراً في صورة الوضع غير المستقر، بحيث يسهل على الباحث في بنية العلاقات الاجتماعية مكاشفة الكثير من الأدواء في تقلبات المواقف، في العلاقات التي تحولت سياسياً، في نظرة كل منهم إلى نفسه وإلى الآخرين: حتى أقرب المقربين منه وإليه، في التواطؤات، في المساومات، في المحسوبيات، في التعاطي اليومي وما يمكن أن يُدفَع على كل علاقة، أو يُنتظَر منها...الخ، فتلك لائحة أخرى غير قابلة للحسم طالما أن ليس من يوم يمر دون جديد، وأن الكرد الذين يعرَفون بتقلباتهم وحساباتهم الجانبية ضليعون في مثل هذه التصورات والتحولات تاريخياً.
إن وجوه الناس هي خير ناطق بالعلامات الدالة على العلاقات القائمة وتوجهاتها أو مساراتها.. إذ ربما يستقبلك أي كان " بالأحضان "، ولكن ما أن يتفوه بالعبارة الأولى، حتى تتلمس سخونة المكابدة في الداخل، كما لو أن حواسه كاملة تترجم داخله" المحموم، المضطرم "، وهو لا ينفك يرسل بين الحين والآخر نفخة توجع أو أنة ذات مدى طويل أو تأوه يُشعٍرك بهوة متحركة في أعماقه اللجية.
مفارقة تسلّمك لأخرى، بحيث يصعب عليك القبض على الدائر من جانب آخر:
وهو يقوم بواجبه ناحيتك، كأن شيئاً لم يكن " نحن مضطرون لأن نتعامل مع السوق كما هي حركة السوق غير المستقرة، حيث الدولار " اللعين " يقيّم كل شيء: المشاعر، الانفعالات، الوجدانات، المهور، نوعية الكلام الدائر.. أرأيت لكم هي أمريكا نافذة في كل شيء ؟ "هكذا يكاد يصلك مغزى الكلام بالذات، وأنت على علم دقيق بالأسعار الكاوية وهي تعصف بتوقعات الناس " يستحيل على أي كان الاعتماد على راتبه، وأي راتب يسمى تجاه الغزو الهمجي لأسعار لا تعرف الرحمة ومن قبل من يحيلون كل شيء إلى الدولار، حتى لو أن البضاعة ترجع في تاريخها إلى ما قبل سنة من تخزينها طبعاً ؟"، هكذا يأتيك القول الجامع من هذا وذاك، إذ لا بد من معيل خارجي، وليكون الحديث عن هذا المعيل الخارجي مذكّراً بوجود فرد واحد على الأقل، من كل عائلة في أوربا، كما لو أن المستجد يتطلب هذا التبعثر..
أخي برهان والذي تعدى الأربعة عقود زمنية من عمره، لما يزل عازباً. إنه فيما هو عليه يجمع بين خاصية الرغبة في الزواج من شريكة حياة تتناسب وصورته عنها " وهي صورة فنان طبعاً "، وخاصية التأجيل للزواج على خلفية مما يجري.
تحدثنا كثيراً في هذا المجال عصر أحد الأيام، بينما كنت ألاحظ أحد المشاركين في ندوة لـ" ENKS "، حيث مكان الندوة مجاور لشقته تقريباً، وقد خرج إلى الشارع وهو ينظَف يحرّك نكاشة أسنان في هذا الاتجاه أو ذاك، كما لو أنه يعلِم الناظر أن الوضع مستتب طالما أن نتيجة كل لقاء تكون كبابية أو ما يعادل ذلك . لم أفاجأ بما رأيت، بقدر ما نسيت- تقريباً- إلحاحي على أخي بالزواج جرّاء عمر يتقدم به، ووضع لا تعرَف نهايته..
الصديق خليل مصطفى الذي زرته لأكثر من مرة، وصحبة العائلة في إحداها معزياً إياه في مصابه الجلل" فجيعته بولديه في الشاحنة السيئة الصيت " ومؤامرة الموت الموجه الكبرى في إحدى أعرق الدول الأوربية " النمسا "، وهو يفصح عما جرى بمزيج من التألم والتصبر معاً.
من جهة أخرى، يسهل التعرف إلى تلك الملَكَة النفسية لدى جل هؤلاء الذين بقوا، وهي ملكة " البقاء " واعتبار كل ما يجري اعتيادياً، كما لو أنهم مارسوا عقداً مع أي حدث يمكن أن يحصل أو واقعة مفجعة تنال من عددغير محدود من الباقين هناك، وتلك هي حياة أخرى لا تقدَّر إلا من قبل من أدركوا ماذا يعني العيش في ظل الموت الوشيك .
ضمن ذلك، وما يؤكد ما تقدم: هو القائمة الكبرى من التقسيمات التي نالت من المدينة، تقسيمات تخص الحواجز التي وضِعت والجدران الاسمنتية وأجهزة المراقبة الخفية والأعين المراقبة لكل حركة في الجوار، وحتى على مستوى التجاذبات المتعلقة بالعملية التربوية، في طريقة التعليم وأساليب التعلم بين الكردية والعربية، واختلاف الكرد أنفسهم في ذلك استناداً إلى مبررات لها صلة بما هو عام وخاص معاً اجتماعياً وسياسياً،  وهي قائمة تعلمك بالوضع الاستثنائي لعموم البلد، ولهذه المدينة ضمناً بالتأكيد، كما لو أن الناس تيقنوا أن ليس من حياة أخرى لهم، ولا بد عليهم من قضائها حتى آخر لحظة، سوى أن القاسم المشترك الأكبر بين الجميع هو: انسداد الآفاق، ولهذا آثروا العيش دون التفكير فيما يمكن أن يحصل على أكثر من صعيد .

في مهب الضيافات ومنحنياتها الهندسية المضيئة:
كيف يمكن الجمع بين نارية الأسعار وكرم الأهل والأصحاب والذين يشعرونك بودهم لك؟ بين التخوف مما يجري ومما يمكن أن يحصل، والدخول في أنشطة اجتماعية" أعراس ومناسبات مختلفة "، وزيارات وإقامة ولائم ؟ ذلك ما يحتاج إلى استشراف معرفي آخر، يكون جديراً بالمتابعة والتروي قبل إصدار أي حكم.
تلك إرادة الناس في البقاء، في البحث عن المخارج، وحتى في عدم الاستسلام، رغم أنه يمكن تسمية كثيرين لا يخفون قلقهم ناحية واقعهم، ويطلعونك على وضعهم البائس: اجتماعياً واقتصادياً، ولكنهم ماضون في الحياة، حيث الشكاوى تسِم الجميع رغم التفاوت المعيشي فيما بينهم، طالما أن مجهولاً يسمّي الآتي هو الذي يتهددهم أو يتوعدهم أو يتربص بهم، ورغم أن ثمة من يتفاءل خيراً، لا بل يقول أن الذي يحدث لا مثيل له إيجاباً، وأن الناس، والكرد هنا معنيون بالقول عموماً، لا ينقصهم شيء، بقدر ما يعيشون عصراً ذهبياً في طموحاتهم وتطلعاتهم وقادم الأيام سيثبت ذلك .
إنها أقوال وتوليفات أقوال، ورهانات سياسية وتحزبية بالمقابل، وتجاذبات سياسية كذلك ملموسة في العلاقات القائمة، ويمكن معاينة التنافس وحتى جانب اليأس من هذا الطرف من قبل آخر فور سماعه وهو يصدر أحكاماً قطعية.
في خضم هذه التجاذبات يمكن الحديث عن الذين لم يكفوا عن إظهار كرم ضيافتهم بالقول والفعل، كما لو أنهم أرادوا إثبات أن ما يجري لا يحول دون اختفاء ما اعتادوه من الاحتفاء بالآخر، من عدم التخلي عما كان، كما لو أن الذاكرة تعيش حيوية حقيقتها دون التعرض لوطأة نسيان ما، رغم أن فظاعة الجاري أحياناً تفقِد المرء توازنه النفسي والعقلي.
أعن الأحبة " حيث ألقابهم محفوظة "، ممن يعملون في سلك التربية والتعليم وغيره أتحدث؟ عن فرزند علي، راج آل محمد، نضال، محمود، سالم " وأعتذر لأنني لا أعرف الأسماء كاملة "، عن عبداللطيف أحمد، شكري حمزة، عنن جمعة جمعة، أمير عبدالكريم، محمد سموري، وما وضعوني به في نطاقه وداً وتقديراً، وأنا أعيش ألم الحِداد، ورغبة في التحرر ولو قليلاً من عنف الأمس القريب وألم المصاب، عن زهير يوسف، باسيل أبرط، عزيز توما...الخ.
هل أتحدث عن حرارة اللقاء مع الصديق صلاح رمو الصيدلاني، وسيرته الطويلة للعلاج بين كل من قامشلو وإقليم كردستان العراق وألمانيا ، والهموم المشتركة؟
أتحدث عن الصديق ياور وليكا الصيدلاني الآخر، وهو يفصح عن " صموده " في قامشلو، سوى أن ملامحه لا تخفي وجعاً يمكن الكشف عنه في نظرات عينيه ؟
لا يمكنني نسيان حميمية اللقاء مع الصديق السرياني الدكتور فرات مقدسي، وقائمة الهموم الطويلة والمشتركة، وجُوده في الحديث عن صحتي وصحة العائلة والدواء المقدَّم بالمجان، ولا حميمية رؤية الصديق السرياني الدكتور ماروكي ملكي الذي أصر على مضي سهرة كاملة في بيته بـ" الوسطى" صحبة الصديق المشترك شكري حمزة، وقد تمازج سخاء الكلام بسخاء الطعام، لكن التخوف مما جرى وما يمكن أن يجري لاحقاً كان العلامة الفارقة للسهرة، كيف لا يكون كذلك، وقد أفصحت قامشلو نفسها عن هذا المقام من خلال رؤية نسبة كبيرة من البيوت وهي تعيش سواداً، أي وهي تؤكد على أن أهلها قد فارقوها، والشكوى من سوء تفهم مما يجري في العلاقة مع الآخرين، وتحديداً بالنسبة إلى جيل الشباب، وعائلات بالجملة لدواعي أمنية معتبرة طبعاً، كما لاحظت ذلك في جهات مختلفة من المدينة، ولكم تبين لي أن المجتمع الكردي، ولو تجاوزاً من جهة التسمية، قريباً سيصبح" المجتمع الكردي العجوز "، وهذا ينطبق على الآخرين: سرياناً وأرمناً، ولكل من التقيته تكررت الحكاية ذاتها في المعاناة والتحسر " الصديق الأرمني باسيل أبرط: أبو آكوب ، أعلمني وفي عينيه حزن بليغ أنه بقي وحيداً، حيث لم يبق أحد من أهله في المدينة، ولا من جهة زوجته .. وهو يذكّرني مباشرة بأخيه الأصغر الصديق الدكتور أنطوان أبرط الذي هاجر صحبة عائلته إلى السويد منذ قرابة سنة، فارق بيته الذي عانى كثيراً حتى أسسه، ولم يقم فيه إلا سنوات معدودات، مثلما فارق عيادته حيث كانت ملتقى لأحبة من اثنيات شتى، ولقد استرجعت صورته، هيئته من خلال النافذة المسدلة الستار، والباب الذي لمسته، وقد خرج بعض من " غرباله " من إطار بابه.. ربما هو تعبير عن حزن الباب على صاحب تليد له ..
الصديق لحدو، أبو أورنامو " صاحب مكتبة " سومر " كان هو الآخر مضطرباً مأهولاً بهمٍّ لا يوصف وهو يتحدث عن فراغ البلد من أهل البلد، كما أفصح عن ذلك صاحب مكتبة " الإيثار" والمتقدم بالعمر، والمسكون بالود ملكي، كما لو أن اللقاء كان وداعاً هنا وهناك في آن .
وأعلمني الصديق عزيز توما عن الكثير من معاناته: محاولته الهجرة الجماعية عائلياً، ولم يفلح، محاولاته المتكرر لإرسال ابنيه إلى الخارج، وقد أفلح في ذلك لاحقاً، إصابته هو بالذات بصداع رأسي نصفي، إلى جانب ألم دوري تتعرض له كليته، إلى جانب معاناته الأخرى بسبب تعرض ابنه الثالث للصرع..
ولا يمكنني نسيان مدى انشغال الأهل والجيران الذين اعتدنا ودَّهم ومحبتهم في النزول عندهم وقبول دعوتهم لتناول الطعام ولو مرة واحدة في بيت كل منهم.. لقد حسبنا أننا لو لبينا دعوة الجميع لكان علينا البقاء لأكثر من شهرين.. ولعل بقاءنا لمدة ثلاثة أسابيع أراحنا وخفف من وطأة الدعوات، رغم أننا أردناها أسبوعين، سوى أن " دائرة الهجرة في روجآفا " أعلمتنا أن مسألة العودة تخضع لتقديرات أخرى وليس لرغبتنا، ولعلها مفارقة: إذ لا أذكر أن شخصاً يسافر إلى جهة ما  ولا يمكنه العودة إلا تبعاً لتقدير القيّم على الجهة تلك ؟ وهنا، أشكر الصديق الذي تدخَّل لتحديد زمن العودة في التاريخ المذكور، فلولاه لكان علينا انتظار شهر إضافي على الأقل.

العودة بأكثر من حسرة وتأوه:
عندما انطلقنا في طريق العودة صباح السبت بتاريخ 17 تشرين الأول لعام 2015، كان الألم يعتصرنا جميعاً، حيث كان أخو العائلة وابنته وهي ابنة أختي أيضاً معنا، إذ يقيم أولاده الأربعة صحبة أمهم بجوارنا في حي " كَري باصي " في دهوك، ألم لا يوصف، ونحن مشدودون إلى المدينة التي أمضينا عقوداً زمنية فيها، وهي تتقدمنا بكل أبنيتها وشوارعها وأطياف أهليها، حتى قبورها، وقبر أمي في مقبرة " قدور بك " وأبعد منه، قبر أبي في قرية " خربة عنز "، ولا أخفي أن قلبي الذي ضم كل هؤلاء ولم يفارقهم كان يحتضن من الداخل بيتنا، وضمناً: مكتبتي التي تراكم الغبار على رفوفها وكتبها وطاولتها الكبيرة وجهاز الكومبيوتر، وأشرطة سينمائية وموسيقية وملفات كثيرة محفوظة في " السيديات "، ولكم ترددت كثيرة في اصطحاب كتب دون أخرى، كما لو أن كل كتاب يقول لي: لماذا لست أنا بل سواي يرافقك إلى " هناك "؟ لأبدأ بذلك طريقي الدامي: طريق كاتب ينزف أنَّى اتجه، والذي لا يعرَف أين يكون اختتامه، وربما خلَفت قامشلو ورائي، لأحتفظ بصورة مكتبتي التي فعّلت داخلي إنساناً من نوع آخر والذي صادق الكتاب أكثر من مصادقته للآخرين، وما يبقى يكون في كتاب، ولهذا كانت قامشلو" ي" الخاصة، وهي تتعمق في خلاياي بالجملة بكل لغاتها وأهليها وحتى كائناتها الأخرى، طالما أن ثمة مكتبة تشدني إليها، وأنها قائمة في مكانها مكللة بالغبار: الدم المسحوق/ المسفوك، وهي تنتظرني لأعود إليها ذات يوم، وأنا أطلق في نطاقها قلبي الذي يحيا بها ويموت بها أيضاً .
أقولها دون أن أدري إلى متى تتحرر الأرض هذه من سلطة" قرنيَّ الثور " وهيجانه !
دهوك- في 19 تشرين الأول 2015 






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=19810