كردستانيات 20- لا مكان لسليم بركات في سوريا
التاريخ: الجمعة 15 ايار 2015
الموضوع: اخبار



 ابراهيم محمود   

 يظهر أن سليم بركات الكردي السوري، رغِب أن يجرّب كل ما تمكّن منه: مهارات لغوية، هلوسات في التعبير، استدراكات، تكرار كلمات، جملاً مقتضبة، كما هو المعهود فيه في نصوصه الشعرية كثيراً، الإمعان في بث الفوضى وإقلاق قارئه، في عنوان يتراءى جغرافياً في كتابه المركَّب من النثر والشعر" سوريا- 2015 "، وتلك الخلطة العجيبة من المشاهد الصادمة، بنوع قياماتي، على امتداد قرابة 150 صفحة، مضيفاً إلى جنونه الفني جرعة غير معهودة من جنون الكتابة، معايشة لما هي عليه سوريا"ه "، حيث لم يعد من مكان لهذا المجنون الكردي وقد جن كثيرون كثيرون معه.


استواء الليل والنهار إلى درجة استحالة التمييز بينهما، التباس الجهات، رؤية البحر قفراً وبالعكس، السماء غوراً وبالعكس أيضاً، الذكر أنثى وبالعكس كذلك، والمَلاك شِراكاً، والبريء طاغية وبالعكس... وهكذا، تلخيصاً لجنون سوريا بالمجمل، وحيث لا تُسمى سوريا سوريا باسمها، وبمفردة واحدة، إنما بمفردة تحل محلها، عن عمد، وهي تفجّر عوالم تعنيها، كما لو أن إلغاء الاسم الجغرافي لصالح الاسم العام، بمثابة ترجمة حية ومميتة للجاري منذ نصف عقد زمني تقريباً. سوريا سليم بركات الكردي السوري ربما أصبحت عكسها تماماً " ايروس "، سوى أن هذه المفردة المعكوسة لا تدخر حياة إنما تُعدُّ لنزيف واستنزاف، وفي وسع قارئه المطَّلع على أسلوبه منذ أكثر من أربعة عقود زمنية، مكاشفة نوع الجنون القارض فيه، أي الطريقة التي يُري عالماً كاملاً في " خرم " إبرة كل كلمة، لتكون التكرارات شاهدة عيان على هذا العنف السوري/ البلدي، دون تفريق بين أي كان وخلافه، فالكل مشرِكون ومسلخيون وداخلون في فيلم فرانكنشتايني .
الوحيد الذي يتكلم، ويكلّم، باعتباره الراوية والمرجع هو سليم بركات، والأزمنة تتداخل، وتتفاقم دلالاتها: بين ماض وحاضر وتال في هيئة لغوية، بين مخاطب ومتكلم وغائب، بين مفرد وجمع.. دون معرفة مسبقة بالتالي، كما هو المباغت في البلد اللابلد سوريا.
في مخاطبة الجمع، ما يضفي على الحدث عمق المعنى الإيقوني، مأساته الخاصة" لا تسألوني الضبط متقَناً كالربط متقناً بعد الآن "، ليأتي الجواب، الإقرار" الأعالي مخبَّلة مزَّقت صُدرتها، والأسافل مخبَّلة كالأنحاء الخبّل لا تُرتجى بعد الآن " ، إقرار ربما كان كافياً لانجاز لحمة نص شعري، نثري، فني، سينمائي، تكون سوريا قاطبة حلبتها اللامسرحية، إنما اللامُسرّ: حية، فيضاف، أو يُستأنف القول المجنون بصاحبه " فتق في الروح ورتق. ويلَ الرجم بعظام الأسلاف الماء والأسلاف الطين..ص5 ".
ثمة تذكير بأوصاف خسفية لمدن مقروءة في نصوص ميثولوجية، دينية " مدينة لوط "، وقد تداعت.. سوى أن بلد بركات وغيره شاهد وشهيد في قتلات مستمرة " إن جاز التعبير "، والسباق حول المزيد من الفظائع " هرج، ومرجٌ: عدَّ: أيها البلد، ما يذهل ويشدَه، ما لا يستجمع إلا في انهيار ..ص 10 " .
من يمكنه أن يكون الجلاد والآخر الضحية، والطرف الثالث: الحضور ؟ لا شيء من ذلك " أعراق من نَكال القياس الخادع. أعراق سفلة من نكت التاريخ في العبث الراكد. أعراق تجرَّعها المكانُ سُماً من إناء تاريخه ..ص37 " .
بالتركيبة الفنية هذه، ربما كان في وسع المهتم بكتابة بركات الإتيان بمثل ما يكتب هنا، لكن الذي يُسمى سيكونه حتماً، وبالتالي فإن الرغبة في مكاشفة هذا الاستفحال للموت، للمصائب، للدمار، للقتلى وقد تداخلوا مع القتلة، لأحياء أموات وبالعكس، لسماء فقدت رونقها، وأرض لم تعد مستديرة...الخ، تتثبت على خلفية شفافة جداً من هذا الدائر" الأشداق، ورغاء الأشداق. السماء يصلحونها رَقعاً بالجلود. السماء القفر لم يُستنبت فيها إلا الموجِع. السمااااااااء الصراخ، ..ص66 "، وكذلك (في النّعال الشرق نهوضاً إلى الغزوات بالمراقد الحراب لتوطيد الفتكة ديناً. مستعمراتٌ مقابر جُوفاً.ص97 "، حيث القول نفسه يغمى عليه ويستحيل صراخاً .
وفي الحراك اللغوي المدمّر للأشياء بمعالمها، والسخط المركَّز على البشر الذين فقدوا السيطرة على أنفسهم، وإن كان في الوسع السؤال عمَّن أوصلهم إلى هذا الدرك " الأعلى " من القتل والسفك المتبادلين، ثمة تجلّ لأبي العلاء المعرّي، لكن رهين المحبسين كان يحكم على عالم مقروء كثيراً، ويتخوف مما يجري، أم بركات فيكاد العالم ينخسف أمام ناظريه، وكأن الذي يأتي على ذكره هو التعجيل بالانخساف النهائي والبدء بمراسيم الدفن الكلّي لجغرافيا كاملة" تخمينات جملةٌ ً/ لغو جملة/ عَيْثٌ جملة/ شلل جملة/ تشريد جملة/ تقويض جملة/ دم جملة/ هباء جملة يغلقُ السد على الحنين.ص 115 ".
ثمة جملة تثير فاعل تأويل لمعاينة معنى ما، تأتي أخرى توضحها وتبهمُها، وهكذا يتشكل سرد جمل، معان، وما في ذلك من اعتراف ضمني أحياناً بفقدان السيطرة على النص نفسه، إذ ما أشبه التقابل بين جملة اثنينية وما قبلها وما بعدها، ربما لأن بركات يشترك في إثم الجاري، في تعنيف نفسه، أو في معايشة سادية ومازوخية معاً، ليفيض بالمزيد.
الزوال هو الشاهد الأخير، ولعله يفتقد الشاهد الناطق بلسان كلساننا، وكأن " سوريا " تعدم ذاتها بذاتها، كأن كتابة سوريا: البلد في النص الهائل مساحة واستباحة رثاء لما سيلي وهجاء ينافسه في العمق الشامل، حيث ينعدم المتن والهامش، كون المكتوب يشي بمثل هذا الفوران البركاني الاستثنائي، في حرب لا تشبه إلا نفسه " لن تعيدني شقيقاتي الصخورُ ثقيلة في مجاري الأنهار إلى ما كنتُه بعد الآن ..ص 151 " .
الصخور ذاتها ذائبة مذوَّبة، والهلع المرافق يستصرخ الجماد، بما أن البشر قد انسلخوا من بشريتهم، بما أن سوريا بإطلاق قد أصبحت البلد، دون اسم، وهي بالطريقة هذه تكون قد صعدت بمفهوم الكوميديا السوداء إلى ذروة المكشوف.
لا مكان لسليم بركات في سوريا إذاً، ومن أراد معرفة المغزى أيضاً ليقرأ " سوريا " بالكامل، وليتمالك نفسه، لأنه هو نفسه ليس بعيداً عن شراكة في سفح دم جغرافي، تاريخي، قيمي، حياتي..بغية تأكيد جمال الخراب الرهيب وبدعته .
من يمكنه ادّعاء القول: لا يستطيع الشاعر، أو الروائي التأريخ لأحداث مدمّرة، وعلى طريقته النافذة الأثر ؟
لكن سؤالاً لا ينفك يطرح نفسه، له صلة بموقف بركات الكردي السوري من سوريا المجتمع، سوريا الديموغرافيا، سوريا التاريخ، أي من الذين يسهمون في الحراك السياسي والاجتماعي السوري، وللكرد مكانة اعتبارية: هل يوحّد بين الجميع حقاً؟ أم إن هناك مشاهد معينة، ومن خلالها كان العنوان " سوريا "، ليكون المعتمَد " البلد " ونفي الجميع حيث لا يستحقون أن ينتموا إلى بلد لم يعد يستحق عنوان/ اسم " سوريا " ؟!
دهوك
 







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=19144