يوميات الحصار
التاريخ: الأربعاء 09 كانون الثاني 2013
الموضوع: اخبار



صبري رسول

حفلة الغاز (15)
«ما أبشعَ وجه الجوع، إنّه يشبه تكشيرة غولٍ لا نعرف حجمه، وما أقبح قدومه، إنّه يشبه سنة قحطٍ وفحيعة، لكن الإرادة الداخلية للإنسان أقوى من الغرائز غير المروّضة». 
سمعتُ زغرودةً طويلة فجأة، نظرتُ إلى ملامح المدخل، كي أتأكّد أني في مدخل منزلي وليس في منزلٍ آخر، أعقبتها زغرودة أخرى أكثر حدةً، بصوتٍ بلوريٍّ شفاف، تلتْها أصواتٌ وضجيج، ظننْتُ أنّ حدثاًأو فرحاً في إحدى شقق البناية، أو ربما أن هناك خطوبة لابنة جيرانٍ لنا، وعندما سمعتُ صوت ابني يعلو: غاز، غاز. عرفتُ القصّة.


قبل بضعة أيام زارني ابنُ أختي من شرقي المدينة، لم نقدم له ضيافة، لا شاي ولا قهوة، شرحنا له الأمر، قال: لدي (بابور) غاز صغير كنا نستخدمه في كحالات طوارئ واحتياط، سأعطيك حتى تدبّر أمورك. سارعتُ إليه في اليوم الثاني، ولما رأتني المرأة حاملاً لـ(بابور الغاز) أو لـ(الطباخة) بلهجة أهل العراق، هلهلت وزغردتْ، واجتمع سكان البناية عندنا. اتّسعت حلقة الرّقص، وعلت الزغاريد، وبخار الشّاي يملأ جو الصالة، فاتحاً شهيتهم لهذا السّائل اللعين.
سمعتُ قصة مماثلة من صديقٍ لي، لكنّ هناك، عند صديقي، أخذوا صوراً تذكارية مع قنينة الغاز، ومنهم منْ تمسَّح بها تبرُّكاً، ومنهم منْ صلّى ركعتين احتفاءً بها. أصبحت قنينة الغاز صاحبة الظّل العالي، والمدلّلة جداً بين لوازم المنزل. وأخيراً أخذت تلك العائلة وبعض أقاربهم بتشكيل حلقة(حابِسْ كي دورا غازي حابِسْ كي) وأخذوها في الأحضان. 
في مدينتنا أخذ النّاس بناء المواقد الحجرية(ثلاثة أحجار بشكل صندوقٍ مفتوح) للطبخ والشّاي والقهوة. 
أنا فشلتُ في هذا، جعلت مدفأة المازوت للحطب فشلتُ فيها، اتّخذت تنكة كدنا نختنق من الدّخان، اشتريتُ مدفأة حطب، لكن الحطب غالٍ جدا.
لا أعرف لمَ لا يرافقني النّجاح حتى في بناء الموقد الحجري؟
8/1/2013

 (14
) السّمت الجغرافي
عندما يفقدُ الإنسانُ بوصلتَه للحياة تكونُ كلّ الاتجاهات في زاوية واحدة. ويبقى للسّمت الجغرافي منحى واحد.
حلَّ المساءُ ثقيلاً بعتمته الثقيلة، وصمته الثقيل، فكان الصَّغيرُ يشدّني وهو بحضني قائلاً: لماذا تضع هذه النّضارة؟ ماذا تستفيدُ منها طالما الظلامُ قاتماً؟
لم يكن لديّ جواب، لأنّي فقدتُ القدرةَ على أيّ جواب لأيّ سؤال.
قبل الفجر أثناء خروجي إلى أحد الأفران كانَ الظلامُ يخيّمُ على المدينة(طبعاً المدينة وليست قرية كرأس العين) لأنّ الكهرباء في غيبوبة كاملة، وصلتُ إلى زاوية أحد الشوارع الفرعية، كدتُ أنْ أصطدمَ بكلبٍ شارد، يقتاتُ قوتَه على أحدِ تلال القمامة، حتى الكلاب الشاردة جائعة، وتنتشر قطعانها في المدينة، هي مسالمة وليست مؤذية، لأنها جائعة، وتلال القمامة تعلو أمتاراً في عشرات الشّوارع.
في العتمة كلّ شيءٍ يبدو غير مرئيٍّ، ونفقدُ رؤيةَ كلِّ شيءٍ كما فقدْنَا رؤية حلولٍ حتى لأبسط مشاكلنا اليومية. في العتمة لا تنفعك النّضارة، لأنّك لا تميّز بين إسفلت الطّريق وكلبٍ يبحث عن ريحة أكلٍ بائد.
سمعتُ الخطابَ اليوم، تمنيتُ لو سمعتُ ما ينير طريقنا، لأنّ الطّريق أكثر عتمةً من قاع البئر، لأنّ الملايين يعيشونَ بؤساً كارثياً كابوسياً. 
لافرقَ بين عتمة الطّريق التي سلكتُهُ فجراً بحثاً عن رغيفِ خبزٍ يسكِّتُ بكاء صغيري، وبين عتمة الطّريق لشعبٍ يبحثُ عن نورٍ يلوّحُ له في نهاية نفقٍ أكثر طولاً من سنواتٍ عجاف. فلا طريق لي سوى العتمة التي تجمعني مع كلبٍ شار، ولا طريق للشّعب سوى البحث عن بصيصٍ يلمع في حديقة العين حتى لو كان من نجمة الصّباح. وننتظر السّمت الجغرافي ليأخذَ اتّجاهاته.
6/1/2013

 (13
)بؤس القراءة(*)

القراءةُ، بوصفِها فعلاً ثقافياً، أحبَبْتُها منذ الطفولة، وكانت ترافقني في حلّي وترحالي، في القطار وبولمانات السّفر، وأصبحَت جزءاً من حياتي وخاصة بعد تخرُّجي في الجامعة1991م، واظبتُ على دوامها ساعتين على الأقل يومياً، وفي الإجازات أدخل في موسم القراءة.
أقرأ كتباً ومجلاتٍ محكمةً في الأدب والتاريخ والفلسفة والسياسة، إضافة إلى صحفٍ عربية ودولية كالحياة والشّرق الأوسط والجزيرة والرّياض والقدس، وأحياناً كثيرة تأخذُ كتاباتٌ ومقالاتٌ كردية(المكتوبة باللّغة العربية) وقتاً مني(القراءات الكردية انتقائية فقط).
لكن علاقتي بالقراءة تدهورت مؤخَّراً شيئاً فشيئاً، ارتبطت تلك العلاقة بالكهرباء والأجواء العامة في البلاد، وبالمزاج الشّخصي الذي يشبه أوراقاً محترقة.
في الشّهر الأخير حصلت حالة من الطَّلاق بيني وبين القراءة من طرفٍ واحد، الحالة نتجتْ عن الحصار المؤلم، فلم يعد ثمَّة من أولويات إلا تأمين المتطلبات اليومية الضّرورية التي من دونها لاتستمرُّ الحياة.
كيفَ للمرءِ أن يفكّر بشيءٍ عندما يستيقظ ولا يجد في منزله سائلاً ساخناً(شاي أو قهوة أو أيّ سمّ آخر) وكيفَ يكون الأمرُ إذا بقي مع أولاده بلا فطور حتى العصر؟ والسّؤال المقلقُ: كيفَ يتصرّفُ وماذا يفعلُ إذا طلب الصَّغيرُ(ذات خمس سنوات) طعاماً؟
لن أتحدَّثَ عن مواعيد كثيرة تأتي سريعة قبل الفوز بسندويتشة فلافل. لقد جعل الحصارُ حياتنا رهينةً للخوف، ووضعها على كفِّ عفريتٍ مجهول.
هذا الأمر يذكّرني بكلامٍ للشَّاعر السوري شوقي بغدادي في حديثه عن القاصّ والكاتب إبراهيم صموئيل، وتأخُّره في النّشر حتى بعد الأربعين، كانت إجابة الكاتب: الحياة أولاً ثمّ الثقافة والكتابة.
طلقْتُ القراءة طلاق «البينونة».
5/1/2013
---------------------------------------- 
(*) لم أتمكّن من نشر شيءٍ أمس لغياب الكهرباء أكثر من ثلاثين ساعة.

 (12
)ناظم الحياة
لم يعد هناك ناظمٌ لمفردات حياة المرء تحت الحصار، الناظمُ الوحيدُ شيءٌ من الفوضى، شيءٌ من الصّدفة، شيء من الخوف، شيء من الشّيء، وشيءٌ من اللاشيء.
هناك سياسيات وخطط خفية تجرّك إلى الهاوية السّحيقة، إلى هاوية لا قرار لقاعها.
زارني السّيد عادل سيف الدين صاحب قصيدة(( آزادي شيري)) التي غنّاها الفنان القدير المرحوم محمد شيخو، صعدنا إلى سطح المنزل هرباً من قرّ الداخل وزمهريره، حيث شمسٌ خجولة تبعث دفئاً ببخل، كافحنا ساعة كاملة للنُنْجزَ إبريق شاي على حطبات بائسات في تنكة لعينة، فشربناها قبل الغلي.
قال أبو((آزادي شيري)) كسرنا خزانة المونة في المطبخ هذا الأسبوع. قلتُ له: فعلها عمر كوجري قبلك.
سألني: ما الأخبار؟ هززتُ رأس: وأنا اشتقتُ إلى وجوه المذيعات العذبة، اشتقتُ إلى وجه خديجة بن قنة، وطاهر بركة، وجمعة عكاش، وإلى ابتسامة منتهى الرمحي، اشتقتُ إلى الأخبار، أي أخبار، لأننا لم نعد نسمع ما يجري في العالم.
استفسر مبتسماً: وهل يبقى الوضع هكذا؟
تولّدت لدي عادة سيئة، حيث أهزّ رأسي قبل الإجابة. فقلت: ما يرسم السلوك الإنساني لدى السّوريين غريزة البقاء، هذه الغريزة دفعت عائلات كاملة إلى النزوح الداخلي، ودفعت مثلها إلى الهجرة خارج الوطن، ودفعَتْ الغريزة ذاتها جماعاتٍ إلى قتل جماعاتٍ أخرى، إلى إبادة من يصادفها في طريقها. والغريزة نفسها جعلت آلاف الناس منزوين داخل بيوتها، مع الاكتفاء باليسير من الطعام، والماء. تلك الغريزة هي النّاظم للحياة. إنَّها معركة البقاء.
3/1/2013







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=14799