تطور القضية الكردية في سوريا خلال نصف قرن (رؤية نقدية)
التاريخ: الأثنين 01 كانون الثاني 2007
الموضوع: اخبار


صالح بوزان
salihbozan@yahoo.com

مقدمة

لقد ظهر مصطلح سوريا في حدودها الراهنة والشعب السوري بتركيبته الاثنية الحالية بعد اتفاقية سايكس- بيكو1916، وتنفيذها على أرض الواقع في الربع الأول من القرن الماضي. ونتيجة لذلك تشكلت الدولة السورية الحديثة التي تضم الشعبين العربي والكردي إلى جانب بقية الاثنيات السورية من الأرمن والتركمان والآشوريين والشركس..إلخ. وجرى تحويل مفهوم الشعب السوري إلى الشعب العربي على ضوء الفكر القومي البعثي والناصري. وبالتالي فقد عمم حزب البعث مفهوم الشعب العربي السوري كجزء من الأمة العربية وسوريا كجزء من الوطن العربي من خلال الشعار المعروف "أمة عربية واحدة" متجاوزاً الواقع والتاريخ.

وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن يبحث الأكراد عن مرجعيتهم وهويتهم القومية وانتمائهم الجغرافي. فأدركوا أن الشعب الكردي في سوريا هو جزء من الأمة الكردية والجغرافيا الكردية السورية هي جزء من كردستان الكبرى.
عندما نعود إلى الإمبراطورية العثمانية ولا سيما في مرحلتها الأخيرة قبل السقوط، أقصد قبل ظهور الفكر القومي التركي، لا نجد أية ملامح للفكر القومي العربي والكردي والتركي بالمعنى الحديث باستثناء كتابات بعض المثقفين. وكان الطابع الاسلامي لهذه الامبراطورية ذات الامتداد الجغرافي والتنوع في شعوبها هو السائد على الصعيد السياسي والثقافة الشعبية. وكان العثمانيون يستخدمون مصطلح الشعوب العثمانية، لا الشعب العثماني أو التركي.
بكلمة أخرى فاتفاقية سيكس- بيكو هي التي أوجدت سوريا الحديثة، وهي التي خلقت مصطلح الشعب السوري، وبالتالي ربطت مصير الشعبين العربي والكردي في مسار واحد. صحيح أن هذين الشعبين قد عاشا جنباً إلى جنب عبر تاريخ طويل، لكن هذا التجانب لم يخلق وحدة المصير إلا بعد تشكل سوريا الحديثة, كان مركز السلطة في السابق هو الذي يحدد طبيعة ومستوى العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ العصر العباسي، ولغاية العهد العثماني. وكانت بغداد واستنبول(وسابقاً المدينةالمنورة ودمشق) تلعبان الدور الرئيسي للشعوب الإسلامية كلها، ولو معنوياً في حالات ضعف المركز.
وهكذا فكلمتا الوطن العربي و كردستان الكبرى بالمعنى السياسي هما مفهومان حديثان. وكما نعلم أن الحضارة الإسلامية لم تكن محصورة في البقعة الجغرافية المسماة اليوم بالوطن العربي، ولم تقم على أكتاف الشعوب العربية فقط. وعندما سمى القوميون العرب هذه الحضارة بالحضارة العربية الإسلامية فقد اعتمدوا على عامل اللغة ، وهو عامل غير كاف علمياً لهذا التوصيف. وكما نعلم أيضاً أن فكرة الجامعة العربية خرجت من المطبخ الإنكليزي، ولم تكن نتيجة تفكير عربي. ما أقصده أن فكرة الوطن العربي والقومية العربية والأمة العربية لم تظهر لدى العرب إلا بعد الاحتكاك بالغرب سواء من الناحية الثقافية أو من خلال الاحتكاك المباشر في مرحلة الاستعمار.

أسباب تأخر الفكر القومي لدى الشعب الكردي في السوريا

كانت المسألة من الناحية الكردية أكثر تعقيدا. فالأكراد تخلفوا من حيث الوعي القومي الحديث عن العرب، بالرغم من أن الانتفاضات الكردية ذات المظهر القومي سبقت الانتفاضات العربية.  أقصد أن هذه الانتفاضات لم تتضمن فكراً قومياً بالمعنى الحديث الذي ظهر في أوروبا خلال الثورات البرجوازية. بل كانت هذه الانتفاضات تعبر غالباً عن مصالح الأمراء الأكراد وزعماء العشائر، هذه المصالح التي كانت تقف حجر عثرة أمام توحيد جهود كل الامارات والقبائل الكردية في حركة سياسية واحدة. وبالتالي كانت السلطات العثمانية لا تجد الصعوبة في اختراق هذه الانتفاضات وتمزيقها من الداخل, ومن ثم القضاء عليها.
وإذا توقفنا عند الفكر القومي لدى أكراد سوريا، سنلاحظ أن هذا القسم من الشعب الكردي كان بعيداً عن الفكر القومي سواء البدائي أو الحديث. ويعود ذلك لأسباب تاريخية وموضوعية. بالإمكان حصرها بالتالي:
أولاً- تقع كردستان سوريا على أطراف كردستان الكبرى جغرافياً. وبالتالي كان هذا القسم من الشعب الكردي يقع بعيداً عن مركز الأحداث الكردية طيلة العهد العثماني تقريباً، بما في ذالك بعده عن الحراك الثقافي والسياسي. ولم يشارك مشاركة فعلية بأية انتفاضات كردية ذات طابع قومي، بل لم يكن يتأثر بها مباشرة. كانت الانتفاضات الكردية تقوم وتنتهي دون أن تصل أخبارها إلى هذا القسم من الشعب الكردي إلا من خلال الأغاني الشعبية التي كان يغنيها المغنون الأكراد المتجولون، وهي أغاني تروي  بطولات الأكراد، وفشل تلك الانتفاضات وقيام الروم(أي الأتراك) بالمجازر الدموية ضد الشباب الكرد.
ثانياً- كان المجتمع الكردي السوري عبارة عن مزيج من المجتمع الإقطاعي والفلاحي  والكوجر(بدو رحل)، ولم يكن له أي احتكاك بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تجري في المدن التركية والكردية الكبرى في العهد العثماني، وكذلك في المدن السورية الرئيسة بعد انسلاخها عن الدولة العثمانية. وبالتالي فالأفكار التي كانت تسيطر على مخيلتهم هي أفكار عشائرية وفلاحية  بدائية، بعيدة عن الفكر القومي الـ(كردياتي).
ثالثاً- كانت الفئة الواعية من أكراد سوريا والمتمركزة في دمشق وحلب وحماه، فئة بعيدة عن الفكر القومي الكردي، بل كانت تحمل الكثير من تراث العهد العثماني، أقصد الولاء والإخلاص الكردي لمركز السلطة لدرجة السذاجة. هذا المركز الذي تغير من استنبول إلى دمشق. وبالتالي لم نجد أية توجهات كردية لدى هذه الفئة خلال المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، وعلى رأسهم يوسف العظمة (كان ضابطاً في الجيش العثماني لغاية عام 1918) وابراهيم هنانو وعائلة البرازي في حماه، حيث احتل العديد من أفراد هذه العائلة مناصب سياسية عليا في الدولة السورية الحديثة وغيرهم( يقال أن عائلة الأتاسي أيضاً كردية، وكان من هذه العائلة قادة سوريون كبار على مستوى الدولة). وحتى حركة المريدين الكردية في جبل الأكراد (عفرين) والتي تميزت بكفاحها البطولي ضد الفرنسيين، كان للدولة التركية دور هام في تحريكها وتغذيتها في سبيل أهدافها الخاصة، ولا سيما في صراعها مع فرنسا لترتيب الحدود مع سوريا المحتلة. وإذا كان هذا الكلام صحيحاً فيعني ذلك أن هذه الحركة كانت بعيدة عن الخصوصية الكردية.
رابعاً- كانت الكتلة السكانية الكردية الكبرى في سوريا الحديثة بعيدة عن دمشق وحلب حيث يجري الحراك السياسي والثقافي منذ الاستعمار الفرنسي ولغاية الخمسينيات والستينيات. وكانت مدنهم الرئيسية مثل القامشلي وعفرين وعين العرب لها طابع ريفي وذات كثافة سكانية ضعيفة، ولم يكن فيها تعليم إلا في بعض المدارس الابتدائية في النصف الأول من القرن الماضي. لذلك بقوا محتفظين بالعقلية العشائرية الفلاحية والبدوية التي تعود إلى القرن الثامن عشر، وظلوا متمسكين بعزلتهم والابتعاد عن الأحداث خوفاً على مصالحهم.

عوامل اليقظة القومية لدى الفئات المتعلمة من الشعب الكردي في السوريا

السؤال الطبيعي الذي يفرض نفسه، كيف ظهر الفكر القومي الكردي بالمعنى الحديث عند أكراد سوريا؟ بمعنى آخر ما هي العوامل التي لعبت الدور الأكبر في اليقظة القومية لدى أكراد سوريا؟ هذه اليقظة التي تبلورت خلال النصف الثاني من القرن الماضي.
أعيد هذه اليقظة إلى العوامل التالية:
1-  العامل الكردي الخارجي، أقصد العامل الكردستاني لأكراد تركيا والعراق. ففي البداية جاءت شخصيات كردية من قلب حركة التحرر الكردية في كردستان تركيا إلى سوريا بعد فشل الانتفاضات الكردية هناك، وخاصة انتفاضة شيخ سعيد بيران عام 1925 وانتفاضة آغري(آرارات) عام1930، وانتفاضة ديرسم عام 1937 بقيادة سيد رزا. أمثال جلادت بدرخان وقدري جميل والدكتور نور الدين ظاظا وأوصمان صبري وغيرهم. لقد حمل هؤلاء نموذج الصراع القومي الكردي-التركي معهم إلى صفوف الشعب الكردي السوري، وظلوا يعملون لفترة طويلة من أجل كردستان تركيا. وكان تأثيرهم القومي له طابع كردي عام، ولم يتضمن أية خصوصية كردية سورية.  وحتى الدكتور نور الدين ظاظا وأصمان صبري اللذان اندمجا في الحركة الكردية السورية لاحقاً لم يستطيعا استنهاض أي عمل قومي كردي ملموس في سوريا رغم كفاحهما المرير، بل حمل كلاهما مرارة انتكاسة آمالهما إلى المقبرة.
وفيما بعد، جاء دور الانتفاضات الكردية  في كردستان العراق، عندما بدأت المعارك بين الحكومة العراقية وشعب كردستان العراق بقيادة ملا مصطفى البرزاني، خصوصا بعد استلام حزب البعث السلطة في كل من العراق وسوريا عام 1963، والتعاون السياسي والعسكري بينهما لقمع الثورة الكردية. لقد كان لهذا التعاون المعادي للأكراد هزة كبيرة في الحس الشعبي الكردي السوري وفي تفكير الفئات المثقفة منه. جاءت هذه الصدمة في الوقت الذي لم يكن الأكراد السوريون يحملون أي عداء تجاه دمشق، إذا لم نقل كانوا يحملون المودة نحوها( في التراث الكردي الشعبي يقال:شام شريف). في هذه المرحلة ازدادت شعبية ملا مصطفى البرزاني بين صفوف الشعب الكردي في سوريا. صحيح أن هذه الشخصية الكارزمية لم تكن على المستوى الفكري لصياغة نظرية قومية كردية حديثة، كما لم تكن تملك فكراً استراتيجياً كردياً على الساحة الكردية كلها، لكنها حركت الحس الشعبي الكردي لدى عامة الأكراد، بما في ذلك أكراد سوريا. وبدأ الأكراد السوريون يفكرون بمصيرهم وبصيغة ما لحقوقهم، وبالوسائل الواجب إتباعها لتحقيق هذه الحقوق.
كان لكفاح ملا مصطفى البرزاني منذ جمهورية مهاباد عام 1946 وحتى تاريخ مماته عام 1979 تأثير منقطع النظير على الشبيبة الكردية، ولا سيما كفاحه المسلح الذي كان يفرض أحياناً واقعاً معيناً على حكومة بغداد، ويحصل فيه أكراد العراق على بعض التصريحات الرسمية والاتفاقيات التي تتضمن حقوقاً كردية. وكان لهذه الحالة دورها في بلورة الحركة الكردية السورية أيضاً، من حيث ولائها العلني أو الضمني لملا مصطفى البرزاني، هذا الولاء الذي كان له دوره في توحيد وانشقاقات الأحزاب الكردية السورية فيما بعد.
2-  رد الفعل الكردي السوري تجاه نظرية حزب البعث القومية التي تنكرت لأي وجود كردي في سوريا، وقيام هذا الحزب بممارسات معادية للأكراد بعد استلامه للسلطة. وكان لهذا الرد الفعل تأثير مزدوج. فمن ناحية اصطدمت الفئات الكردية المتعلمة بايدولوجيا قومية حديثة ومتشددة، بعكس الممارسات العثمانية تجاه الانتفاضات الكردية التي كانت تنتهي غالبا بقتل أو اعتقال قادتها. فهذه النظرية القومية البعثية طرحت نفسها على الساحة السياسية السورية كمنظومة فكرية شاملة بالاعتماد المباشر وغير المباشر على النظريات القومية البرجوازية في الغرب. خصوصاً أن الفئات الكردية المتعلمة لم تكن تملك حينها أية ثقافة قومية معاصرة، ولم تكن مطلعة على النظريات القومية الغربية بشكل واسع. بالتالي جاءت توجهاتهم القومية تحمل العديد من المقولات البعثية مع تبديل كلمة العربي بكلمة الكردي. لاسيما ما يتعلق بالوطن (كردستان الكبرى) والأمة (الأمة الكردية) والقومية وحق تقرير المصير والتحرر وحق تشكيل دولة مستقلة موحدة للأكراد. صحيح أن هذه الأفكار لم تكن واضحة في برامج الأحزاب الكردية السورية (تشكل أول حزب كردي سوري في عام1957 )، لكن الطموح العام عبر عن نفسه بهذا الشكل خارج الوثائق الرسمية.
من ناحية أخرى  لعب الفكر القومي البعثي دوراً تحريضياً للفئات الكردية المتعلمة للبحث عن مصير الشعب الكردي السوري المهدد بالتذويب القصري والترحيل من أرضه بهدف تغيير جغرافيته.
    3- لقد لعب الحزب الشيوعي السوري تأثيرا كبيراً على أكراد سوريا، خصوصاً على الفئات المتعلمة منهم. وكان انتساب الأكراد لهذا الحزب واسعاً لفترات طويلةً، وكان الأكراد يأملون من وراء هذا الانتساب الاستفادة من الطابع الأممي لهذا الحزب، وإقراره النظري بحقوق الأقليات القومية ، وقد اطلعوا من خلال هذا الحزب على النظرية الماركسية حول المسألة القومية وطرق حلها. كانت الحالة السوفييتية حول المسألة القومية مشخصة أمام أعينهم، هذه الحالة، رغم كل الانتقادات ضدها، أوجدت في الواقع العملي حلاً مرضياً لهذه المسألة في القرن العشرين.
لكن الحزب الشيوعي السوري لم يلعب دوره الأممي في هذه المسألة كما لعبه الحزب الشيوعي السوفييتي قبل ثورة أكتوبر من حيث أدبياته و بعدها عندما حل المسألة القومية. لقد تغاضى الحزب الشيوعي السوري عن حقوق الشعب الكردي في سوريا، ولم يتطرق إلى طبيعة العلاقة التي من المفروض أن تقام بين الشعبين العربي والكردي، بل كان يبتعد عن هذه المسألة (لم يشجع هذه الحزب شعار: الأخوة العربية الكردية). ربما في البداية لشعوره بعدم أهميتها الراهنة، ولكن فيما بعد كان يتصرف عن دراية، خصوصاً بعد مشاركته في الجبهة الوطنية التقدمية مع حزب البعث عام 1972، سواء بضغط من حزب البعث أو إرضاء له.
 وهكذا اكتشف الأكراد الموقف الأممي المتناقض للحزب الشيوعي السوري بين الخارجي والداخلي حول حقوق الشعوب والأقليات. وبالتالي خرج العديد من الأكراد من هذا الحزب بعد أن حصلوا على مستوى ثقافي وتجربة حزبية وسياسية متقدمة في الوسط الكردي، وانضموا إلى الحركة السياسية الكردية.
4-  جاء حزب العمال الكردستاني ليكون له دور أكبر في توعية الشعب الكردي السوري، من حيث استنهاض الشعور القومي على المستوى الثقافي والشعبي، ومن حيث التعبئة والتنظيم. رغم أن هذا الحزب لم يذهب بعيداً عن استراتيجية خويبون، حيث بقيت كردستان تركيا هي مركز الحركة الكردية. واستناداً إلى ذلك تم توظيف كل الطاقات الكردية السورية لهذه الاستراتيجية الكردستانية.
 لقد جذب حزب العمال الكردستاني عامة الشعب الكردي السوري إلى السياسة، وخاصة الشبيبة، وكانت له تجربة متميزة في تنظيم العمل الجماهيري بين مختلف الفئات الكردية وطبقاتها الاجتماعية. وقدم أيديولوجيا معاصرة لمستقبل كردستان والشعب الكردي، كما أنه صاغ فكراً قومياً ولأول مرة على ضوء النظريات القومية الحديثة من ماركسية وبرجوازية. وكان لكل ذلك تأثيره الكبير على خلق ثقة كبيرة لدى أكراد سوريا بالمستقبل، هذه الثقة التي تجلت بالتضحيات الهائلة مادياً ومعنوياً وجسدياً لهذه الحركة.
ومع ذلك، فقد كان لهذه التجربة جانب آخر بدأ يحس به الشعب الكردي السوري. وهو أن مركزية كردستان تركيا خلقت نوعاً من غربة الانتماء لدى أكراد سوريا مع الزمن (بين انتمائهم النضالي لكردستان تركيا وانتمائهم الواقعي لكردستان سوريا). ففي الوقت الذي كان الوطن هو كردستان تركيا كما كان ذلك بارزاً على مستوى أدبيات هذا الحزب ومن خلال التعبئة الجماهيرية والاجتماعات الاحتفالية الكبيرة. كان على جماهير هذا الحزب من الأكراد السوريين أن ترحّل حقوقها القومية  في سوريا إلى ما بعد تحرير كردستان وتوحيدها. وعندما أعتقل زعيم هذا الحزب عام 1999 واضطر الحزب لانتهاج تكتيك آخر على ضوء الواقع الجديد، بحصر توجهاته في إطار حقوق أكراد تركيا ضمن إطار الجمهورية التركية، في هذه الحالة وجد أكراد سوريا  أنفسهم أمام واقع جديد يفرض عليهم التفكير بخصوصية قضيتهم في إطار سوريا. وقد أدرك حزب العمال الكردستاني نفسه هذا التحول، فسرعان ما شكل ما يمكن أن نسميه الفرع الكردي السوري لهذا الحزب، ووضع له برنامجاً يتمركز بالدرجة الأولى على القضية الكردية السورية في غالبية بنودها.
بغض النظر عن كل ملاحظاتنا لهذه المرحلة من تاريخ القضية الكردية السورية، إلا أن كل العوامل السابقة ساهمت مساهمة فعلية في يقظة أكراد سوريا،والوصول بالنتيجة إلى خصوصية القضية الكردية السورية الراهنة.  هذه القضية التي كانت تتمايل مع  هبوب الرياح الكردية القادمة من خارج سوريا؛ من كردستان العراق أو من كردستان تركيا. وربما كان هذا أحد الأسباب في تأخر أكراد سوريا لدراسة واقعهم دراسة موضوعية أعمق في إطار الخصوصية المحلية والإقليمية والدولية، سواء من الناحية التاريخية أو من خلال التطورات العميقة التي حدثت في كافة أقسام كردستان، بما في ذلك كردستان سوريا منذ استقلال سوريا.
كان لفقدان هذه الخصوصية دوره الأكبر في تشتت الشبيبة الكردية التي كانت وما تزال تملك طاقات متميزة، وتوزعها بين الأحزاب الكردية السورية (التي كانت وما تزال تتشظى لهذا السبب أو ذاك) وبين الحزب الشيوعي السوري، وحتى في الانتساب إلى حزب البعث نتيجة الشعور باليأس من الفعاليات الكردية السورية, مع العلم أن هذا الحزب الأخيرلا يعترف أصلاً بالأكراد ناهيك عن إعطائهم حقوقاً قومية.

استخلاصات والآفاق

بإمكاننا أن نستخلص العديد من النتائج الهامة من تجربة الحركة السياسية والثقافية الكردية السورية، لا سيما تجربة العمل السياسي للأحزاب الكردية التي كشفت الكثير من  جوانب القضية الكردية السورية للرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي، ورغم كل الانتقادات الموجهة إليها فإنها ساهمت بهذا القدر أو ذاك في إيصال هذه القضية إلى المرحلة الحالية المتقدمة اليوم.
لقد تبخرت الشعارات غير الواقعية لدى الطرفين العربي والكردي  السوريين بما يتعلق بالوحدة العربية وكردستان الكبرى، ووصل هذا النمط من التفكير السياسي إلى طريق مسدود. وبالتالي فالأفق الوحيد الموضوعي الذي أخذ يفرض نفسه على الجميع هو الأفق الوطني السوري بعيداً عن الفانتازيا والميتافيزيق القومي الذي جلبه حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الساحة السورية. صحيح أن الحركة السياسية الكردية السورية لم تخرج أصلاً من هذا الأفق الوطني،  لكن رد فعلها تجاه شعارات البعث وممارساته من خلال السلطة طيلة أربعة عقود دفعتها أحياناً إلى التطرف القومي سواء في المواقف السياسية أو على الصعيد الشعبي بالتعبئة ضد شعارات البعث وممارساته التي تنكرت للوجود الكردي السوري، هذه التعبئة التي تجاوزت أحياناً الموقف من البعث إلى الموقف من الشعب العربي كله. زد على ذلك عدم قدرة الحركة السياسية الكردية السورية التوفيق بين الاستفادة من البعد الكردستاني وعدم الوقوع تحت تأثيرها المباشر أحياناً.
نستطيع القول إن  سياسة حزب البعث في إنكار الوجود الكردي السوري فشلت. بل فشل هذا الحزب على كافة الأصعدة؛ في رؤيته القومية العربية، وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. وتبين أن الميتافيزيق القومي العربي البعثي لا يمت إلى الواقع السوري بصلة. وربما نحتاج إلى دراسات أعمق لتحليل تجربة هذا الحزب السياسية، خصوصاً التناقض البارز بين آرائه القومية والسياسية وبين ممارساته العملية خلال نظام حكمه على الصعيد الداخلي والعربي والعالمي. لقد اتضح  أن التفرد القومي على صعيد الشعب السوري والتفرد في السلطة أوصل هذا الحزب إلى نظام حكم دكتاتوري يعتمد على الدولة الأمنية والفساد الإداري واستنزاف موارد البلد والدولة. وأعتقد أن الحزب الشيوعي السوري كان مصيباً عندما أشار مراراً أن البرجوازية البيروقراطية ( وكان المقصود بها كوادر الدولة العليا، وهي بغالبتها من حزب البعث) والبرجوازية الطفيلية ( وهي الشريك المدني لتلك البرجوازية وعرابها في النهب) تنهبان الدولة والشعب معاً.
لقد أدى هذا النموذج من الحكم البعثي إلى تمزيق المجتمع السوري  وشله رغم ضجيج  شعار الوحدة الوطنية الوهمية. وخلق شرخاً في العلاقة العربية الكردية السورية، والعلاقة العربية العربية.
رغم موقف هذا الحزب من القضية الكردية وممارسات نظام حكمه تجاه الأكراد كأعداء، والتصرف معهم على هذا الأساس، فإن القضية الكردية في سوريا دخلت القرن الواحد والعشرين منتصرة على جميع مفاهيم هذا الحزب وممارساته. بل تبلورت هذه القضية في خصوصيتها السورية، وتجذرت على القاعدة الوطنية، وانهارت كل التهم التي سعى النظام لربط هذه القضية بالخارج من أجل كسب التأييد العربي الداخلي والخارجي لتبرير قمعه لها والقضاء النهائي عليها. أستطيع القول أن سياسة حزب البعث المتمادية في عدائها للأكراد حولت القضية الكردية في سوريا إلى مسألة  أرض وشعب (الحزام العربي وتغير أسماء القرى الكردية).
فالقضية الكردية السورية أخذت تملك اليوم خصائصها الواقعية، هذه الخصائص التي أخذت تظهر بوضوح في الخطاب السياسي والثقافي الكرديين. وتجلت بوضوح في حدثين كبيرين، أولاهما انتفاضة آذار عام 2004 ، والتعامل الجماهيري الواسع تجاه اختطاف واستشهاد الشيخ معشوق الخزنوي. لا شك أننا لم ندرس هذين الحدثين دراسة معمقة حتى الآن. لكنهما وضعا القضية الكردية السورية في مسارها الصحيح، بل فرضا وبشكل نهائي على القوى السياسية الكردية والعربية المسار الواقعي لمستقبل سوريا.
لقد دخلت القضية الكردية السورية إلى القرن الواحد والعشرين بمفاهيم علمية وحملت واقعية واضحة معززة بمنطق العصر. ومن أبرزها:
1- أن هناك فرقاً بين التضامن الكردي على صعيد كردستان كلها وبين خصوصية القضية القومية الكردية في كل جزء من أجزاء كردستان. فالتضامن مسألة عامة لا تتعلق بالروابط القومية فقط، بل هي جزء من المفاهيم الإنسانية ومسألة حقوق الإنسان والشعوب، وله شرعيته على صعيد ميثاق أمم المتحدة. (لقد كان تضامن الشعب الكردي السوري مع القضية الفلسطينية أكبر من تضامنه مع قضية أشقائه في بقية أقسام كردستان أحياناً، بعكس ما أبدى العديد من قادة ومثقفي الشعب الفلسطيني من مواقف مؤيدة للأعمال الوحشية التي مارسها صدام حسين ضد الأكراد). أما الحقوق القومية لكل قسم من أقسام الشعب الكردي في إطار الدول التي تقتسم كردستان فهي مسألة أخرى تتطلب الواقعية والتفكير العلمي في التعاطي معها.
2- لقد أصبحت القضية الكردية السورية جزءاً لا يتجزأ من القضية الوطنية السورية العامة، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. فلا يمكن أن يكون هناك أي حل لتلك المسائل دون أن تؤخذ بعين الاعتبار حل المسألة الكردية. وقد أخذ الطرف العربي يدرك ذلك من خلال التقارب مع هذه القضية في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد انتفاضة آذار 2004. بل حتى حزب البعث الحاكم أخذ يتداول هذه القضية بشكل مباشر أو غير مباشر. وإذا كان ما يزال يفعل كل ذلك للالتفاف عليها أو تأجيل استحقاقاتها من أجل العبور إلى ظرف يستطيع فيه التعامل معها حسب منطقه السابق (وهذا ما هو واضح في وعوده حتى الآن)، فإن هذا التكتيك بحد ذاته يدل على أن القضية الكردية السورية أصبحت واقعاً ملموساً في تفكير حزب البعث أيضاً.
3- إن القضية الكردية السورية مرتبطة ارتباطاً ديالكتيكياً بقضية الديمقراطية في سوريا، ولا يمكن أن تتحول سوريا إلى ديمقراطية دون إيجاد حل ديمقراطي لهذه القضية.  ولعل حضور القضية الكردية بهذا الشكل أو ذاك في إعلان دمشق وفي ميثاق جبهة الخلاص والعديد من البيانات والأطروحات السياسية للقوى السورية المختلفة تدل أن لا ديمقراطية بدون الشريك الكردي. ومن ناحية أخرى فلا يوجد طريق آخر لحل هذه القضية الكردية سوى الإطار الديمقراطي والحوار البناء والقبول المتبادل بالآخر. بمعنى آخر،لا يمكن أن تتحقق الديمقراطية في سوريا بدون حل القضية الكردية، كما لا يمكن أن تحل هذه القضية بدون الديمقراطية.
3- لقد سقطت محاولات التهرب من الاستحقاقات الوطنية تجاه القضية الكردية بالنفير العام حول الارتباط بالخارج. فتهمة الارتباط بالخارج (بمفهوم الخيانة الوطنية) قد تكون صحيحة بالنسبة للأفراد، ولكنها قطعاً لن تكون صحيحة بالنسبة لقضية عادلة تعتبر جزء لا يتجزأ من قضايا الوطن. والتهمة في هذه الحالة الأخيرة تعبر عن خلل في المنطق الوطني. ولا بد هنا أن نذكر حقيقة تاريخية؛ وهي أن أية أقلية وفي إطار أي بلد عندما تُضطهد من الداخل، فمن الطبيعي أن تستنجد سواء بالداخل أو بالخارج. ومن المستحيل في هذه الحالة أن ترفض هذه الأقلية المساعدة الخارجية، مهما كانت نواياها، تحت مصطلح الوطنية التي تفسرها القوى المهيمنة على مزاجها.
لابد القول إن مفهوم الوطنية ليس مفهوماً جغرافياً فقط، بل يتضمن أيضاً التعبير عن مصالح كل الشعب، بكل تركيبته القومية والطائفية. ولكي لا نذهب بعيداً، فلو طبقنا المفهوم السابق على الشريف حسين قائد الثورة العربية وعلى شهداء 6 أيار في سوريا ولبنان عام 1916 فسيصبح هؤلاء جميعاً خونة. وبالمناسبة فهذه التهمة هي التي وجهتها السلطات العثمانية ضد شريف حسين وأولئك الشهداء. وما زالت الذاكرة الشعبية التركية تردد حتى الآن مقولة: عرب خائن ملت.

المراجع غير المباشرة لهذا البحث:

1-  تاريخ كردستان لمجموعة من الكتاب، ترجمة عن الروسية الدكتورة رفيقة العبد الله وصالح بوزان.
2- حياتي الكردية للدكتور نور الدين ظاظا، ترجمة روني محمد دملي- دار آراس- 2001
3- مذكرات أوصمان صبري (1905-1993) ترجمة هورامي يزدي ودلاور زنكي.
      من موقع عامودا الالكتروني.
4- أضواء على الحركة الكردية في سوريا عبد الحميد درويش.
5- نضال البعث- الجزء الأول- دار الطليعة-بيروت1970.
6- مؤتمرات الحزب الشيوعي السوري: من الثاني1943 ولغاية التاسع1999.
7- خويبون وثورة آكري: روهلات آلاكوم، ترجمة رابطة كاوا للثقافة الكردية—2001
8- وثائق حزب العمال الكردستاني:
-- قضية التحرر الوطني الكردستاني وطريق الحل، منشورات حزب العمال الكردستاني. بدون تاريخ.
-- مختارات عبد الله أوجلان الجزء الأول. منشورت حزب العمال الكردستاني 1985.
--مختارات  عبد الله أوجلان الجزء الثاني. منشورات حزب العمال الكردستاني1991.
--سبعة أيام مع آبو، حوار أجراه نبيل ملحم، دار آخيل للنشر. أثينا – يونان 1996.
 9- نهضة الأكراد الثقافية والقومية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين: جليلي جليل- 
  ترجمة بافي نازي و د. ولاتو- رابطة كاوا للثقافة الكردية.بيروت 1986.
10- الأكراد شعباً وقضية لصلاح بدر الدين- رابطة كاوا للثقافة والنشر-بيروت1987.

 







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=1333