التطهير العرقي في جبل الأكراد باللاذقية
التاريخ: الجمعة 23 اذار 2012
الموضوع: اخبار



دلور ميقري

1
في خضمّ انتفاضة 12 آذار 2004، التي فجّرها أطفال وشباب مدينة القامشلي، فقد كان من الطبيعي أن يمتدّ لهيبها إلى كلّ مناطق تواجد الكرد في سورية؛ من الجزيرة مروراً بكوباني وحلب وكرداغ وصولاً لدمشق. ولكن، كم كان مدهشاً للجميع وقتئذٍ، حينما تأكّد انضمام قرى جبل الأكراد في اللاذقية للاحتجاجات تلك، وقيام شبانها بقطع الطريق العام للتعبير عن غضبهم على المجازر المرتكبة بحق اخوانهم في المناطق الكردية الأخرى.


واليوم، تتعرّض نفسُ قرى جبل الأكراد في اللاذقية لحملة ضارية من الجيش النظامي وشبيحته، دونما أن تجدَ أيّ صدى لها لدى اخوانهم في المناطق الكردية الأخرى؛ بالرغم من حقيقة، أنّ هذه الحملة صارتْ عنواناً بارزاً للإعلام العربيّ من فضائيات وصحافة. إذ تمّ تهجير آلاف من سكان قرى " بابنّا "، " جنكَيل "، " بكّاس "، " دَفيل "، " شير قاق " و " المشيرقة " إثرَ هجوم همجيّ استهله الجيش النظاميّ بالقصف المركز ثمّ بالاقتحام برفقة الشبيحة، القادمين من القرى المجاورة. وبغض الطرف عما يشاع عن نيّة آل الأسد في سلخ الساحل السوريّ عن بقية القطر ـ كآخر وسيلة لهم للاحتفاظ بالسلطة ـ فإنّ سياستهم بضرب السنة بالعلويين وما ينجم عنها من مجازر وتهجير، إنما هيَ نوعٌ من تطهير عرقيّ سافر.
شخصياً، أعادتني هذه الأحداث الدموية، الأليمة، إلى ذكريات خدمتي الإلزامية في عروس الساحل السوريّ بين الأعوام 77 ـ 1978. وقد بلغ من تولّهي بمدينة اللاذقية، أن دأبتُ على زيارتها بعد انتهاء عسكريّتي وحتى مغادرتي البلد أبداً. أدبياً، وَجَدَتْ الحاضرة الساحلية، الأثيرة، مكاناً لها في بعض أعمالي الروائية والشعرية، من خلال نعتها باسمها القديم؛ مثلما في قصيدتي الطويلة " كغريبٍ في أوغاريت ". كما أنني أشرتُ في دراستي التاريخية، " ديباجة جلّق "، إلى التواجد الكرديّ المُبكر في الساحل السوريّ من خلال طيفيه، الأساسيَيْن؛ السنة بشكل خاص، والعلويين بشكل أقل.

2
بُعيْدَ أيام من حلولي بسريّة المَقرّ، في قيادة اللواء، سألتُ عن مكان المقسَم وكان في نيّتي إجراء اتصال هاتفي مع دمشق. ثمة، في المكان المطلوب، طالعني مجندٌ بسحنة سمراء، عبوسة، ليقول لي بأنّ الخط مشغولٌ. وحينما سألته، ما إذا كنتُ أستطيع الانتظار لحين تأمين المكالمة، فإنه أجابني بجفاء: " لا، هذا مقسمٌ عسكريّ وليسَ جهازَ تليفون في بقالية ". حينما عدتُ للمكتب، استفهمتُ من زملائي عن ذلك المجند ذي الرأس العنيد، الأصمّ. فما كان منهم إلا الضحك، والتعليق بالقول: " رأسه كرديّ؛ مثلكَ تماماً ".
" كرديّ..؟؟ "، تساءلتُ بحيرة هذه المرة، طالما أنّ لهجة صاحب الوجه الجهم كانت توحي بكونه من أهل الساحل. عندئذٍ، أكّد لي زملاء المكتب بأنه كذلك؛ فهوَ من جبل الأكراد في ناحية " الحفة "، التابعة لمحافظة اللاذقية. هكذا سرعان ما تعرفتُ على عامل المقسم ذاك، واسمه سميح فاتو، لأصبحَ أحد مريدي حجرته الصغيرة، الحميمة. في مكانه هذا، الخطير المقام، كانَ صاحبنا بغاية الكرم مع ضيوف الليل شبه اليوميين، المدمنين على لعب الورق ( ومنهم مجند من بلدته، اسمه أحمد شاكر )، واللذين كانوا أحياناً يساعدونه في إعداد العشاء أو الردّ على طالبي المكالمات وجلهم من الضباط.
ثمّ تسنتْ لي فرصة زيارة بلدة " سلمى "، التي ينتمي لها صديقنا عامل المقسم؛ وهيَ البلدة، المُلحق بها عددٌ كبير من القرى في جبل الأكراد. فبما أنّ أحد أصدقائنا كان سائقاً لعربة زيل عسكرية ( اسمه محمد اسماعيل، من عامودا )، فلا غروَ أن تتكرر مناسبات ذهابنا إلى تلك الناحية الجبلية، الجميلة، خصوصاً أنها لم تكن تبعد كثيراً عن شاطيء " رأس البسيط  ". في هذا الأخير، كنا كفتيان منتزعين من عرامة المراهقة، نتابع بأعيننا الموارَبة مشهدَ نساء وبنات الخبراء الروس، اللواتي كن بالمايوه الذي يكشف أكثر مما يستر من أجسادهن الضاجة بالمرح والعبث والإثارة.
في مكتبٍ متخصص بالتموين، مجاور لمكتبنا المهتمّ بالإمداد، كان ثمّة زميل رقيب مجند من محافظة ادلب، يفتخر أيضاً بأصله الكرديّ. هذا الزميل، واسمه أحمد حمو، عرّفني بدوره على معلمَيْه في المكتب؛ المساعد الأول أحمد سلمى ( الذي كان يُلقب من لدن المجندين بأحمد سلته، بالنظر لصرامته ) والمساعد الظريف جلال البيطار، وكانا أيضاً من جبل الأكراد في ناحية " الحفة ". هذه الناحية، المزدهرة ـ والتي صارت اليوم إحدى المدن الثلاث في محافظة اللاذقية مع " جبلة " و " القرداحة "ـ هيَ بنفسها ذات مصايف مشهورة، كان لي حظ المرور بأغلبها؛ مثل " سلمى " و " دورين " و " المريج " و " كنسبّا " و " المارونيات " و " عكّو " و " شلف " و " كباتي ". فجميعها تحفلُ بالمشاهد الطبيعية الخلابة من أشجار مثمرة وغابات حراجية وينابيع ثرة وجداول رائقة، فضلاً عن الأوابد التاريخية الخالدة من آثار اغريقية ورومانية وإسلامية.
 لعلّ قلعة صلاح الدين، المهيبة، القريبة من " الحفة "، هيَ أهمّ القلاع في سورية، العائدة لمرحلة الحروب الصليبية؛ حيث أدرجتها منظمة اليونيسكو ضمن التراث الانساني المتوجّب حمايته والحفاظ عليه. حينما زرتها لأول مرة، في أوان خدمتي العسكرية، فإنني شعرتُ بالذهول لمرأى موقعها الجبليّ، الحالق، وأسوارها وتحصيناتها. إذ تقوم على مرتفع صخريّ شاهق، يطلّ من جوانبه على وديان سحيقة الغور. تبدو القلعة الحجرية بين الأشجار والأجمات الكثيفة، كأنها تنين أحمر في غابة سحرية، خضراء. في عام 1986، ومباشرة إثر أحداث نوروز الدامي بدمشق، قمتُ مع بعض الأصدقاء برحلة إلى اللاذقية. في اليوم التالي لوصولنا، اقترحتُ عليهم زيارة قلعة صلاح الدين؛ فأبدوا تحمّسهم، بما أن أكثرهم لم يعرف بوجودها في هذه المحافظة. وكم كانت دهشة أولئك الأصدقاء عظيمة، عندما تحلق حولنا بعض فتية منطقة " الحفة "، الذين هرعوا نحونا إثر سماعهم الأغاني الكردية، فقدّموا أنفسهم بفخر على أنهم من جبل الأكراد. فراحت الأخت المناضلة، سعاد ميرزو، تقصّ عليهم ما حصل من تفاصيل نوروز ذلك العام.   

3
سلسلة القرى في جبل الأكراد، كانت من جهة أخرى تتواصلُ من الناحية العشائرية على طول طريق اللاذقية، المؤدي إلى جسر الشغور في ادلب؛ هناك، حيث موطن القائد الوطني ابراهيم هنانو. وإذا علمنا أنّ هذا الأخير، المجاهد، كان يقدّم المساعدة للشيخ عمر البيطار، قائد ثوار جبل الأكراد ضد المحتلين الفرنسيين ( أعوام بداية العشرينات من القرن المنصرم )، فلأنه استفاد من مجاورة الإقليمين لبعضهما البعض علاوة على الروابط القومية والعشائرية بين ساكنيهما.
بما أن جبل الزاوية وجبل الأكراد يتصلان بدورهما مع اسكندرون وكرداغ غرباً وشمالاً، فلن نعجب من أن يعتبرَ المؤرخُ الروسيّ البارز، لازاريف، كلا المنطقتين كجزء من الإقليم الكرديّ في سورية. وقد جسّدَ ذلك في خارطةٍ توضيحية، ألحقها بدراسة له نشرتْ في صحيفة " البرافدا " عام 1983، ترجمها لاحقا للعربية الصديق الدكتور كمال سيدو كورداغي ونشرها في صحيفة " كَل "، الكردستانية. من ناحيته، فإنّ القيادي الشيوعي رمو شيخو، كان له أيضاً فضلَ التعريف بكرد محافظة اللاذقية، في دراسة مفصّلة نشرها في الثمانينات في نفس الصحيفة الكردستانية.
ومثلما لاحظته بنفسي، من خلال احتكاكي بأهل تلك المناطق، فإنهم قد تعرّبوا لغوياً وربما بسبب انعزالهم عن بقية المناطق الكردية. فيما أن تركمان المحافظة، على العكس من جيرانهم أولئك، واصلوا التكلم بلغتهم الأم بفضل قربهم من المناطق التركية. بيْدَ أنّ اعتزاز كرد اللاذقية بمحتدّهم القوميّ، كان بالمقابل جلياً من خلال تمسّكهم بعاداتهم وتقاليدهم ومعرفتهم لعشائرهم واحتفاظهم بكنياتهم عموماً. وكما اشتهرَ كردُ دمشق وحماة بشدّة البأس والمراس والجسارة بين سكان مدينتيهما، كذلك الأمر بالنسبة لإخوانهم في اللاذقية.
حادثة من زمن عسكريّتي، كان لها مغزى فيما يتعلق بالخلق الكرديّ، المنغرس بأهل تلك المنطقة. ففي احدى الأماسي، قصّ عليّ الصديق شيركو ( وهو ابن أخ المحامي الشيوعي المعروف، خالد الكردي ) ما حدث له خلال أدائه لمهمّة في احدى قرى جبل الأكراد في " الحفة ". فقوّة الشرطة العسكرية، التي كان على رأسها بصفته كرقيب أول مجند، كانت بصدد اعتقال شخص فار من الجيش من مواطني تلك الناحية. كان الوقت في منتصف ليلة صيفية، شديدة الحرارة. ثمة، تم تطويق دار عشيقة المطلوب، والتي وشى أحدهم باحتمال وجوده لديها: " خلل نافذة حجرة النوم، المفتوحة المصراعين، لمحنا شاباً عاري الصدر يبدو بعضلاته الجبارة، اللامعة بسبب عرقه المتصبب، شبيهاً بمصارع رومانيّ مدهون بالزيت. واعتقدنا أن هذه فرصة سانحة للاقتحام، والقبض عليه وهوَ أعزل بهذه الوضعية المسترخية. إلا أنّ الأمرَ، في آخر المطاف، انقلب إلى مأساة. فلما أحسّ المطلوبُ بالحصار المطبق عليه، وأن لا أمل له بالتملّص، فإنه بادر إلى تفجير قنبلة يدوية في اللحظة نفسها التي داهمه فيها أفراد الدورية. وبالنتيجة قتل الشاب مع عشيقته فوراً، فيما أصيبَ بعضُ العناصر بجروح مختلفة ".    






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=12194