حمص: إعدام مدينة.. إلى فدوى سليمان وعبد الباسط ساروت
التاريخ: الأحد 11 كانون الأول 2011
الموضوع: اخبار



إبراهيم اليوسف

تصل صرخات الاستغاثة، من مدينة ابن الوليد، مدوية، في ست جهات العالم، تمزق الأكباد، وتقشعرّ  لها الأرواح، بعد أن أمعن السفاح "السوري" في حصارها، وباتت المجزرة فيها تتبع المجزرة، حيث ينكل ببنيها في قائظة الإعلام. وحمص المدينة، الأجمل، قلب سوريا، وطنية، وعطاء، وثقافة، يبلغ سكانها -بمن فيهم شهداؤها، المستعصين على سجلات الدفن، والغياب، المليون- استطاعت أن تصمد خلال بضعة الأشهر التي مضت، في مواجهة أسوأ استبداد دموي، فاقد للأخلاق، في العالم، لتفاجىء العالم بخصوصية موقعها في الثورة السورية، بل ثورات المنطقة، قاطبة، وتكون سيدة مدن الثورة، عامة،، وكيف لا؟،


وهي إحدى المدن الأولى التي لبت نداء درعا، إلى جانب: بانياس- قامشلي-عامودا، لتتوالى، في ما بعد، المدن الثائرة، واحدة بعد أخرى، كي تكون خريطة سوريا، برمتها، حاضنة الثورة وخريطتها الكبرى.
لقد أتيح لي، شخصياً، وبعيداً عن الاستطراد، أن أعيش في حمص، حوالي السنة والنصف، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أثناء "خدمة العلم"، لأتقرى أحياءها، وبيوتها، ومقاهيها، ومراكزها الثقافية، أقيم صداقات، عميقة، مع مناضليها، وأدبائها، وشعرائها، ومسرحييها، وتشكيلييها، نتبادل الزيارات، وأكتب من هناك في إحدى الصحف اليومية، بالإضافة إلى مجلة"دراسات اشتراكية"، عن زخم نشاطها الثقافي والفني، لأعترف-آنذاك-أنها مدينتي الثانية، أو الثالثة، إلى جانب"قامشلي" ودمشق، كما وأكتب فيها عدداً من قصائدي التي سيضمّها أحد دواويني. و مسقط رأس القصيدة، بالنسبة إلى الشاعر، أشبه بمسقط رأس فلذة الكبد، بالنسبة إلى أبيه، وهذا ما دعاني ، كلما مررت بمدينة "ديك الجن" وأنا قادم من مدينتي الموغلة ب"قاميشها" في"الشمال" والإهمال، قاصداً دمشق، إما أن أخصص ساعات من وقتي، لها، ولأحبتي، من أبنائها الأوفياء، أو لأفتح نافذة الحافلة، وهي تمر سريعاً، أتنسم هواء مدينتي ، هذه، التي طالما يقال عنها" مدينة الفصول الأربعة"، حيث تجمع الساعة الزمنية بين الربيع، والشتاء، والصيف، والخريف، فأتعرَّف فيها، للمرَّة الأولى، من التوقيف، في حياتي، و أحشر مع عدد من أصدقاء، منهم شيوعي راحل، في حادث سير، وآخرون بينهم كرديان، في غرفة"سجن"، بعد أن حنق علي ضابط، مرتش، أرعن، كتبت فيه قصيدة هجائية، ساخرة، لأمضي في تلك الغرفة عشرين يوماً من السجن، القذر.
لم أحسس يوماً، وأنا بين أدبائها، وبسطائها، وساستها، بأية غربة، فحمص، وإن كانت ثالث مدينة سورية، سكاناً، بعد مدينتي دمشق وحلب، إلا أنه، تلتقي فيها البادية والمدينة، في آن، حيث يأخذ إنسانها، من كل منهما خصالها الإيجابية، وهو سرعان ما يمنح "غريباً" مثلي، حل عليها، ضيفاً، مكرهاً، ال"جنسية"، كاملة، وليس  في جانب منها، فحسب.  ولا أريد أن أسمي أحداً من أصدقائي، هناك، وما أكثرهم، خشية أن أسهو عن ذكر أحدهم، وهو شأن كل غريب بينهم، فلكم كانوا يتذكرون أدباء، وشعراء، حلوا فيها عساكر، و لا يزالون يتذكرونهم إلى يوم ثورتهم هذا.
لعل دفق العاطفة، يغلبني، وأنا أرسم ملامح مدينتي"حمص"، بعد حوالي ربع قرن، على  إقامتي تلك، فيها، في سياق تلبيتي الروحية لنداء الاستغاثة، ينطلق من نشيش تلك الأيام، المتأججة في الذاكرة، لاسيما وأنا أبصر-عبر وسائل الاتصال والإعلام- كيف أن يد السفاح،  قد طاولت المدينة، عن بكرة أهلها، ونهرها العاصي، قاسمها المشترك مع حماة، وهي التي كانت خارج كل حساب، في عرف النظام، بعد تنكيل سابق، تعرَّضت له، قبل ثلاثة عقود ونيف، ظنَّ أنه لن تقوم لها قائمة، بعد تعرض شقيقتها-مدينة أبي الفداء—الجانب الآخر، من الطرفة، والماء، والروح، لحرب مغلقة ارتقت إلى مستوى"الإبادة" لا تزال آثار الدمار الذي تعرضت له هاتان المدينتان، تضاف إليهما حلب، من الطرف الآخر، من خط الوصل،ماثلة حتى الآن. وكأن وريث الاستبداد، ليأبى إلا أن يواصل تاريخ العنف في دورة بدأها السلف الدموي، ليربط ماضي الدم بحاضره.
وموقع حمص، في تقديم الأضحيات النفيسة، هو الأول، وهي المدينة الأكثر صموداً، وكل ذلك ليتأتى بإرادة بنيها، وبناتها، الأبطال، وهل أعظم ممَّا قاله لي صديق كاتب شهير في حمص وهو: إن حفيده، قد اشترى كفنه، وكتب وصيته، وأودعنا إياها، وكانت الدمعة تسيل من عينيه، وهو يشرح لي عملقة هذا الجيل الذي سئم تنظيراتنا،  لصنع الثورة، عندما كنا نكتفي بالإشارة إلى كلمة" دكتاتور"،أو "سفاح" أو "مجرم"، أو "ملك"، متوقعين أن كلماتنا البائسة تلك، ستهزّ عروش الطغاة الذين كانوا يواجهوننا لإطفاء تلك الكلمات، إلى أن التقط أبناؤنا لحظة الثورة، كي يترجموا صنعها، دونما أي تنظير.
إن نظام الاستبداد في سوريا، لينكّل بكل من يقول :لا، وإن كانت "لاؤهم" متصادية، بطريقة سلمية، و هو ما مارسه ضد  الثورة،الأكثر قدسية، بين ثورات المنطقة، وهذا مادفعه لأن يدمر المكان الحمصي، وأهله، كي يستوي في مرمى أسلحته، في مدياتها المختلفة، البشر، والشجر، والحجر، فتهدم المنازل فوق رؤوس أهليها، فتباد أسر، عن بكرة أبيها.
حالة الحصار التي تعرضت لها حمص، و لا تزال، حتى الآن، لا تدل على أنه حصار من استبداد سلطة محلية، بل إنه يبزُّ حصار أي احتلال، و إن وقائع أعمال العنف التي تتم، فلا تفرق بين شيخ مسن،وامرأة، أو طفل أو شاب، وإنما يبلغ التنكيل ذروته، من خلال تلك الوقائع التي يتعرضون لها، حيث الجوع والبرد، قد يكونان أصغر معاناة لهم.
في كل بيت حمصي، ثمة مئات القصص التي يمكن روايتها، عن الأهوال التي تعرضوا لها، خلال بضعة الأشهر، من عمر ثورتهم، وهل أعظم من أن تقدم مدينة واحدة ألفاً و خمسمئة شهيد، حتى الآن، ناهيك عن الجرحى، والمعتقلين، والمخطوفين، ومجهولي المصير، بما يجعلها مدينة، ثكلى بامتياز، إلا أن هذا كله، لا ينال من إرادة بنيها، ولقد قال قائل منهم لي ليلة أمس: من أيس منكم، فليزر حمص، ليشحن روحه بكهرباء الأمل.......!.
ما أعظم قولة صديقي، هذه، فهي رسالة للعالم كله، تتلخص في أن من يعول على المجازر اليومية، لإطفاء شعلة الثورة، فهو مخطىء، لأنها ثورة كرامة، وإباء، في وجه صناع الكذب والوهم والدم، بدلاً عن الديمقراطية والعدالة والسلام.
وإذا كان الحمصي، يواري جرحه، وأنينه، مواصلاً الحياة، والمقاومة السلمية، بصدره العاري، و لا يفتأ في الوقت نفسه، يبدع سخرياته من قاتله، كي يؤلف "معجم الثورة، بحبر من الدم، وهو يعد بفجر، مقبل لامحالة، حيث يكنس فيه الاضطهاد، والجور، والاستعباد، والذل، إلى أبد الآبدين، في سوريا الجديدة، الأقرب إليه، من "رمشة العين".
ومن هنا،فإن آلة الدم، والعنف، لم يشف غليل القائمين عليها، وهي تدرس في كل يوم أرواح العشرات من أخيارها، وأطهارها،أخيار وأطهار سوريا، بل استمهلت من فيها اثنتين وسبعين ساعة، هو استمهال المجرم للضحية، وهو"أبو النذير" الذي يخفق قلبه على "مهل" الأقربين، لتبدأ آلته، تلك، بالتنكيل الأكبر، ما لم يؤكد المهدد، بفتح الدال الأولى وضم الثانية، نظرية العقل الأمني، في وجود"جماعات مسلحة" وكأن الطبق اليومي، من أرواح أبطال حمص، لم يعد يطفىء غريزة القتل والدم، لدى السفاح، فراح يفكر، بأن يسعى ليرفع أعداد الشهداء، إلى أعلى ما يمكن، من رقم، ليحقق ذلك ثلاثة أشياء في آن معاً: غريزة الانتقام، والحلم الوهمي بديمومة الاستبداد، وتجاوز تحطيم بنية المكان الحاضر إلى المستقبل.
إن الواجب الأخلاقي، علينا ككتاب، وكإعلاميين، أن نرفع صوتنا، عالياً، لنصرة هذه المدينة، الرمز، ولنوصل صدى ما يجري إلى العالم كله، لاسيما وأن الجرح السوري،لا يقرأ بالشكل المطلوب، من قبل من يعول عليهم،أن يتضامنوا معه،عربياً، وعالمياً، نتيجة حسابات باطلة، لا  وزن لها في المعيار الأخلاقي، والإنساني.  و إن ما يجري في حمص، الآن، ونحن نعيش اليوم العالمي لحقوق الإنسان، هو عمل حثيث، لإعدام مدينة، في سياق معادلة، فيها التواطؤ الجلي، ضد أبنائها الميامين الذين أوتوا بروح استثنائية، صانعين معجزتهم الكبرى، وهل أعظم من إرادة كائن، يواجه الدبابة، عاري الصدر، ويعقد"دبكاته"وهو يدفن شهدائه الميامين......!
    وحمص التي تصنع-اليوم-مأثرتها، سيظل اسمها يلاحق القتلة، يقض مضاجعهم،فهي العصية على المحو من جغرافية سوريا،لتؤكد للعالم كله، أنهامدينة الفسيفساء الوطني، وإن ماء نهرها الخالد، وترابها، يصنعان أعظم قربى بين أهلها، وهذا وحده، ما يفوت أية مؤامرة، مرذولة، لقطع أوصالها، كما يتم، بعد أن عرف العالم كله أسماء أحيائها، وضواحيها، وعناوين ثوارها وشهدائها ممن هزموا آخر استبداد بائس في التاريخ المعاصر.
elyousef@gmail.com







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=10979