القسم العربي |  القسم الثقافي   القسم الكوردي أرسل مقال

تقارير خاصة | ملفات خاصة |مقالات | حوارات | اخبار | بيانات | صحافة حزبية | نعي ومواساة | الارشيف

 

بحث



عدد زوار القسم العربي

يوجد حاليا / 524 / زائر يتصفحون الموقع

القسم الثقافي



























 

 
 

مقالات: ثلاثة أيام في الاعتقال…

 
الجمعة 22 تموز 2011


 اياد شربجي
 
تقديم:
لعلكم تابعتم عبر الانترنت ووسائل الإعلام المختلفة تداعيات مظاهرة المثقفين السوريين التي خرجت يوم الأربعاء 13تموز الجاري في منطقة الميدان بدمشق، ولأجل الحقيقة، ولأن المشاهد شاهد، كان لا بد توثيق ما حدث معنا خلال وبعد ذلك اليوم المشهود الذي أثار الكثير من التداعيات التي صبّت في النهاية في صالح الانتفاضة السورية، ولتطّلعوا عن قرب على سلوك هذا النظام ضد شعبه بمختلف أطيافه وتنوعاته، حتى يتبيّن من في عقله بعض من شك حقيقة ما يحدث في البلاد.


كان من المستحيل علينا – كمثقفين- أن نبقى مجرد مراقبين لما يحدث في الشارع من تنكيل وإذلال بحق الشعب السوري المنتفض لاستعادة حريته المسلوبة على مدى أربعة عقود متواصلة، المشهد المصبوغ بدماء الأطفال والشباب والنساء كان وما يزال قاسياً جداً، وقد حانت اللحظة التي بتنا نعتبر فيها دموعنا التي نذرف مجرد تبرير فاشل لعجزنا عن النزول لدعم انتفاضة شعبنا الحر.
كنت في كل يوم أرى السخط والألم في وجوه كثير من زملائي من كتاب وممثلين وصحفيين، الشعور الضياع والعجز كان هو السائد، الكل لديه الرغبة بفعل شيء لكنه لا يدري ما هو ، وكيف هو…بعضهم فضّل الاستمرار بالتعبير عن رأيه على الفيسبوك سواء بالتلميح أو التصريح، آخرون استسلموا لحزنهم وقهرهم ثم أشهروا استسلامهم فأغلقوا الأبواب على أنفسهم وعائلاتهم وقاطعوا الأخبار وانسحبوا، لكن ثمة منهم من قرر التحرّك فاندسّ في المظاهرات التي تخرج أيام الجمعة من المساجد، أسامة غنم كان الحالة البارزة مؤخراً، لكنني كنت أعرف الكثيرين من زملائي ومن مختلف الاهتمامات والطوائف ممن فعلوا ذلك، وحتى منذ بداية الثورة عندما كانت كالولد اليتيم…خرجوا وهتفوا، وركضوا وهربوا، وبعضهم أكل (اللي فيه النصيب)، ولمن لا يعرف فقد حان الوقت لنقول أن أكثر من 40 من خيرة الكتاب والصحفيين السوريين خرجوا في مظاهرة الأسبوع الأول للثورة السورية في الجامع الأموي بدمشق، وكنت سأذكر لكم أسماءهم لولا أنني أعلم حجم الضغط الرهيب الذي من الممكن أن يتعرضوا له، ولعلكم سمعتم ببعض ما جرى مع من وقعّوا على ما سمي بـ "بيان الحليب"  لكن الذي لم تسمعون به أن كثيراً ممن وقّعوا عليه هددوا بأغلى ما يملكون لو لم يتراجعوا ويعلنوا التوبة على الشاشات، وسيأتي يوم وتعرفون حقائق مرعبة حول هذه الحادثة بالتحديد التي وصلت إلى حدّ التهديد بتصفية بعض الفنانين.
 
البداية:
تداعينا نحن مجموعة من المثقفين والفنانين والصحفيين للمشاركة بالمظاهرة التي أعلنت عبر صفحة "مثقفون لأجل سورية" والتي كان من المقرر خروجها في تمام الساعة السادسة من يوم الأربعاء 13 تموز الجاري، وقد كان نصّ إعلان هذه المظاهرة قوياً وذكياً جداً لجهة اختيار الزمان والمكان، بالإضافة إلى أن فيه نبرة تحدٍ كانت تكفي لأن تطيح بخوف البعض، وقد لاحظت أنه رغم قصر مدة الإعلان الذي ظهر قبل يومين فقط من التظاهرة إلا أن معظم الوسط الثقافي كان يتداوله باهتمام شديد، وخرج كثيرون ليعلنوا على الملأ مشاركتهم فيها رغم كل التحدّيات، وتبنّت الحدث تنسيقيات دمشق وريفها وروّجت للمشاركة به، كذلك بدأ الإعلام العالمي بالاهتمام به ونشرت العديد من الصحف ومواقع الانترنت الخبر، وقد تحدّثت معي إذاعة "مونتي كارلو" بشأنها قبل يوم من خروجها، وكذلك عدد من الفضائيات في صبيحة اليوم التالي، كل ذلك منح الحدث زخماً كبيراً، خصوصاً مع تأكيدات العديد من الفنانين والكتاب مشاركتهم بالتظاهرة التي كان الجميع ينتظرها طوال الأشهر السابقة.
في حوالي الساعة الخامسة والنصف من ذلك اليوم، استقلّيت برفقة أولاد حماي الممثلان التوأم " محمد وأحمد ملص" السيارة في طريقنا إلى جامع الحسن بمنطقة الميدان بدمشق، سلكنا الطريق الواصل من ساحة باب مصلى حيث يقبع فرع الأمن الجنائي الذي عدنا إليه معتقلين لاحقاً، وكنت في هذه الأثناء أتواصل مع بعض الأصدقاء المشاركين لتحديد مكان ملاقاتنا، في الطريق إلى الجامع كنّا نلاحظ التواجد الأمني يزداد كثافة كلما اقتربنا، لكن حجم هذا التواجد تبّدا واضحاً حين وصلنا تحت جسر الميدان، المئات منهم كانوا بانتظارنا، بالإضافة إلى أعداد غفيرة من البلطجية الذين يحملون العصي والهراوات والذين افترشوا الرصيف تحت الجسر وهم يلوّحون بهراواتهم بتوتر، اقتربنا حتى وصلنا إلى أمام جامع الحسن حوالي الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، نزلنا إلى هناك، كان في الانتظار كل من الممثلة مي سكاف، والكاتبتان ريم فليحان ويم مشهدي، والمخرج السينمائي نضال حسن، والمصور فادي الحسين، والمصور الصحفي مظفر سلمان، والسينمائية ساشا أيوب، والمخرج الفني فادي زيدان، والحقوقية مجدولين حسن، والناشطة دانا بقدونس، والناشط وطبيب الأسنان بلند حمزة، والفنانة غيفارا نمر، والإعلامي مهند منصور، والناشطتان سارا الطويل ونور بوتاري، بالإضافة لي والتوأم ملص، كنا بالضبط 9 فتيات و10 شبان، ولم نكد ننتهي من تبادل السلام والتحية حتى تدافع إلينا من بعيد عدد من الضباط برتب عالية بينها عميدان وثلاثة عقداء، وخلفهم جموع من رجال حفظ النظام، ورجال الأمن المدرّعين، وحوالي 20 من الشبيحة ، لكننا لم نهرب كما كانوا يتوقّعون، بل لم نبرح مكاننا وتجمعنا وارتصصنا إلى جانب بعضنا بعضاً، وفي وجه كل منّا اشتعلت ثقة غريبة لم نكن نتوقعها حتى نحن، فاقتربوا مناً أكثر وأكثر وتحلّقوا حولنا كحبل مشنقة.
تقدم الضباط وسألونا من يمثّل المجموعة؟، تقدمت أنا ولحقني جميع زملائي دعماً لي، وقلت لهم بلهجة واضحة: "لا أحد يمثّل أحداً، كلّ يمثل نفسه" بدؤوا ينظرون إلينا بنظرة تحدٍّ، لم نأبه، طلب منا الضابط أن نتفرّق ونذهب فوراً لأننا لا نملك ترخيصاً بالمظاهرة، وقبل أن نجيب اندفع أحد الشبيحة وكان يلبس بنطالاً مموهاً وكنزة مطبوع عليها خريطة سورية تتوسطها صورة للرئيس وقال لنا بلهجة متحدّية مستفزّة: "جايين تخربوا البلد انت وياه" فأجبته: "جايين نعبّر عن موقفنا"، فردّ مباشرة: "وليش جايين قدام جامع الحسن… لإنن كلهن مجرمين…؟ أنا انضربت هون الأسبوع الماضي من الكلاب اللي طلعوا من الجامع" فأجبته بكل بساطة: "يعني واضح حضرتك ما بتصلّي فيك تقللي ليش إجيت عالجامع الأسبوع الماضي؟"
عندما قلت ذلك ارتعد الرجل وبدأ الشرر يتطاير من عينيه وتأهّب للانقضاض، كل ذلك حدث وسط صمت مريب ومباركة واضحة من الضباط، عندها اندفع فادي زيدان وساشا أيوب ويم مشهدي وقالوا للضباط،: "بصفتو شو عم يحكي معنا هاد؟"
فقال أحد الضباط للشبيح مشيراً بيده بالرجوع فرجع للخلف وذهب، لكن شبيحاً أخر تقدّم وهو يقول  بلهجة متحدّية لمي سكاف ومشيراً لها بإشارة بذيئة جداً: "وقعتي على بيان الحليب مهيكي…بدك حليب…أعطيكي حليب؟؟" فتعالى صوته هو ومي سكاف الذي صارت تصرخ فيه "احترم حالك…نحنا سوريين متلنا متلك"، فيجيبها: "انتو سوريين يللي عمتحكوا عن جيشنا البطل اللي عمينقتل من هالعرصات" وبدأنا جميعاً نصرخ مستنكرين، عندها تدخل أحد الضباط وأشار إليه بالصمت فصمت.
تابعنا الحديث مع الضباط، قلنا لهم إن المظاهرة لم تبدأ بعد، وأننا أتينا لنعبّر عن موقفنا بكل سلمية، وأن أشكالنا وهيئاتنا لا تدلّ على أننا سلفيون، فاغتاظ أحد الضباط وقال مهدداً بالحرف الواحد: "بتروحوا على رجليكن ولاّ منشوف شغلنا معكن…وانتو بتعرفوا شغلنا كيف؟"، فقلت للضابط: "ممكن لنعرف نحكي معك تبعّد هدلول اللي عميلوحولنا بالعصي قدامنا كإنهن حاملين قتّالة دبّان وجايين بدهن يقتلونا؟" فتوسعت عيناه دهشة وردّ بعصبية: "عمتقول قتّالة دبّان…عمتقول قتّالة دبان؟!!" (لم أعرف حتى اللحظة لماذا استفزّه هذه الكلمة رغم أنها تسيء إلينا لا لهم) فأجبته بسرعة: "شكلك يا سيادة العقيد واضح بدك تفتعل مشكلة"، ولم أكد أكمل جملتي حتى عاد الشبيح الأول ومعه العشرات من أمثاله وكان بينهم فتيات أشباه رجال وكنّ بشعات ومفتولات العضلات، وكان الجميع يلبسون نفس لباس زعيمهم، والتصقوا بنا وبدؤوا يهتفون بتحدّي "الله سورية بشار وبس" نظرنا في وجوه الضباط فلم نرَ فيها أية معالم تدلّ على أنهم يرفضون ما يحصل، فالتفتّ إلى زملائي ومباشرة انطلقنا نهتف بأعلى صوتنا "الله سورية حرية وبس" وكأنها كانت صافرة الهجوم، وفجأة بدأ الهرج والمرج واندفع إلينا عناصر الأمن بكل عنف وهمجية وبدؤوا يقبضون علينا والضباط يصرخون " هاتوا الباص…هاتو الباص" التمّ على كل منّا أكثر من 5 أشخاص وسحبوني لي أولاً ثم محمد ملص ثم أحمد ملص ثم البقية وجرّونا تحت جسر الميدان باتجاه الباص، أحد الذين مسكوني قال لي وهو يكزّ على ساعدي بعنف "بدك حرّية؟…هلأ مندوقك طعم الحرية بضيافتنا " قلت له: "بدي الحرية إلي وإلك" فردّ بغضب:"كول خرة"وهمّ ليضربني لولا أن أتى من الخلف عنصر آخر وهو يصرخ "قال العميد لا حدا يضربهن هون" فخفض يده مغتاظاً وتابع جرّي بعنف مع ثلاثة آخرين، في هذه الأثناء سمعت محمد ملص يصرخ من الخلف "الله أكبر…يا أهل الميدان… يا أهل الأشمر" فقام من يمسكوه بشدّ الشال الذي يلبسه على رقبته وكادوا يخنقونه، وقد رأيت بياض عيني محمد وهو يحاول عبثاً تنشّق بعض الهواء، وكاد يسقط أرضاً قبل أن يحلّوا الشال عن رقبته أخيراً….كان الهرج والمرج والصراخ يعمّ المكان، ومع وجود جسر الميدان فوقنا كانت الأصوات ترتدّ لتبدو مهيبة، رغم هذا الجو المهيب فقد كنت أراقب كل شيء لأنني أعلم مسبقاً أنني سأخرج لأكتبه، قررت التصرّف كصحفي يجب أن يكون دقيق الملاحظة، نظرت إلى البنايات المطلّة على الشارع فوجدت الجميع على الشرفات ينظر إلينا بأسف واضح، وثمة امرأة في العقد الخامس من عمرها تلبس ثوب الصلاة كانت تضع يدها على فمها رعباً وباليد الأخرى كانت تضرب بعنف شديد على حديد البرندة أمامها، صدقوني رغم ما بي فقد خفت أن تكسر يدها لأنها كانت تضرب بعنف شديد دون أن تشعر.
في هذه الأثناء جاء الباص من بعيد وتوقف بعنف في عرض الشارع الذي كان شرطي المرور قد قطع السير فيه، وبدؤوا بدسّنا في الباص وهم يشتمون " بدكن حرية يا ولاد الشر….؟"، في هذه الأثناء يقذفون بأحمد ملص وكان رأسه ينبع بالدماء التي ملأت وجهه، وكانت ثيابه ممزقة، وأجلسونا فوق بعضنا كعلبة سردين، باص مخصص لـ 12 شخصاً جلوساً وضعوا فيه حوالي العشرين، علماً أن هذه المساحة الضيقة كانت مقسومة بساتر حديدي على شكل زنزانة داخلية.
 بالنسبة لمي سكاف كانت الوحيدة التي لم يقبضوا عليها، ربما لأنها فنانة ووجهها معروف، لكن مي كانت تركض وراءنا وتصرخ على عناصر الأمن "لك وين آخدينن…وين آخدينن…يخرب بيتكن هدلول سوريين…هدلول سوريين" إلى أن وصلت إلى الباص ودخلت عن طيب خاطر وصعدت وهي تنظر إلينا برعب إلينا كأم، هذا ما أستطيع أن أصف به وجهها حقاً، كان أحمد ملص ينزف بشدّة الكل أخذ يناوله المناديل، لكن الدكتور بلند اهتم به بشكل خاص ووضع المنديل على رأسه وضغط عليه طوال الطريق.
أغلقوا الباب الحديد علينا وانطلق الباص، بدأنا ننظر إلى بعضنا وكل منا يطمئن على الآخر، لم يكن أحدنا يشعر بأدنى خوف، كنّا قلباً واحداً وقد أزعجهم هذا كثيراً، في هذه الأثناء أحنيت رأسي تحت المقعد واتصلت بزوجتي علا ملص وأخبرتها بالتفاصيل أولاً بأول، رغم أنهم قالوا لنا مهددين أن أغلقوا الموبايلات، وكانوا يريدون سحبها منّا لولا أن المكان مزدحم جداً.
الناشطة مجدولين وهي محامية أخذت تصرخ: "بأي حق آخدينا….هاد انتهاك للقانون.؟"، فيجيبها ضابط برتبة رائد: " ما تحكي عالقانون وانتو خرقتوا القانون؟" فتردّ عليه مجدولين: "هلأ هدلول اللي كانو عميهتفوا بشار معهن ترخيص..، على مين عمتضحك؟؟" فقال لها أحدهم: اخرسي، فردّت عليه : "ما بسمحلك…احترم حالك" فصمت فعلاً، كنّا كلّنا مغتاظون، نظرنا لبعضنا وبدأنا بالإنشاد "حماة الديار عليكم سلام…أبت أن تذلّ النفوس الكرام" ولأنهم لا يستطيعون قول "اخرسوا" على إنشاد النشيد الوطني صاروا يصرخون: "خلص اسكتوا….اسكتوا حنوصل"، لكننا لم نسكت وأكملنا النشيد، ثم بدأنا نتحدّث عن البقية الذين كانوا سيأتون إن كانوا سيخرجون بالمظاهرة أو أنها انتهت على هذه الحال وكفى ، هذا ما كان يقلقنا فعلاً…أن لا تخرج المظاهرة.
بعد قليل وصلنا إلى فرع الأمن الجنائي بباب مصلىّ بدمشق، حيث كانت البنادق الروسية تطلّ من كل مكان، وكأنها تنتظر عدواً كاسراً يريد الهجوم عليها……سأتوقّف هنا اليوم
 
يمكنكم مشاهدة فيديو الاعتقال وإصابة أحمد ملص على الرابط:
http://www.youtube.com/watch?v=QZW0rfJeCFo
حدثت في الجزء الأول عن ظروف اعتقالنا حتى وصولنا لباب فرع الأمن الجنائي بدمشق، وفاتني أن أذكر لكم أننا كنا قد قررنا أن نرفع الأقلام في مظاهرتنا انسجاماً مع صفتنا التي خرجنا بها كمثقفين، وعندما أعلنّا عن ذلك على صفحة "مثقفون لأجل سورية" ظهرت صفحة أخرى على الانترنت تدعو لمظاهرة مؤيدة قبلنا بنصف ساعة تدعو لحمل الدفاتر وذلك سخرية بأقلامنا، وقد قالوا في  دعوتهم تلك "إذا ما رضيوا يكتبوا على دفاترنا رح ندحشلهن أقلامهن بطـ….." وبالفعل كانت سبقتنا هذه المظاهرة بربع ساعة لكنها التأمت في مكان آخر في الميدان ولم نصادفها نحن، لذا اقتضى التنويه.
في فرع الأمن الجنائي:
وصل الباص الذي يقلّنا إلى فرع الأمن الجنائي بمنطقة باب مصلى بدمشق حوالي الساعة السادسة إلاً عشر دقائق، بمعنى أننا اعتقلنا فعلياً وصرنا في الاحتجاز حتى قبل انطلاق التظاهرة المزمعة بعشر دقائق.
أنزلونا واحداً واحداً على شكل طابور وسط عشرات البنادق الروسية التي تحيط بنا، والنظرات الحاقدة التي كانت تلاحق كلاً منا، دخلنا من باب الفرع وأوقفونا إلى الجدار عند المدخل وكان الجميع ينظر إلينا كمجرمين، طبعاً هكذا سيكون الحال في فرع الأمن الجنائي المعدّ أصلاً لاستقبال المجرمين وأصحاب السوابق والدعارة والمخدرات وغيرها.
 تقدم أحدهم من أحمد ملص الذي غطى الدم وجهه وتفحّص رأسه وأعطاه منديلاً ورقياً، رفض أحمد أخذ المنديل وقال له بلهجة لئيمة: "يسلموا ايديك…ما بدنا منكن شي" لكن هذا العنصر كان مهذباً وتقبل الأمر مبتسماً، وأصرّ إلا أن يأخذ أحمد إلى الحمامات ليغسل دماءه وهذا ما حصل، في المكان ثمة عناصر كانوا ينظرون إلى مي سكاف ويتهامسون، باختصار (صرنا فرجة) أمام كل من في فرع الأمن الجنائي. بعد قليل تقدّم منا ضابط برتبة رائد، عرفنا لاحقاً أن اسمه "أمين هواش" وهو من دير الزور(احترامي لكل أهالي دير الزور لكنني أصف واقع الحال فحسب)، كان يتحدّث بعنجهية وأنفة كبيرة وينظر إلينا بازدراء شديد، وطلب أن ينفصل الفتيات عن الشباب ففعلنا، تفحّصنا واحداً واحداً، سأل يم مشهدي عن اسمها فأجابته، ثم قال لها: "شو بتشتغلي؟" ردت: "كاتبة سيناريو" فرد عليها بغباء شديد: "شو يعني؟" قالت: "بكتب مسلسلات" قال: "وبتمثلي فيها يعني؟" فتنهّدت وقال "لأ…أنا بكتب القصة يللي بيمثلوها الممثلين" قال "تبع التلفزيون يعني؟" قالت:"إي"، ثم عاد إلى الخلف… نظر الينا جميعاً وقال: "مين زعيمكن؟" فقلت له أنا: "ما عنا زعيم…كلنا متل بعضنا" لم أكن أدري ماذا ستجني علي هذه الكلمة لاحقاً، أشار لي بإصبعه وقال" تعا لهون لشوف" تقدمت فقال لي: "مين انت؟" فرددت عليه مباشرة : "أنا مواطن سوري" وإذ بوجهه ينتفخ وعيناه تجحظان، ثم مدّ يده وسحبني من قبة كنزتي بعنف، فتقدمت مي سكاف من خلفي وأرجعوها لمكانها، ثم جرّني الرائد أمام الجميع إلى الغرفة التي تقع مباشرة خلف باب الفرع(غرفة بعرض حوالي 3 أمتار وعمق 8 تقريباً) ولحق به بعض العناصر وأغلقوا الباب خلفهم، وقال وهو يرمي الدفتر من يده على الكرسي استعداداً للهجوم "يعني إنت العرص تبع هالشراميط" فقلت له: "لوسمحت نحنا كلنا ناس مثقفين ومتعلمين ما بسمحلك تحكي معنا بهالطريقة" وبالكاد أكملت جملتني وإذ بلطمة قوية تصفق خدي حتى أن النظر غاب عني لثوان، فصرخت بأعلى صوتي ورجعت إلى الخلف وأنا أضع يدي على خدي فاتحاً فمي بدهشة، وقلت له "عم تضرب!!"، حدثت بلبلة وهمهمة في الخارج على صوت صرختي وعلمت لاحقاً أن ساشا أيوب ركضت نحو باب الغرفة فنالت لكمة على وجهها هي الأخرى.
أخرج الرائد "أمين هواش" رأسه من باب الغرفة وقال لمن في الخارج "مافي شي مافي شي عميعيط لحالو" ثم أغلق باب الغرفة ورجع إليّ والشرر يتطاير من عينه وشهر أصبعه بوجهي مهدداً بصرامة "إذا بسمع صوتك أقسم بالله بقبرك هون يا منـ…."، كان وجهه مرعباً، جانب شفته اليميني التصق بعينه فظهرت أسنانه الوسخة التي تشبه سياج المنازل الصدأ، ومع إشارات مهددة من يديه لم أرها من أيام شغب طلاب المدارس صار هذا الرائد أشبه بالوحش، فعلاً كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها وجهاً فيه كل هذا التفاصيل الحاقدة، ثم اقترب مني، وبدون سابق إنذار بدأ ينهال على وجهي وبطني لطماً ورفساً وأخذ يلكمني على رأسي، وكان يشتم طوال الوقت وهو يضرب " يا بن الشر…..، راسك والثقافة تبعكن بحطهن تحت صرمايتي يا ابن العر……، أنا هون ما عندي هالأكل خرى تبعكن، حقكن صرماية على راسكن وراس وراس أهاليكن يا ولادين الشرا……، أنا بدوي وما أفهم حقكن نص فرنك عندي" كانت الامر صادماً جداً لي، فمنذ 25 عاماً لم يصفعني أحد على وجهي، لا أدري لماذا صمتّ في هذه اللحظات، كان يصفقني ويصفعني ويلكمي وأنا أنظر إليه وعيناي مدهوشتان دون أن أتلفّظ بحرف، حتى اللحظة لا أعرف كيف جبنت وسكتُّ وأنا الذي تعوّدت المواجهة دائماً، لن أنسى تلك اللحظات ما حييت، ولن أنسى أنها أطاحت ببقية خوفي للأبد، رغم ذلك فقد كان الأمر صادماً جداً لثقافتي وأخلاقي وكل شيء، لحظتها طار كل شيء من دماغي، لم أكن أشعر سوى بالألم على رجولتي، وكيف يطيح بها أخ سوري لي بهذه الطريقة، هذه اللحظات ستبقى تحفر مكاناً لها في وجداني حتى أموت.
عندما انتهى الرائد من ضربي فكرت بالرد أخيراً، لكن شيئاً ما أخرسني، كنت خائفاً جداً ومذعوراً على مصير الفتيات اللاتي معي، وكنت أقول في نفسي "إذا على باب الفرع بلشوا معنا بهالطريقة….شو رح يعملوا بالبنات تحت..!!" وتداعت إلى دماغي ما كنت أسمعه عن قصص الاغتصاب والاعتداء على الفتيات في السجون، هذا ما كان يأسرني، فشعرت برعب جديد، وأنني أنا من ورّطت من معي بهذه البهدلة، فصمتّ كي لا أجعلهم يفقدون بقية عقلهم إن كان تبقى لديهم منه.
جلس الضابط خلف مكتبة وقال لأحد العناصر "نبشوه لهالكلب" تقدم مني العنصر الذي لن أنسى أبداً رائحة فمه التي تشبه رائحة كيس الزبالة العفن، وبدأ بتفتيشي بطريقة عنيفة جداً، وعندما وصل إلى جيوب (البدريسة) التي كنت ألبسها وجد قلماً، فسحبه وصفعني على وجهي بقوة، وقال لي: "شو هاد يا خرة"  كانت كرامتي تزأر لكن الشلل أصاب لساني في هذه اللحظة، تابع تفتيشي وإخراج الأغراض من جيوبي إلى أن قال له الضابط: "حاجتو" وقبل أن يتركني العنصر ودّعني بصفعة أخرى على وجهي ورجع إلى الخلف، أشار لي الضابط بإصبعه لآتي وأقترب إلى طاولة مكتبه فلم أردّ في البداية، فوقف وصرخ "قرّب يا أمريكي يا كلب" نعم…قال لي أمريكي..!!!، تقدمت منه، فقال  وهو يضرب يده على الطاولة: "شو اسمك" قلت له: "اياد شربجي" قال: "شو بتشتغل يا خرة؟" نظرت إليه بطرف عيني وقلت له "صحفي" فردّ "وين" قلت: "أنا رئيس تحرير مجلة" قال: "مجلة..شو اسمها؟" قلت: "شبابلك" فرد علي "شو..؟؟" أعدت عليه اسم المجلة أكثر من 4 مرات حتى لفظها بشكل صحيح، ثم قال لي: "ومرخّصة؟" قلت: "اي مرخصة" قال "يعني نظامية..!!" قلت: "مرخصة ونظامية" ثم قال ساخراً "وشو هيّ…عن شو بتحكي؟" اعتقدت للحظة هنا أن معاملته ستتغير بالتأكيد بعد أن عرف صفتي، قلت له: "تتحدث عن قضايا الشباب ومشاكلهن وعن الثقافة وهيك" وإذ به يشهر إشارته التهديدية المعهودة(ضمّ السبابة للابهام وإشهار الأصابع الثلاثة الباقية)، ثم قال بلهجة مهددة "شوف ولا خرة…تكون صحفي تكون طيزي بتقعد بأدبك وبتخرس أحسن ما حطك تحت القندرة وإمعس راسك…فهمت ولا حيوان" فقلت له "أنا مالي حيوان" فانتصب واقفاً كالنابض وأشار للعناصر وقال لهم والبزاق يتطاير من فمه "عم ترد بعد..!! نزلوه لتحت لهالكلب خليه يعرف لوين جاية" فجاء اثنان من العناصر وامسكا بي من تحت ابطي وجرّاني، وكان إظفر خنصر أحدهم الطويل المقرف مغروزاً في ساعدي، وعندما وصلا بي إلى الباب قال لهما الرائد: "انتظروا شوي…وقفوه عندك" فأوقفوني خلف الباب، ثم قال لعنصر آخر: "هاتولي هي الفنانة شو اسمها..!!" يجيب أحدهم "مي سكاف سيدي" قال: "هاتوها لهون لشوف" نادوا على مي سكاف فدخلت، دخلت  وعيناها معلقتان بي تستفسران عما حصل معي، ولم تلتفت للضابط إلى أن ناداها، وخلال حديثها اللاحق معه كانت مي تلتفت بين الفينة والأخرى لتنظر إلي.
 قال لها الضابط "انتي ممثلة ما هيك؟" ردت: "نعم" قال "وليش طلعتوا بالمظاهرة؟" قالت مي وهي تظنّ نفسها تتحدّث مع آدمي: "بالنسبة إلي طلعت لعبّر عني رأيي انو ما بدي ابني يشوف نفس الرئيس اللي أنا شفتو" فخبط الرائد يده على الطاولة بعنف وقال "يعني انتي ضد السيد الرئيس..؟؟!!" عندها أدركت مي جسارة الموقف وجديته، فأجابت "أنا مشكلتي مو مع الرئيس كشخص" قال: "لكان شو؟" قالت "أنا بدي ابني هو اللي ينتخب رئيسه" فقال لها شاتماً وكاتماً غيظه: "هلأ بلا أكل خرا…ليش ما أخدتو ترخيص للمظاهرة!!" لا ترد مي، يتابع الضابط "يعني خدو ترخيص وتعوا تظاهروا ضدي ما عندي مشكلة" مي صمتت أيضاً، فكيف تستطيع فعلاً محاورة هكذا شخص..!!، يرن اللاسلكي، يرفع الضابط الجهاز ويتحدث بلهجة رصينة"إي سيدي.. صاروا عندي…19 سيدي…حاضر سيدي…حاضر سيدي"، في هذه الأثناء نظرت إلى شاشة التلفزيون، فرأيت الخبر الهام على شريط الإخبارية السورية "بعض الشباب يتجمّعون في الميدان بدمشق، وأهالي المنطقة يتفرّجون عليهم" هكذا كان الخبر بالضبط، نظرت إلى مي، وبدون أن نتكلم شعرنا ببعض القوة لأننا أحسسنا أن شيئاً ما حدث بغيابنا، فنحن نعرف مسبقاً أن الإعلام السوري عندما يريد أن ينفي شيئاً فهو يؤكّده فعلياً.
النزول إلى الأقبية:
بعد قليل يقف الضابط، ويقول لعناصره: "خدوهن لبرّة"، فيأخذوننا حيث يقف أصدقاؤنا في الخارج، كانت هذه من أقسى لحظات الإحراج في حياتي، فكيف لي وأنا الذي أتنطّع للمواجهة دائماً أن أبرر ما حصل بي دون أن أردّ، كان الجميع ينظرون إلي بأسف شديد، حاولت أن أهرب بوجهي من نظراتهم، وأن أكبت دموعي التي تغرغر في عيني وأنا أشعر بخليط غريب من المشاعر(القهر، الغضب، الأسف، الألم، الخوف…كل شيء) لكن ساشا أيوب وجيفارا نمر أصرتا على رؤية عيني، قاومت كثيراً، لكن في لحظة ما هربت دمعتان شعرت بسخونتهما الحارقة على وجنتي، فحاولت بشتى الطرق إخفاءهما، لكنني عرفت انني فشلت  عندما بدأ الجميع يناولني المناديل الورقية.
بعد لحظات يقول الضابط "يللا نزلوهن لتحت" فيأمرنا العناصر بالنزول، يقترب الجميع مني وأشعر بأيديهم وهي تداعب وتفرك كتفي…..ننزل للأسفل، باب حديد، وراءه باب آخر ثم فسحة، على الجانبين توجد زنزانتان، ثم سلسلة من الزنازين والمنفردات في ممرين على جانبي تلكم الزنزانتين، عند دخولنا كانت تطلّ من الشباك الصغير لأحدى الزنازين فتاتان في مقتبل العمر وهنّ يمسكن بقضبان النافذة وينظرن إلينا بشوق، من يعيش تجربة الاعتقال يدرك أن أثمن ما يمكن أن يحصل عليه هو خبر جاء من الخارج.
أوقفونا إلى الجدران على شكل صفين متقابلين واحد للشباب وآخر للفتيات، وصدف أن كان خلفي(شوفاج) تدفئة، وكان المكان المناسب لأرمي فيه دفتري الصغير الذي كتبت عليه الشعارات التي كان من المزمع الهتاف بها في المظاهرة(في الجزء القادم سأحكي لكم قصة هذا الدفتر وما أثاره لاحقاً) . بعد قليل أمرونا أن ندخل إلى مكتب التحقيق واحداً واحداً لنسلّم أماناتنا، الأمانات التي كان يجب أن نسلمها هي كل شي معنا سوى ملابسنا، وبما فيها الحزام(القشاط)، ورباطات الأحذية(الشواطات) بالإضافة طبعاً للهويات والجزادين والموبايلات، حتى إن الخيط الذي ربطه فادي حسين على معصمه أُجبر على قطعه وتسليمه.
 وضعوا أمانة كل شخص في كيس، وكتبوا ما فيه على ورقة، وأعطونا إياها لنستلمها عند الخروج، وبعد أن انتهوا من ذلك أعادونا إلى حيث كنا، في هذه اللحظة تصل الدفعة الثانية من المتظاهرين، كانوا 9 شباب جميعهم يغرقون بدمائهم، وثيابهم ممزقة مهللة،كانت إصاباتهم كبيرة، معظمها في الرأس والوجه، وهم:
المخرج الشاب: باسل شحادة، الطالب بكلية العلوم:عبد العزيز دريد، المهندس محمد أبو زيتون، الموسيقي: رامي العاشق،  الطالب الجامعي: محمد ذاكر الخليل، المسرحي: سالم حجو شقيق المخرج الليث حجو، الطالب بكلية العلوم عبد الرحمن حصين، الطالب بالهندسة المعلوماتية عبد الهادي بازرباشي.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3.66
تصويتات: 3


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات

عفوا، التعليقات غير ممكنه لهذا المقال.