القسم العربي |  القسم الثقافي   القسم الكوردي أرسل مقال

تقارير خاصة | ملفات خاصة |مقالات | حوارات | اخبار | بيانات | صحافة حزبية | نعي ومواساة | الارشيف

 

بحث



القسم الثقافي





























 

 
 

مقالات: كورونا، العملاق اللامرئي - الجزء الأول

 
السبت 18 نيسان 2020


د. آلان كيكاني

للمرة الأولى في تاريخ البشرية، يقف زعيم أقوى دولة في العالم، في خضمّ صراعه مع عدوه، أمام كاميرات التلفزة، بوجه مكفهرٍ، ويدين معقودتين أسفل سرته، وإن اضطر إلى التحدث، تحدث بصوتٍ خافتٍ، ونبرةٍ خاليةٍ من التكبرِ والاستعلاءِ، دلالةً على الاستسلامِ وقلةِ الحيلة. فلو كان العدوّ في كهفٍ من كهوفِ أفغانستان، لأرسلَ إليه صاروخاً من السماءِ، يدخلُ الكهفَ وينفجر به، ولو كان في ملجأ تحت الأرض بعشرات الأمتار، لصمم له صاروخاً آخر، يغوص في جوف الأرض، وينسفه نسفاً، يستحيل معه العثور على قطعة من لحمه. ولكن ماذا عساه أن يفعل أمام عدو غير مرئي، يباغته، كما يباغت الأسد فريسته المشغولة بقضم الحشائش في المروج؟


الارتباك هو سيد الموقف على كل الصعد. ولا غرابة، فعنصر المباغتة الذي أبداه الفايروس، وقدرته النسبية على الفتك بضحاياه، وسرعة انتشاره في أرجاء المعمورة، جعلت الناس، على اختلاف علومهم ومعارفهم، في صدمة وذهول، ولسان حالهم يقول: كم مازلنا ضعفاء أمام قوى الطبيعة، رغم تباهينا بما اخترعنا من مخترعات، وبما صنعنا من أجهزة... إزاء مثل هذه الظروف الاستثنائية، عادة ما يتصرف الناس بعفوية، ويبدون ضروباً مختلفة من أفعال اعتباطية لا جدوى من ورائها. ولهذا لم يكن من الغرابة أن نشاهد جحافل الجنود يجوبون شوارع المدن في مصفحاتهم، وفي أياديهم بنادق من تلك التي يستخدمها القناصة في حرب الشوارع، ولم يكن من الغرابة، أيضاً، أن يطل علينا زعماء العالم ليعلنوا عن مصادقتهم على علاج داء الكورونا بعقار الكلوروكين الذي يستخدم لعلاج الملاريا. على أن شرَّ البلية هو إقدام دولٍ عظمى على سرقةِ شحناتٍ من الكمامات في عرض البحر كانت متجهة إلى دول أخرى، في سلوك لا يقدم عليه إلا تلاميذ المرحلة الابتدائية، عندما يسرق أحدهم ممحاة الآخر، أو قطعة حلواه.  
والجدير بالذكر هنا، هو أن الفايروسات، بصورة عامة، هي كائنات في غاية الصِغَر، إلى درجة أنها لا تُرى بالمجهر الضوئي، بل لا بد، لرؤيتها، من المايكروسكوب الإلكتروني الذي يكبّرها ملايين المرات، ورغم هذا فقد تحتاج، كي تظهر بصورة واضحة، إلى مواد ملونة أو واسمة. ومن جهةٍ أخرى، فهي وحيدات خلايا بدائية، وفي غاية التواضع في سلم الكائنات الحية، حتى أنّ من بين علماء الأحياء الدقيقة مَنْ يعتبرها جسيمات كيماوية، وليست خلايا حية، لأنها، ناهيك عن صغر حجمها، تفتقد إلى النواة، وإلى الأدوات التي تساعدها على البناء والانقسام. وكل ما تتكون منه، هو جزيءٌ من الحمض النووي، تحيط به طبقة من البروتين، سواء أكان هذا الحمض النووي من النوع الريبوزي RNA أو من النوع الريبوزي منقوص الأوكسجين DNA. وبناءً على هذه المعطيات فهي لا تستطيع التكاثر، ولا الاستمرار في البقاء، مالم تلج إلى داخل خلية حية وتستفيد من قدراتها ومن مخازن طاقتها. وبتعبير آخر: إنها لا تتمكن من العيش إلا متطفلة على خلايا حية أخرى. وفي هذا، فهي تختلف كل الاختلاف عن البكتريا (الجراثيم) التي تتكون من خلايا ذات معالم ونوى واضحة، وتستطيع الحياة والتكاثر دون الحاجة إلى التطفل على غيرها. ومن الناحية العملية فإن مكوث الفايروسات الدائم داخل الخلايا، ودقة حجمها، وبساطة تركيبتها، وقدرتها الفائقة في تغيير تركيبتها الوراثية، إلى جانب الكثير من العوامل الأخرى، قد جعلت مسألة مكافحتها، والقضاء عليها أمراً في غاية الصعوبة، وجعلت حروب الإنسان ضدها لا تنتهي بالنصر في كثير من المواجهات، إذ كيف يمكن للإنسان أن يرسل سلاحاً يدمر الفايروس داخل الخلية دون أن يدمر الخلية نفسها؟ يبدو الأمر صعباً حقاً، لهذا كان التفكير بالتطعيم ضد الفايروسات عند علماء الأحياء الدقيقة يتقدم دائماً على التفكير بإنتاج مضادات حيوية لها. ويقوم مبدأ التطعيم على إدخال فايروسات مقتولة، أو مضعَّفة، إلى جسم الإنسان والانتظار حتى يقوم الجهاز المناعي لهذا الجسم بإنتاج أجسام مضادة نوعية لتلك الفايروسات دون أن تتمكن الفايروسات من إلحاق الأذى بالجسم. وإذا ما أردنا أن نقرب الصورة إلى الأذهان أكثر، نقول: ماذا لو قطعنا أيادي مجموعة من الإرهابيين، ثم تركناهم يدخلون إلى دولة ما؟ ألا يؤدي هذا إلى استنفار الأجهزة الأمنية لهذه الدولة، بغية التعرف على هؤلاء الإرهابيين، واعتقالهم، والاطلاع على نواياهم، وخططهم، وأسلحتهم، وفنونهم القتالية، ومن ثم إنتاج أسلحة نوعية ضدهم، دون أن يتمكنوا من تحقيق مآربهم في القتل والترهيب والتخريب داخل الدولة؟ ألا يؤدي هذا إلى اكتساب قوى الأمن الخبرة الكافية والأسلحة النوعية لمواجهتهم فيما لو أعادوا الكرة مرة أخرى، وهم بأيادٍ سليمة؟ تماماً هذا ما يفعله اللقاح بجسم الإنسان وجهازه المناعي. 
ورب سائل يسأل هنا، إذا كان الامر بهذه البساطة، فلماذا لا يتم إضعاف، أو قتل فايروس كورونا على وجه السرعة، ثم حقنه في أجسام الناس حول العالم، بدلاً من هذا الارتباك، وهذه الأزمة الخانقة التي تعيشها البشرية؟ يبدو السؤال منطقياً ومشروعاً، لكن عملية قتل الفايروس، أو إضعافه، في المختبرات العلمية، بغرض إنتاج لقاح منه، تتم، عادة، بمعاملته بمواد كيماوية، أو بتعريضه لنوع من أنواع الأشعة أو لمقدار معين من الحرارة، وهذا قد يؤدي إلى تحرير مواد ربما تكون أخطر على صحة المرء من الفايروس نفسه، قد تكون مسرطنه، أو ذات تأثيرات جانبية في غاية الخطورة على المديين القريب أو البعيد. وكم منْ شركةٍ دوائيةٍ عملاقةٍ ذهبتْ أدراجَ الرياحِ، بعد إنتاجها لمستحضر دوائي أو لقاح طبي أدى بعد حين إلى تأثيرات جانبية خطيرة... إذن، لا بد من التأكد من سلامة اللقاح قبل اعتماده.
ومن المفيد أن نذكر في هذا السياق، أنَّ ثمتَ الملايين من أنواع الفايروسات في الطبيعة، إلا أن معظمها غير معروفة للبشر. وهي مختلفة في الشكل، وفي الحجم، وفي الإمراضية، أي القدرة على إحداث المرض، فمنها ما تتعايش مع مستضيفها، سواءً كان هذا المستضيف نباتاً أو حيواناً، بسلام ووئام، ومنها ما يمكن أن تكون خطيرة إلى درجة تهديد حياة المستضيف. وكما أنَّ لكلِ مخلوقٍ مكانَه، الذي يفضّل العيش فيه دون سواه، فإن لكل نوع من أنواع الفايروسات أيضاً صنفاً محدداً من الخلايا تفضلها دون سواها. فمن هذه الفايروسات ما تختار خلايا الكبد، مسببة ما يسمى بالتهاب الكبد الوبائي، Hepatitis A or B or C، ومنها ما تعشق الخلايا التنفسية العلوية كما هو الحال في الأنفلونزا الموسمية، Common cold، ومنها ما هي مولعة بالخلايا المناعية كما في حالة متلازمة نقص المناعية المكتسبة، الإيدز Acquired Immunodeficiency Syndrome AIDS، ومنها ما تنتقي خلايا البشرة مسببة بعض الأمراض الجلدية، كالثآليل. أما فايروس كورونا فله شغف خاص بالخلايا الرئوية، حيث يمكث في البداية، ولمدة بضعة أيام، في البلعوم ثم ينحدر إلى الرئتين، ويستقر في خلاياها، وعند هذه المرحلة يبدأ الجهاز المناعي لجسم الإنسان بالتأهب سريعاً، فيتعرف على العدو، ويفصَّل له سلاحاً خاصاً به، على شكل جزيئات كيميائية نسميها الغلوبيولينات المناعية Immunoglobulins والتي تقوم بتدمير الفايروس، وتخليص الجسم منه. والسؤال هنا هو ماذا لو لم يستجب الجهاز المناعي بالشكل الأمثل، كما هو الحال عند كبار السنّ، وعند مرضى نقص المناعة المكتسبة، أو المعالجين بالكورتيزونات بصورة دائمة، وعند أولائك الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل الربو القصبي، وارتفاع سكر الدم، وارتفاع الضغط الشرياني، وقصور القلب، والفشل الكلوي المزمن...؟ هنا نكون أمام معضلة كبيرة وخطيرة، حيث يتمكن الفايروس في فترة وجيزة من تدمير خلايا الرئتين. فيدخل المريض إلى مرحلة القصور التنفسي الحاد والذي يمكن أن يقضي عليه...
يتبع

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 3


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات