على أثر انهيار الاتحاد السوفييتي، تحركت الدبلوماسية الألمانية لانتهاز الفرصة التاريخية السانحة من أجل تحقيق أهدافها الوطنية الكبرى، وفي مقدمتها إعادة توحيد بلادها التي تعرضت للتقسيم وصارت دولتين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إحداهما كانت تابعة للنظام الشيوعي العالمي والثانية للرأسمالية الغربية. والدافع الأعظم الذي دفع الدبلوماسيين والسياسيين الألمان كان يكمن في نبض الشارع الألماني أولا، وفي بعض شرائح الأحزاب السياسية التي لم تقطع الأمل في (توحيد ألمانيا) رغم مرور عقود من الزمن على تقسيمها،

 فالجماهير التي تحركت في "شرق ألمانيا" هي التي فرضت قواعد جديدة للعبة السياسة الألمانية وشجعت السياسيين في غرب البلاد على اتخاذ الخطوات الضرورية وطنيا وعلى مستوى العلاقات بين ألمانيا والقيادة الروسية الجديدة آنذاك في ظل الرئيس الجريء غورباتشوف الذي لم يبد الصلابة في الموقف السياسي ولم يرفض توحيد شطري ألمانيا، بل كان على قدر كبير من التفاهم والعقلانية، حيث وافق الألمان على ما أرادوه وقرر العمل معهم، لا ضدهم، من أجل تحقيق أكبر هدف قومي لهم، بعد طول الذل والمهانة التي عانوا منها منذ سقوط برلين تحت ضربات قوات الحلفاء في عام 1945. 

لقد كانت الظروف السياسية الدولية لصالح تحقيق "الحلم الألماني"، وشكلت لنضال الساسة الألمان إطارا ظرفيا مناسبا لإبداء الآراء وطرح المسألة بجرأة وإصرار وتقديم التضحيات المادية الكبيرة من أجل كسب الروس إلى جانب فكرة التوحيد الألمانية، ومن ثم وضع الخطة الكفيلة بإنجاح المشروع، والاستفادة من الفرصة التاريخية السانحة دون تأخير أو إهمال أو مماطلة أو تسويف. وكان الألمان بلا استثناء مع إعادة التوحيد، حتى أن الشيوعيين الرافضين لذلك بذريعة أن "جمهورية ألمانيا الديموقراطية" ستصبح لقمة سائغة في فم الامبرياليين الحاكمين في "جمهورية ألمانيا الاتحادية" لم يتمكنوا من وقف مسيرة الشعب الطامح إلى تحقيق هدفه القومي الكبير، فسقط جدار برلين وأعلنت الوحدة الألمانية في عهد المستشار الشهير الدكتور هيلموت كول، لتتحول بلاده اقتصاديا وماليا في فترة قصيرة إلى أهم وأقوى الدول الأوروبية على الإطلاق، بل لتصبح مع فرنسا محركا عظيم القدرات لتوحيد أوروبا بأسرها.

فماذا يمكن أن نستفيد نحن الكورد من التجربة الألمانية الهامة هذه؟

بلا شك، لايزال ثمة سياسيين كورد أشبه بالديناصورات، يفكرون ويرسمون سياساتهم حسب معطيات وافرازات الحرب الباردة، ولم يتمكنوا من تثوير أحزابهم ديموقراطيا، فهم (الآباء الروحانيون!) الذين يرتعدون حتى من ظلالهم عندما يتحركون سياسيا، وليس لديهم كوادر دبلوماسية تجيد السباحة في بحور السياسة الدولية، ولايزال الخوف يسيطر على أفئدتهم من رؤساء (مثل الأسد السوري) ورؤساء وزارات (مثل حيدر العبادي العراقي) غير قادرين على الوصول إلى قاعات المؤتمرات والمجالس دون حماية أجنبية لهم. وهذه الديناصورات التي تكره الرأي الآخر حتى في داخل أحزابهم، ليست ضد "دمقرطة" تنظيماتها فحسب، وانما ضد أي "تجديد" لأساليب التفكير وعقد المؤتمرات وتنظيم الأعمال ووضع الخطط، وتلعب لديهم أفكار مثل "الولاء" و"التحزب" و"التوافقية" و"تجزئة القضية القومية" دورا اساسيا، لا يمكن لهم التخلي عنها لأنهم لا يؤمنون بالديموقراطية الحقيقية أصلا أو لا يكترثون بوجودها، ظنا منهم أن قلاعهم الحزبية ستحميهم من طوفان الشعب الهادر. 

وفي الحقيقة، هذه الديناصورات التي يسكت "الديموقراطيون!" عن وجودها وقيادتها للشعب الكوردي، حتى في القرن الحادي والعشرين، بعد كل التغيرات الحادثة في عالمنا، هي العائق الأكبر أمام أي تقدم وأي إنجاز على طريق الوحدة القومية لهذا الشعب، وبإزالة نفوذهم وسلطانهم على الحركة القومية الكوردية سيصبح الطريق سالكا صوب الحرية والحياة الكريمة بالتأكيد... ولكن لماذا سيصبح الطريق سالكا؟

لأول مرة في التاريخ تصدر تصريحات من مسؤولين كبار في دول عظمى، في شرق العالم وغربه، تتضمن إشارات واضحة لحق الشعب الكوردي في إدارة نفسه بنفسه، أي الإقرار بحقه في تقرير مصيره كما هو وارد في ميثاق الأمم المتحدة، بل هناك في العالم الحر الديموقراطي سياسيون يعلنونها صراحة أن الوقت قد حان لينال الكورد حقهم في الحرية والاستقلال، ولأول مرة تفتتح دول عظمى مطارات عسكرية لها في كوردستان، جنوبا وشرقا، دون أي موافقة من الدول المركزية التي تقتسم أرضنا وتنهب خيراتنا. ولأول مرة تتدفق الأسلحة ولو بكميات محددة على المقاتلين الكورد، هنا وهناك دون وسيط، من دول عظمى وأقل منها عظمة، لأن الكورد:

- أثبتوا قدرتهم وشجاعتهم على تحدي الإرهاب الذي يخيف العالم أجمع

- أصبحوا جزءا من التحالف الدولي الكبير من أجل الدفاع عن مبادئ الحرية والديموقراطية

- كما كانوا دائما هم عنصر "أمن واستقرار" لسائر الأقوام والأقليات الدينية والعرقية حولهم. 

وهذه الأمور، إضافة إلى انتهاء فترة معاهدة سايكس – بيكو التي جزأت أرض كوردستان في ظل الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي في عام 1916 بعد انقضاء مائة عام على معاناة الكورد تحت سوطها الناري، تنامي القوة القتالية والإعلامية والسياسية للكورد، قد شكلت إطارا ظرفيا ملائما يسمح لهم التحرك ضمنه وتحقيق أهداف أكبر والاقتراب مما يكافحون من أجله منذ عقود طويلة من الزمن.

بالتأكيد، لاتزال الدولتان، تركيا وإيران، اللتين تقتسمان معظم كوردستان، قويتين عسكريا وماليا، إلا أنهما غير متماسكتين داخليا وثمة اضطرابات في إيران وأزمة اقتصادية في تركيا، والشعب الكوردي فيهما يطالب بإصرار نيل حريته وهو مستعد دائما لدفع فاتورة الحرية، كما كان في التاريخ كله، وإن مسلسل الإعدامات ضد أحرار الكورد وغير الكورد في إيران لم يسكت صوت الحرية، كما أن القوى العسكرية التركية الضخمة لا تستطيع وقف حراك شعبنا فيها، والعالم لن يبقى ساكتا أمام نحر هذا الشعب الذي يشكل ترسا قويا في خندق المواجهة مع الإرهاب العالمي. 

إن الفرصة التاريخية سانحة الآن للتقدم خطوة أخرى صوب الحرية في كوردستان بأسرها، وبحاصة في جنوب وغرب كوردستان، وما على السياسيين الكورد إلا توحيد خططهم والاتفاق فيما بينهم على خطة موحدة للعمل المشترك، ورفض العمل في سبيل الاستفادة من هذه الفرصة السانحة لن يكون سوى من جهة "ديناصورات" الحركة الحزبية أو التنظيمية التي لا تملك من الأوراق شيئا سوى "لا" و"كلا" ولا تستطيع القيام بأي عمل مفيد لشعبنا، كما لا يأتي الرفض للعمل الكوردستاني المشترك صريحا وقاطعا سوى من عملاء الدول التي تقتسم كوردستان، والعملاء لن يرحمهم الشعب مستقبلا، ولا خوف منهم لأنهم لن يوقفوا مسيرة أمة بأسرها تواقة للحرية ومستعدة لدفع الثمن كما قال عنها جواهر لال نهرو في رسالة من السجن لابنته. 

فإلى العمل والنضال بين الشعب الكوردي ودعوته المستمرة بشتى الأشكال والصور للتحرك من أجل انتزاع حريته، إذ لن يعطيهم إياها أحد زكاة أو صدقة منه مهما كان كريما.