ذهبتُ بكلّي وعدتُ ببعضي
التاريخ: السبت 30 كانون الأول 2023
الموضوع: القسم الثقافي



مروة بريم

(عُد بي إلى حيث كنتُ، قبل أن ألتقيك ثم أرحلْ)
عبارة قدحتْ في وجهي كالصوّان، صدفتها أثناء تصفحي للفايسبوك، كان يونيو في أيامه الأخيرة، يكتب نعوة الهشيم على سكون المحاصد.
كما لم تكن المستتقعات، والتُرَب القلوية خيار الحَلفاء لتنمو، أنا أيضاً لا أملك إلّا خيار الاحتكاك بأبعاد هذه الكلمات، دون اكتراث بنتائج اللحاق بها، والغوص بُكلي في حموضة التفاسير.
عُد بي حيث كنتُ!
 صراحةً لا أعرف قائلها ولم أهتمَّ لمعرفته، بقدر وقوفي على ما تركته شماريخها المشتعلة في روحي، فأصبحتُ في لحظات كأطراف السّكة في بلدة ميدان أكبس،  تندفع آلاف القبعات اللامعة من بساط الحصى المدكوك في العوارض الحديدية: فطر اليحيون، بوز العجل، والمثيرة المكتنزة أمانيتا تخفي سُمّاً قاتلاً في حُسنها اللافت.
 كان خالي يرتدي مِمْطَراً نيلي اللون، ويمسك دلواً أبيضَ في يده، يوغل جنوباً ويختفي كشبحٍ في حلق المسافة، يجمع أجنَّة البرق والمطر، فمن يجمعني عندما أتشظَّى على وقع عبارة مكتوبة بحبر الزَّمن؟
أناي الخبيرة بهذه المواقف، دفعتني لأجدَ منفَذاً لهذا المُختَنق الطارئ، نبشتُ رحلاتي الأسطورية الموجعة، والتي لن أنساها ما حييت، وتصفحت محاولاتي اليائسة في عقد قران لحظة زمنية يافعة، على توقيت هرم، فكان المنديل الأبيض يرتعش، فوق الأصابع المبتلاة بمتلازمة باركنسون, وأفشل في كل مرَّة في تشريع هذا القران الزمني المستحيل.


بعد وفاة والدي في السَّابع من نوفمبر 2010، كان علينا استصدار شهادة وفاة من السَّجلات المدنية في راجو، أين سقط رأسي ذات شباط.
 رافقتني شقيقتي في تلك الرّحلة، وأنا أرزح تحت وطأة آلام مفارقة أول رجل في حياتي.
في الطّريق استحالت نافذة الحافلة صندوقاً للدنيا تتوالى آلاف الصور على زجاجها بتواتر، التزمتُ الصَّمت كعادتي في السّفر، أهدئ من روع قلبي المفجوع بين زمنين، أنفض عن أصابعي بُرادة مغناطيس أحدهما لأتحرَّر، فيأسرني الآخر ويشدني نحو حقله المغناطيسي النَّشطِ السَّاخن.
ها أنا هنا لأول مرَّة منذ وقتٍ بعيد، أعتلي هضبة البلدة حيث الدَّائرة الحكومية، لن أسرف في وصف شمس نوفمبر قبيل الغروب، ولا انهماكها في جمع المشمش المجفف فوق أغصان البلوط والقطلب، فقط في تفحصي لقامة الجبل الشَّاهق، كانت صرخة الرّوح مدويّة هزت أركاني:
(من تلك القمم خرج أبي، وانزلق مرغماً كمثلنا نحو دروب الحياة فكان، وها نحن نكون, سيأتي دورنا في دوامة الزَّمن ونطعمُ غيرنا ملوحة كانَ) 
بعد إنهاء المعاملة، طلبتُ من شقيقتي أن نؤجلَّ عودتنا إلى حلب، ونمشي نزولاً نحو أسفل البلدة، كنتُ كفوهة بركان أشتاق لثورانه الخامد، تدافعت الحمم من أعماقي، وطغت رائحة الكبريت الطّازج على المكان، وما الذَّاكرة إلاَّ مختبر تتفاعل في متاهاتها كيمياء الزَّمن بعناصره الغريبة.
لم أجرؤ قط على الاقتراب من منزلنا، جزعتُ من لقاء جميعنا بين أكوام البازلت الشّاحبة، تابعنا السَّير حتى تجاوزنا الشارع الرئيسي حيث يقع السَّوق، جَبنتُ على الوقوف هناك أيضاً، واخترت الطَّريق الترابي المفضي لمحطة القطار، كان هذا الممشى الترابي الضيق المذيّلِ بسهلٍ فسيح حاضنة لعبثنا الطّفولي وشجاراتنا أنا وإخوتي الذين تناثروا فيما بعد في أصقاع الأرض، واثنان منهم في عهدة الموت.
وضعت قدمي ببطءٍ في خندق يطوق أراضٍ زراعية من الجهة الغربية، كنا نختبئ فيه أثناء اللعب أو لإخافة أحدهم، أحقاً تغيَّرَ وتناقصَ عمقه أم أنا التي كبرت كثيراً دون أنْ أشعر، في طفولتي كنت أراه عميقاُ، كيف وبما امتلأ ولماذا يبدو باهتاً؟
اقتربتُ أكثر من خزَّان الماء البلاتيني اللون في المحطة، يا للهول كنتُ ذات مرَّة رفقة أخويَّ المرحومين, تسلقتُ هذا العملاق المعدني أتحدَّى معارضة الكبير وخوفه من سقوطي، الصّخرة المستديرة ما زالت منتصبة قرب الخزّان، تتوسطها فتحة قطرها يسمح بمرور طفل لا يتجاوز الخامسة، غافلته ودسستُ نفسي في فتحة حجرة حفارة المياه، التي كانت تُستخدم لتحديد فوهة الآبار الإرتوازية، وتمرير الذراع الحديدي، المزوّد بإزميل في نهايته ليعبث في جوف الأرض، وعندما عصيتُ في الصخرة، رأسي في جهة وجسمي في الجهة الأخرى، استنجدتُ بأخي وقضى وقتاً يسحبني برفق،  وأنقذني بعد جخد من خرمشات الصخرة بخدوش كثيرة.
استفقتُ من الصور والاستذكار، ورحتُ كالمجنونة أفتح أبواب مخبري على مصاريعه، لأعزل هذا المكان الطَّلق المفتوح، أقوم بتجميل تشوّهات في قوامه المرئي، وتقويم كسوره اللامرئية، وأفتح زمنين على بعضهما في قوارير الذَّاكرة، هذه المرّة أخرجت نصفي من نافذة تطلُّ على الأمس السَّحيق، رأيت الخندقَ مزدحماً بضفادع ساكنة فشلتُ في حثّها على النَّقيق، والسّماء تمطر دون أن تتبلَّلَ راحتيَّ المنبسطتين، هاهي أمّي تسرع في العودة إلى المنزل هرباً من وعيد السّماء، حسناء يافعة ثمة فتور في أحمر ثوبها، القطار البخاري واقف بلا حراك، يترجّلُ منه البعض ويصعد إليه آخرون. 
شهق قلبي لرؤية أبي، كان يتوجّه نحونا وفي يده كيسً ورقيُ منتفخ،  مشى كثيراً ولم يخرج قط من حرم المحطة، بقيت أصرخ عليه لكنه لم يلحظني، صعقني صوته وهو ينادي مروة، حركتُ يديَّ المخدرتين لألمسَ صوته، أحسستُ بالخدر وببرودة لاذعة في أطرافي، وسحبتني أختي من فتحة المِحن، عبثاً سكبت محلول اللومينول، لأجد بعض الدَّلائل والبراهين على لقائي بالأمس.
عندما استدرتُ نحو راجو، كانت شاحبة كحبة يقطين وحيدة في مهب الخريف، جثوتُ على رُكبتيَّ وبكيتُ بغزارة، كما لم أفعل من قبلُ.
 في طريق العودة إلى حلب، تمنيت أن تسير السيارة التي تقلّنا إلى الأبد، وأن يتوقف هدير محركها وقلبي معاً في مكان بعيد، دون أي ضجيج أو مراسم الرحيل كما تفعل الطيور المهاجرة.
في يومٍ آخرَ غائمٍ كنتُ شديدة الصّحو، وكان حزني قد تقدّد وفقد بعض مرونته، تحادثتُ ومروة المتيّمة بالغرائب، عن أنَّ الذَّاكرة رقاقة زمنية هلامية لا وجود للهيموغلوبين فيها، لتتأكسدَ مع لومينول الرَّغبة، وأنَّ صرخة أبي تلك كانت طفرة حرارية نادرة، يحملها سهم الزَّمنِ لقلوب محنّطة بالوفاء، وأدركتُ أنَّ من يريد عبور جسور الحياة عليه أن يتخلَّى عن أغلب أمتعته, وأيقنتُ من رحلاتي العديدة عبر الأزمان أنَّ الماضي بسعته ميت حرارياً، موجود في جعبة الزَّمن بدرجة حرارة واحدة، متعبٌ تجسيده في الحاضر لتناقضهما الحراري.
فكيف أذهبُ بعزيزٍ إلى حيث كنتَ قبل أن نلتقي، ثم أرحل...؟
كيف أذهبُ إلى مقبرة هائلة مترامية الأطراف، لا أستطيع دخولها ولا إعادة عناصر هائلة كانت تتنفَّسُ في المكان..؟
----------------------------
ملاحظة:
اللومينول ( luminol ) مركب كيميائي يستخدمه الخبراء الجنائيون لإثبات وجود الدَّم، وذلك بسكبه في مسرح الجريمة، وبالضبط في الأماكن التي تم مسح الدّم منها، يتأكسد المحلول مع بقايا الهيموغلوبين فيعطي وهجاً أزرقاً.







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=9850