عام على رحيل الباحث السّوريّ أحمد عبدالحميد غانم
التاريخ: الأربعاء 13 كانون الأول 2023
الموضوع: القسم الثقافي



* أحمد عزيز الحسين

     أقام عددٌ من الكتّاب السّوريّين ندوة فكريّة واحتفائيّة على مسرح المركز الثقافيّ بطرطوس بتاريخ 12/12/ 2023، بمناسبة مرور سنة كاملة على رحيل الباحث والمفكّر والأديب السّوريّ أحمد عبدالحميد غانم (1951- 2022)، الذي رحل عن دنيانا في السّادس والعشرين من ديسمبر (كانون الأوّل) من العام المنصرم، بعد أن ترك إرثاً فلسفيّاً وفكريّأ وأدبيّاً جديراً بالاحتفاء والتّقدير، وشارك في الندوة : الدكتور ولي الدّين السّعيدي ( باريس) ومالك صقور، وشاهر أحمد نصر، وأحمد م. أحمد، وعدنان محمد، وأحمد علي محمد، وحسن محمود، وأحمد عزيز الحسين.   الجدير ذكرُه أنّ الباحث أحمد غانم نال دبلوم دراسات عليا في الفلسفة من جامعة دمشق، وعمل موجّهاً للفلسفة وعلم النّفس في مديريّة التّربية بطرطوس، وباحثاً في وزارة التّربية والتّعليم بدمشق، ومحاضراً في  جامعتي (عدن)  في اليمن، و(تشرين)  في سورية، وقد ترك بين أيدينا ثلاثة كتب فكريّة، صدر اثنان منها عن دار إياس في طرطوس، هما: (ثلاث مقالات متجاورة/ دراسة فكريّة - 2000)، و(العنصريّة الغربيّة والتّطرُّف الإسلاميّ- 2011)،


 أمّا الثّالث فصدر في عام 2017 عن دار الحوار في اللاذقيّة حاملا عنوان (نظريّة المعرفة في التّصوُّف)، وللباحث غانم إسهامٌ ملحوظ في كتابة القصّة القصيرة، وقد صدر له فيها مجموعتان قصصيّتان حملت الأولى عنوان : (عذابات أبي بديع – 2000)، في حين حملت الثّانية عنوان (عن الكلاب وقيصر- 1995)، وقد تُرجِم كتابه التّوثيقيّ (طرطوس / حضارة وجمال ) إلى اللّغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة. 
وقد وقف المحتفلون في ذكراه السّنويّة على مناقبه الشّخصيّة، وحلّلوا مؤلّفاته الفكريّة والفلسفيّة، وقرؤوا نتاجه القصصيّ، ولاحقوا نشاطه الفيسبوكيّ، وتقصّوا أهميّة ما تركه على المستويين المحليّ والعربيّ. وفيما يلي الكلمات التي ألقيت في المناسبة: 

*أحمد غانم مُلهِماً وصديقاً

أحمد. م أحمد ( أديب ومترجم سوريّ)

عرفتُه في مرحلة دراستي الثانوية، وتأثّرتُ به. وكم كنتُ سعيداً لأنه يعرف أهلي، وكان يزور والديّ ويجلس معهما في (دربيّة) بيتنا. وكانت أوّل زيارة لي إلى بيته في (الحمرات) حين رُزِق وزوجته فاطمة حسين بابنه الأكبر(إياس). 
كنتُ قارئاً صغيراً، وكان أحمد غانم القارئَ الكبيرَ الذي يجيب عن أسئلتي الكثيرة، ويقترح عليَّ رواياتٍ وكتباً شكّلت وعيي الأوّل، وعززتْ موهبةَ الكتابة الوليدة لديّ في ذلك الحين؛ ولذا فإنّه لم يكن صديقيَ الكبيرَ وحسْب، بل كان الملاذَ، والمُصْلِحَ لكل عطبٍ بُنيوي في تكويني الهشِّ الحائر، وكان الأخَ الكبير الذي لم يتوانَ لحظةً عن مدِّ يدِ العون إليّ، وعن مداواة الأسى المزمنِ الذي رافقني على امتداد عمري، وأنا أطرقُ الآن أبوابَ السّتين.
وقد أمضيتُ عشر سنواتٍ من عمري خارج البلاد. وكان النّذرُ الوحيد الذي نذرتُه: أن أقبّل يديه حين أعود، وقد فعلتُ. ثمّ كان النّذرُ الثاني أن تكونَ النسخةُ الأولى التي ألمسها من أولِ كتاب أترجمُه، أو أكتبه: ليديه، وقلبه، وعينيه اللتين ترقرقتا حبّاً وفخراً بتلميذه الذي لم يتوقّف عن إهداء أستاذه النُّسخَ الأولى من الكتب الكثيرة التي نُشرتْ له فيما بعد، وعندما غدا لي حبيبةٌ في حياتي، اعترفت له مازحاً: "هذه هي النسخة الثانية، أما الأولى فقد ذهبتْ إليها"، فردّ باسماً: "من الخطأ ألا تكون الأولى لها".
ومع أنّني لا أعرفُ قيمةَ ما كتبتُ وترجمتُ حتى الآن، لكنني كنت أقول لكلِّ مَن أعرف: " إنّ أحمد غانم وراء كلّ كتاب، لأنه هو الذي أعاد تشكيل وعيي؛ وهو الذي حَدَّ من عدميتي، وشدّني إلى الحياة، وتفهّمَ ضعفي، وعالج جروحي العميقة، وسَدَّ فجواتيَ المعرفية الخطيرة"، إذ كنت مع كلِّ جلسةٍ، وكلِّ كأس متّة أو عرَق، أحتسيه معه أتغيّر، وأغدو أكثر سعادة ومعرفة، وأقول في سرّي: "كأنّي قرأتُ رفّاً في مكتبة". وذات يوم قلتُ له، وأنا أقدِّم نسخة من ترجمتي لكتابٍ أفتخر به هو (المكتبة في الليل) لـ ألبرتو مانغويل: "يا أبا إياس، أنتَ مكتبتي الأولى".
ومع ذلك بقي هذا المعرفيّ الكبير مجبولاً من طينةٍ أصيلةٍ متفرّدة قِوامُها الأخلاق العالية، والعاطفة، والحساسية، والانتماء الحقيقيّ للعائلة والزّوجة والأطفال والأصدقاء، بل الانتماء إلى المنبت، وإلى كلّ حبة تراب في ضيعةٍ تلفّعَتْ نهاراتُها الـمُضْنية ولياليها الطويلة بالفقر وجُور الإقطاع.
***
ثمّ....!!
وفجأة يتنامى إليّ أنّ ثمّة مشكلة في رئتي أبي إياس، وثمّة آلام مبرِّحة في كتفيه وذراعيه. ويصل إليّ خبرٌ مفاجئ أنّ ولده عصام قدم من ألمانيا، ولا يعرف متى سيعود..!
فأدركت أنّ ثمةَ فَقْداً يلوح في الأفق.
وتساءلت في نفسي: هل سأستطيع تحمُّل خسارة جديدة في حياتي بعد خسارة أخي الأكبر؟
كان الأستاذ أحمد غانم قد تقبّلَ تعازيَّ الحارّة بوفاة أخي.
وأنا أيضاً تقبّلتُ تعازي السيدة فاطمة حسين بوفاة أحمد غانم.
***
الروحُ يا أحمد غانم، يا معلِّمي الأوّل الحبيب، بلادٌ يغمرها الاخضرار، لكن سرعان ما يبدأ اخضرارُ منطقةٍ منها بالذبول كلّما نظرْنا إلى الخرائبَ والأنقاض، وكلماً فقدنا حبيباً يبدأ التصحُّرُ بالزحف.
الآن، بعد رحيلكَ، ورحيل أخي محمود، ورفعت عطفة، وحيدر حيدر، وملهم جديد، وناظم مهنّا، وخالد خليفة، وبعد أن هاجر الشبابُ، وجارتْ علينا نحن الباقينَ قوارضُ البلاد، بعد الزلزال ودمار غزة، أنظرُ إلى جغرافيا روحي، وبالكاد أرى عشبةً واحدة تذكِّرني بالأخضر... بالكاد تمرُّ كلمة (أمل) دون أن تستفزَّ البكاءَ، ثم السؤال: ماذا تبقّى؟
ربما، في هذا الـ (الزمكان)، هناك عزاءً أخير يمكن اختصاره بأنّ ما بقي من الحياة.. قصيرٌ.
السلام لروحك ...


* أحمد غانم ناشطاً فيسبوكيًّا

أحمد علي محمدّ (كاتب سوريّ)

      من المؤسف، بل لعله من سوء حظي أني لم أتعرف إلى الأستاذ أحمد غانم بشكل مباشر، رغم وحدة المكان الذي انتمينا إليه، وعشنا فيه، ورغم وجود عدد لا بأس به من الأصدقاء المشتركين بيننا، فقد حالت ظروفي الخاصة وغربتي دون أن نتقابل وجهاً لوجه، ولذلك كان لقاؤنا عبر الفضاء الأزرق، الذي قرّب المسافة بيننا، وأزال الحواجز، وألغى الحدود وجعل العالم كله يتحول إلى قرية كونيّة صغيرة بكل ما للكلمة من معنى.
      وفي ظنّي أنّ الفيسبوك ليس وسيلة للتواصل الاجتماعي بين البشر فحسب، بل هو مرآة تعكس ذواتنا وأفكارنا ومستوانا الثقافي مثلما تعكس أمراضنا السلوكية والاجتماعية كما تُظهر عمقنا وضحالتنا، ونزقنا ودماثتنا، واستعدادنا لتقبُّل الرأي الآخر أو رفضنا له، وهو، علاوة على ذلك، ميدان للصراع الثقافي والأيديولوجي كأحد مستويات الصراع الاجتماعي بشكل عام، إذ يتجلى من خلاله موقع كل فرد وموقفه من قضايا وطنه وأمّته بشكل خاص، والقضايا الإنسانية بشكل عام.
 وتكمن معضلة الكاتب الذي ينشر على الفيسبوك في أنّه يتوجه في كتابته إلى جمهور عريض له مشارب مختلفة، ومستويات ثقافية متباينة، واتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة ومتناقضة، الأمر الذي يرتب عليه صياغة خطاب قادر على الوصول إلى أوسع شريحة من هذا الجمهور. انطلاقاً من ذلك يحق لنا أن نتساءل عن صورة المثقف أحمد غانم التي عكستها لنا صفحته على الفيسبوك، وطبيعة الخطاب الذي صاغه وبثّه عبر هذه الصفحة، والموقف والموقع الاجتماعي والأيديولوجي الذي تبنّاه ودافع عنه عبر مساره الفيسبوكيّ؟.
وفي معرض الإجابة عن التساؤلات السابقة ينبغي الإشارة إلى أنّ أحمد غانم، بوصفه مثقفاً وباحثاً، لم يكن حيادياً أو لامبالياً تجاه الفيسبوك، بل نظر إليه بوصفه وسيلة هامة للتفاعل الثقافي مع الآخر، وتعامل معه لتكوين رؤية موضوعية عن الذات عبر تجلّيها في مرآة الآخر، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد وجد في هذا المنبر المفتوح زمانياً ومكانياً نافذة لنشر أفكاره وآرائه أمام شريحة واسعة من المهتمين والمتابعين ما كان بالإمكان الوصول إليها لولاه، فانطلق بجرأة المثقف النقدي وتواضعه للنشر والتفاعل مع قرّائه منطلقاً من ركيزة فكرية وثقافة أكاديمية واسعة، وما هي إلا فترة وجيزة فإذا بصفحته تتحوّل إلى منبر للحوارات والنقاشات، وما تلبث أن تستقطب خيرة الكتاب والمثقفين السوريين، وقد شملت الموضوعات التي طرحها عبر هذه الصفحة مروحة واسعة من الأفكار والموضوعات الفلسفية والاجتماعية والسياسية والأدبية والفنية والتاريخية؛ إذ استطاع بأسلوبه الرشيق ولغته الثرة تطويع المفاهيم والمصطلحات الفلسفية وتقديمها بلغة مبسطة وقابلة للفهم من القراء غير المختصين في المجال الفلسفي، مثل مفاهيم الوجود، واللاوجود، والعدم، والصيرورة، والزمان، والمكان، والحتمية، والضرورة، وغيرها من المفاهيم الفلسفية الأخرى.
    أما فيما يتعلق بموقعه وموقفه من الصراع الاجتماعي المحتدم محلياً وعالمياً فإن كل من تابع صفحته سيكتشف أنه كان منحازاً إلى قضايا شعبه وأمته وقضايا الإنسان بشكل عام، وتجلى ذلك من خلال تبنّيه لمشروع التنوير والعقلانية ونقده الثابت للمشاريع السلفية والدينية التي تعمل على تغييب العقل وتعطيله كأداة في فهم الواقع والتاريخ، كما يظهر ذلك من خلال نقده الدائم للنظام الرأسمالي ومرحلته العولميّة وتحميل قادة هذا النظام مسؤولية الكوارث والخراب الذي شمل معظم بقاع العالم الثالث، بل وصلت آثاره وعقابيله إلى أوروبا ذاتها والغرب بشكل عام، ومع رؤيته للعامل الخارجي وتأثيره الكبير في تطوير مجتمعاتنا إلا أنه لم يغفل دور العوامل الداخلية، بل أعطى هذه العوامل الأولوية في هذا التطور، وذلك بالتضافر مع العوامل الخارجية، ورغم تبنيه للخيار الاشتراكي كحلّ وخيار استراتيجي لتحرر الإنسان وانعتاقه إلا أنه لم يقع في مطب الدوغمائية التي سادت بين أنصار هذا الخيار، بل ظل واعيا للطريق الوعر والصعوبات الهائلة التي قد تعترض البشرية للوصول إلى هذا الهدف، لذلك نجد أنه بقي متوازنا بعد الانهيارات الكبيرة التي أصابت هذا المشروع، ولم ينتقل إلى الضفة الأخرى مثلما فعل الكثير من المثقفين، وكم فوجئ الكثيرون من القراء والمتابعين به وهو ينفض الغبار عن شخصية هامة ومؤثرة في مدينة طرطوس وتاريخها هي شخصية المرحوم رياض عبد الرزاق؛ فيكشف لنا عن الوجه الآخر لهذا المثقف المتنور الذي كان يملك أهم وأكبر المكتبات في المحافظة، ويصحح الصورة النمطية التي سادت وانتشرت له خلال عقود من الزمن، وهذا إنْ دل على شيء فإنّه يدل على موضوعية الباحث وعلميته وابتعاده عن الكليشيهات الجاهزة والأفكار المسبقة.
     أما في الجانب الأخلاقي والاجتماعي فقد عكست لنا صفحته الفيسبوكية صورة المثقف المتواضع والإنسان الدمث الرقيق المحب، ولعله يكون من القلائل المتقبلين للرأي الآخر المخالف لهم، والمحتفين بهذا الرأي؛ فالرأي المخالف يفتح أفقا للنقاش، ويضيء جوانب من الموضوع لم تكن واضحة في رؤية الكاتب، كما لم يكن محبا أو باحثا عن الإعجابات المجانية كغيره من فرسان الفيسبوك، بل كان محتفيا بالرأي الرصين والتعليق اللمّاح الذي يعبر عن التفاعل الحقيقي بين القارئ والنص المنشور، ولهذه الأسباب مجتمعةً فقد استقطبت صفحته عدداً لا بأس به من المثقفين والمهتمين، وتحولت إلى منبر مهمّ لتبادل الآراء وتفاعل الأفكار كما أسلفنا.
وها نحن بعد مضيّ عام على رحيله نكتشف مقدار الخسارة وحجم الفقد اللذين مُنينا بهما في هذا الفضاء الأزرق.
   الرحمة والسلام لروحك أبا إياس، والمجد لذكراك العطرة.

* أحمد غانم، وجيل الآمال والخيبات 

شاهر أحمد نصر ( كاتب ومترجم سوريّ)

في ربيع سنة من سنوات أوائل سبعينات القرن العشرين دخل صفَّنا في المرحلة الثانوية مدرسٌ شاب فتي بارع القامة معتدل البنية وضاء المحيا، تزين طلته غرة خرنوبية مندفعة قليلاً إلى الأمام، ويرتدي سروالاً أبيض اللون ناصعاً، وقميصاً خمرياً زرّاه العلويين حرّان، وكلّ ما فيه نظيف براق يشي بتشوُّفه إلى المستقبل، وعشق الحرية... يومها تعرّفنا أحمد غانم الطالب الجامعي، الذي سيدرسنا مادة علم الاجتماع، وقد خصص أول درس للتعارف، وبناء أواصر الصداقة مع طلابه، وسعى منذ الدرس الأول إلى أن يغرس في أذهانهم ضرورة ربط نظريات علم الاجتماع بالواقع الاجتماعي الموضوعي، وأهمية الصدق والمحبّة في العلاقات الاجتماعية، فجذب الطلاب بأسلوبه الشائق، وسعة مصادره العلمية، فواظبوا على حضور دروسه الممتعة حتى آخر درس، وآخر ساعة... وفي نهاية الفصل الدراسي تغيب أحد الطلاب عن آخر درس لمساعدة أهلة في زراعة أرضهم، فأبدى الأستاذ أحمد أسفه لأنّه لن يستطيع وداعه، وحينما غادر القرية استقلّ مع عدد آخر من المعلمين والركاب سيارة اللاندروفر العمومية صلة الوصل الوحيدة مع المدينة، وفي الطريق شاهد ذلك الطالب عائداً من السهل؛ فاندفع وأخرج رأسه ونصف جسده العلوي من السيارة، وراح يلوح له مودِّعاً منادياً باسمه... أجل، لقد حافظ على علاقات الصداقة مع طلابه طوال المرحلة الثانوية، وبعد إتمامهم لها، وعدّهم زملاء له، وكثيراً ما كانوا يحتفون في جلساتهم بذكر مناقبه الحميدة ودماثة خلقه، وعشقه للحرية، وهو يسعى لبثّ المعرفة والبهجة حيثما حلّ، ودفعته خصاله النبيلة تلك إلى المساهمة في تشكيل النادي السينمائي بطرطوس، والمشاركة في إدارته، ولم يكتف النادي بعرض الأفلام السينمائية التنويرية في المدينة وحدها، بل أخذ يتنقل في الريف الذي يعشقه... كيف لا وأغلب أعضائه ترعرعوا في جنباته، وراحوا يتنقلون من مكان إلى مكان غير طالبين أي أجر، أو منصب، أو شكر، هدفهم الوحيد هو نشر الوعي... 
أجل، نستطيع أن نعدّ جيل المثقفين الذي نشأ في ستينيات القرن الماضي استمراراً بالعطالة لجيل العهد الوطني في خمسينيات ذلك القرن، ذلك الفضاء الاجتماعي والسياسي والثقافي، الذي شغلت المثقفين فيه قضيةٌ رئيسة هي قضية التنوير ومسألة النهوض بالمجتمع وتنميته من مختلف النواحي، فنشأت فئة من المثقفين لم تشغلها المناصب، ولا المال، ولا الفوائد الشخصية، أو التفكير في تأمين مستقبلها؛ بل سخّرت حياتها كلّها، وصبّت جهودها بأكملها لخدمة قضية عامة من دون أي منفعة شخصية، إذ رأت في المنفعة العامة منفعة شخصية لها؛ فنسي المثقفون الأثرياء ثرواتهم، ونسي المثقفون الفقراء فقرهم، ووجّهوا اهتماماتهم إلى القضايا النظرية، لتستهلك متعة البحث عن الحقيقة، والاكتشافات العلمية، والفنون، والهموم الإنسانية كلّ شيء في حياتهم، فبدلاً من بناء البيوت وفرشها، وشراء الملابس، أخذوا يشترون الكتب، واللوحات، وأشرطة التسجيل والأسطوانات الموسيقية، ويؤسسون المنتديات الثقافية، ويمضون أوقاتهم في النقاشات الفكرية، وكلّهم ثقة بأنّ العقل المستنير هو الوسيلة الرئيسة لتغيير الواقع، إنّهم  نُسّاك الفكر الزاهدون في الحياة، المتعصبون لمعتقداتهم، المتعطشون إلى الجمال والحرية، الذين يشيخون، وتنحني ظهورهم، ويشيب شعرهم، إنّما تبقى أرواحهم وتطلعاتهم شابة دائماً، هؤلاء هم أبناء رجال العهد الوطني، ومثقفو ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ترعرع الأستاذ أحمد غانم في حيّز متواصل مع فضائهم... 
إنّما في الستينيات بدأت في الظهور وتتشكل إرادة أخرى في بنية سياسية أخافها التنوير، عرفّها الدكتور طيب تيزيني بـ"الدولة الأمنية" ونشأ تناقض بين جيل المثقفين التنويريين وتطلعاته، وبين تلك الإرادة والبنية الغريبة عن التنوير، التي تركّز همّها في امتلاك السلطة والثروة، مع تغييب العقل، ولم تبالِ بالتنوير ولا بالتنمية، وترافق ذلك مع بدء اندحار المشروعين النهضوي العربي، والتنويري العالمي، وهيمنة عولمة رأس المال العابر للحدود المترافق مع الهيمنة على وسائل الإعلام والقوة، فتفرق جيل المثقفين الأوائل، وتشتت، وراحت القيود تُفرض على المنتديات الثقافية، وأضحى اقتناء الكتاب وقراءته تهمة، وبدأ الظلام ينتشر، وراحت تتلاحق الخيبات... وعلى الرغم من ذلك أحبّ الأستاذ "أحمد غانم" أن يقاوم بطريقته، وحسب إمكاناته، فأسّس داراً للنشر لعلّه يسهم في نشر العلم والمعرفة والتنوير، وأصدر عدداً من الكتب، وكانت له محاولة متميزة في كتابة القصة القصيرة، لو أتيح له ناقد يغني عالمه، وقرر التفرغ لكتابة القصة لأبدع نمطاً خاصاً به من القصة القصيرة ذات البعدين الاجتماعي والنفسي...  إنّما تفاقمت معاناة المجتمع والمثقفين بسبب الحرمان من النشاط الاجتماعي والبحث الفكري الحقيقي، ومن حدة الانقسامات وظهور مفهوم: من هم "جماعتنا"، ومن هم ليسوا من "جماعتنا" العائق لأي تقدم، وطغت عملية ترويج الفكر القزمي، والغيبي والظلامي صاحب الامتيازات والترف، فعانى المثقفون الحقيقيون غربة مروعة ترافقت مع اليأس والإحباط والسوداوية المشبعة بأحلام اليقظة، وأضحوا أقرب إلى الطوباويين، والرمزيين الذين يؤمنون بجمال ربيع الأمل المرتقب، الذي يستمدونه من ذخيرتهم الثقافية، ومن جمال الكون؛ على الرغم من معرفتهم باحتمال عدم قدومه إبّان حياتهم... فلجأ أديبنا ومفكرنا إلى الفلسفة؛ إلا أنّ ظروف تطور الفلسفة لم تكن مواتية تماماً، فقد عانت مع الثقافة التنويرية من الاضطّهاد... وحلّت مرحلة تستدعي تأسيس منتديات ثقافية معارضة للتجهيل والحرمان من النشاط الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتدعو لبناء المجتمع على أسس متحضرة تنسجم مع متطلبات وتحديات عصر المعلوماتية والتغيير، لكنّها جوبهت بالرفض، ولم تجد الحاضن والتربة الاجتماعية التي تحميها، فازداد تبعثر المثقفين، وانكفأوا على ذاتهم في صفحات إلكترونية تتيح لهم قليلاً من التواصل الافتراضي، واستمر فقيدنا يؤدي دوره... ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع آرائه فقد ظلّ هذا الإنسان الوطني عاشق الجمال والأخلاق السامية يسعى دؤوباً لتحقيق هدفه وأمله الرئيس أن يساهم في نشر الفكر التنويري للسمو ببني قومه ونهضتهم... وفي هذا السياق أودّ أن أثمّن تفاعله الموضوعي مع الحوارات التي عرفتها صفحات التواصل الاجتماعي، وأورد مثالاً على ذلك تفاعله مع موضوع محاضرة أعددتها تحت عنوان: "الأدب الروسي في الفضاء الثقافي العربي، وأثر الأدب الروسي في تربية الشباب"، الذي أثرته في شبكة الانترنت في شهر آذار (مارس) 2022، إذ جاء في جوابه: 
"شكّل الادب الروسي مصدراً رئيساً في ثقافة الشباب الثوري وخاصة مع نمو التيارات والأحزاب السياسية اليسارية القومية منها والأممية... ويكاد لا يخلو منزل في سوريا من وجود أعمال (عباقرة الأدب الروسي)... وحالياً والآن يضع ولدي "عصام غانم" المقيم في ألمانيا صورة دوستوفسكي كبروفايل لحسابه على فيسبوك... إضافة إلى أن مشتركات كثيرة بيننا وبين المجتمع الروسي، كمجتمع يقترب من الشرق أكثر مما هو أوروبي غربي. فكثيرٌ من القيم مشتركة لهذا يدخل الأدب الروسي بيوتنا كجار قريب وليس كضيف غريب"، ويُعدّ سعي الأستاذ "أحمد غانم" الحثيث والمستمر لنشر الفكر العلماني العقلاني، والثقافة الإنسانية المتحضرة استمراراً لإرادة جيل الآمال التنويرية، وعدم الاستسلام لإرادة تغييب العقل، ونشر ثقافة الخيبات والإحباط الرجعية... 
"أبا إياس"، المفكر الوطني الغيور، لن تضيع جهودك وجهود أبناء جيلك، وخير دليل على ذلك هذا الاهتمام الذي يبديه أبناؤك وأصدقاؤك في إحياء مشروعكم التنويري الوطني النبيل... فضلاً عن أنّه لا يمكن  لمخزون الطاقة الإبداعية، والأفكار الإبداعية أن يتبدد ويضيع سدى، أو يفقد أهميته المستقبلية، إنّما ما نعيشه يُعرف بمُكر التاريخ، إذ يجري عبر مجموعة متنوعة السبل، يضيق فيها الوعي تارة، و يتسع تارة أخرى، ويتغلغل في أعماق الذاكرة الإنسانية، كأنّه يختفي من السطح، إنّما لا بدّ أن ينهض ويعبّر عن نفسه من جديد، لا يمكن أن تتلاشى الثقافة الإنسانية، إنّها خالدة، ما دام الإنسان يبحث عن مغزى الحياة... وستستمر البشرية تبحث، وتبحث، بانتظار خرق تقني علمي ينفض كلّ هذا العفن عن كاهلها، وتلعب الأفكار والثقافة التنويرية دورها... 
لروح الأستاذ أحمد غانم السلام، ولذكراه أعطر الورود.

* أحمد غانم قاصّاً

عدنان محمد ( قاصّ ومترجم سوريّ)

إذا أردنا أن نبحث عن تأثير الفلسفة في حياة أحمد غانم فلن نذهب بعيداً. بل نستطيع أن نقول بكل جرأة : إنّ فقيدنا قد تشرّب الفلسفة حتى باتت تسري في دمه، وكلامه، ونمط حياته، ورؤيته للعالم. وأستطيع أن أقول جازماً إن أحمد غانم الإنسان قد اتّخذ مبدأَ السخرية الجادّة بل السخرية المريرة من كل شيء طريقاً، وكانت السخرية اللاذعة هي فلسفته في الحياة. وهو ما يتجلى واضحاً في مجموعتيه القصصيّتين.
ومن المعلوم أنّ مجموعته الأولى "عن الكلاب وقيصر" قد صدرت في عام 1995، واشتملت على عشر قصص قصيرة، تنداح عناوينها كالآتي: "اللعنة-هل أُطلِق النار يا أبي؟- التمثال-موت طفل في الواحدة والثمانين من عمره- لماذا تضحك؟- أنصار المرسيدس-الرصيف اللَّيِّن-الشيخ محمد يلعن الأيديولوجيا- وأخيراً عن الكلاب وقيصر. أما المجموعة الثانية "ثلاثية جدل" فهي رواية بقالب قصة، وعنوان الجزء الأول منها "عذابات أبي بديع"، وقد صدرت في الشهر العاشر من العام 2000، أي بُعيد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 أيلول، على إثر استشهاد الطفل محمّد الدرّة. وقد قسّم الكاتب هذا الجزء إلى ثلاثة عشر فصلاً متفاوتة الطول، بحيث نجد أن الفصل العاشر، "الأصنام"، يمتد على ثلاث وثلاثين صفحة، بينما نجد أن الفصل الثالث عشر يتكون من سطر واحد فقط. وتتالى عناوين فصول هذا الجزء على النحو الآتي: أغنية- احتمالات- أبو بديع- دفء بارد- منتصف الوعي-الموت دون احتجاج- أعضاء طبيعية-الصدق- المسخ- الأصنام-الغسق- قصر المرمر- الحقيقة.
وفي ظنّي أن الفلسفة والدين يتضافران في هذين العملين الإبداعيين ويشكّلان أحد محاورهما الرئيسة. وهو ما ساعد الكاتب على تشكيل رؤية جماليّة للعالم، وإعطاء إجاباتٍ عن تساؤلات الإنسان الوجودية منذ أن وُجد حتى الآن؛ لذا نجد بين العناوين مفردات تنتمي إلى القاموس الفلسفي وأخرى تنتمي إلى القاموس الديني، وقد اندرج القاموس الفلسفي في عنوان المجموعة الثانية "جدل dialectique"، والمعلوم أن مصطلح (جدل) نِشأ مع أفلاطون، ثم تطوّر مفهومه على يدي هيغل، واستخدمه ماركس في نظريته المادية بآلية أخرى... إلخ. أما القاموس الديني فيتجلى في المجموعة من خلال ظهور مفردات مثل "اللعنة"، و"الأصنام" وغيرها.  
وبوسعنا أن نقول إن مجموعة "عن الكلاب وقيصر"، مليئة بالسخرية اللاذعة التي تصل إلى حدّ الهجاء لمواطنين مستسلمين لأقدارهم، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها أو حتى للحدّ من هيمنتها على حياتهم. ففي القصة الأولى، اللعنة، نجد أشخاصاً تنبت لهم أذيالٌ وهم فرحون بها. وليس أدلّ على ذلك من قول بطل القصة: "مرةً رأيتُ روحاً بلون الكريستال، عالقة بجسدٍ تحاول الخلاص. كان جسد الطفل لزجاً ومخاطياً دبقاً. ما إنْ تُحرّر جزءاً حتى يعلق جزءٌ آخر، وقبل أن ترحل سمعتُها تقول باندهاش الفجيعة: ((مادام الله واحداً، وهو هنا، هو نفسه هناك؛ فلماذا قذف بكل هذا الشر إلى كوكب واحد صغيرٍ كهذا؟!)) . ولا شك فإن ثمّة تناقضاً واضحاً بين الروح التي "بلون الكريستال"، والجسد "اللزج المخاطي، الدَّبِق": وشتّان بين نقاء الكريستال ونجاسة الجسد اللزج المخاطي. والتساؤل فلسفي صارخ: "فلماذا قذف بكل هذا الشر إلى كوكبٍ واحدٍ صغيرٍ كهذا؟"
ويصف البطل عملية ولادة الذيل قائلاً: "تشعر به وهو ينبو. تحسّ شيئاً ما يتحرّك في رأسك. وما هي إلا لحظات قصيرة حرجة حتى يخرج من مؤخّرتك فيترك فراغاً في الرأس، لا يلبث أن يندمل مع تقلّصات الدماغ لملء الفراغ" . إنه وصف لاذع جداً لمن يكفّون عن استخدام عقولهم فتضمر-بحسب نظرية داروين-، أما بحسب منظور الراوي فتتحوّل إلى أذيالٍ توفّر لهم السعادة والفرح.
وتتجلّى السخرية في أبهى صورها وأشدّها تمثيلاً في المقطع الآتي: "ولأن القامة المنتصبة تخفي معالمه، كنا نحني طهورنا قليلاً لإبراز مفاتنه، وإعطائه حرية أكبر. وأخذت الانحناءة تزداد إلى أن وجدنا أنفسنا نسير على أربع كأـفضل الأوضاع مواءمة وجمالاً. فظل الذيل وحده منتصباً" . كما تتجلّى السخرية في قصة" أنصار المرسيدس"، إذ يقول الراوي: "سمعتُ اثنين يتحاوران حول المرسيدس والـ (ب. م) أيهما الأفضل. ووصل الأمر بينهما إلى خلاف حاد، تبادلا فيه الشتائم والكلمات، ثم رفسا بعضهما البعض، وانقسم الناس بينهما فرفسوا بعضهم بعضاً، حتى أنصار النوع الواحد اختلفوا فيما بينهم وتبادلوا الرفس".  وتعود الحالة البهيمية في هذه القصة أيضاً، إذ يختمها الكاتب قائلاً: "أنا اللي محيّرني، ليس أن الطفل الذي مات لم يمت! [...] بل لماذا كان الناس يترافسون وأيديهم إلى الأرض؟! والأغرب من كل هذا أن والد الطفل كان من أنصار المرسيدس." 
أما المجموعة الثانية فتشكل نقلةً نوعيةً وتحوّلاً جذرياً في رؤية الكاتب الجمالية للواقع وآلية تشكيله الفنّيّ؛ إذ اختفى الهجاء اللاذع لمجتمع مستسلم إلى نَفَس مقاوم، وصارت الشخصيات متمرّدة على واقعها وتحاول أن تغيّره، بدءاً بشخصية أبي بديع الذي قال له عبد الله بيك: "ليش إنت هيك يا عبد الحميد، بتضلّ رافع مناخيرك عَ السما" فردّ عليه بسخرية وتحدٍّ: "لأن الله خلق الإنسان منتصب القامة، وليس كالقرد محنياً ظهره."؛ وانتهاء بشخصية الشاب راشد (ولهذا الاسم دلالة واضحة). فهذا الشاب "الراشد" هو حفيد الشيخ راشد الذي قاوم الفرنجة بكل بسالة واستُشهد، ودفُن على قمة جبل إكراماً له، وهو ابن أبي بديع أيضاً الذي رفض أن يحني هامته أمام الإقطاع. إنه راشد الذي يصرخ بكل تصميم في وجه الاحتلال الإسرائيلي لمدينته: "لن أقبل... لن أقبل.... أقسم أني لن أقبل!"  
وفي ظنّي أنّ هذا التحوّل بين مجموعتي أحمد غانم، يشبه التحول الذي حدث بين روايتي ألبير كامو "الغريب" و"الطاعون". ففي الأولى يسترسل الكاتب في وصف عبثية الحياة وتفاهتها، لينتقل في الرواية الثانية إلى وصف تضافر أبناء مدينة وهران لمقاومة "الطاعون بكل رموزه الممكنة. 
ويمكن أن نلحظ في مجموعتي أحمد غانم أيضاً صعودين متغايرين، الأول في قصة "اللعنة" التي تتضمنها مجموعته "عن الكلاب وقيصر"، وهو صعود إلى جبل بظاهر المدينة الملعونة، الملوَّثة، مع أنه هروب من واقعٍ مرير ومُخزٍ، وتعالٍ عليه، أما الصعود الثاني فيتجلى في قصة "الغسق"، من مجموعة "عذابات أبي بديع"، فهو إلى جوار ضريح الشيخ راشد المقاوِم الشهيد، ولقد صعد البطل "راشد" إلى هناك لكي يستمدّ القوّة والشجاعة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لمدينته. 
ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أنّ المجموعة الثانية قد حوت بعض التضمينات والاقتباسات التي تثري السرد، وتنمّ عن ثقافة عالية يحمّلها الكاتب لشخصياته. وسأذكر منها مقولة شكسبير الشهيرة في بداية مسرحية (هاملت): "أن نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة". وكذلك نجد العبارة الشهيرة أيضاً لأمّ أبي عبد الله الصغير، حاكم غرناطة، حين أتاها باكياً بعد هزيمته، فقالت له موبّخةً: "ابكِ كالنساء على مُلْكٍ لم تحافظ عليه كالرجال"؛ إذ يورد الكاتب هاتين العبارتين الشهيرتين من دون أن يذكر قائليهما، وأعتقد أن السبب في ذلك هو أن شهرتهما تغني عن ذكر قائليهما. وبالمقابل فإن الكاتب يورد قولاً للفيلسوف الصيني تشوانغ تسه، ومقطعاً طويلاً من تاريخ أبي الفداء؛ وكذلك يورد مقطعاً من رواية "المسخ" الشهيرة لفرانز كافكا، في قصة تحمل العنوانَ نفسَه؛ وهو يذكر القائل واسم المرجع في الحالات الثلاث. 
    وفي رأيي أنّ أهمية الفلسفة التي تجسدت في حياة أحمد غانم ومؤلفاته هي الفلسفة الإيجابية التي تبني الإنسان، وتنير حياته ووجوده بصورة عامة، وليس الفلسفة السلبية المتخاذلة التي تدمِّر الإنسان والأوطان. وقد أشار الكاتب إلى ذلك في حوار دار بين أستاذ الفلسفة المتخاذل الذي يروِّج للاحتلال الإسرائيلي ويسوِّغه، وراشد الشاب الثائر، إذ يقول الأستاذ: "اعترِفْ أنك تعيش في غير زمنك واستسلِم، عش ما تبقّى من أيامك القليلة بعيداً عن عبثك هذا، ومناداتك بالحرب."؛ فيردّ راشد: "إذا كان ما أفعله عبثياً، فهو واجب الجميع." 
ولاشك في أن هناك أفكاراً كثيرةً أخرى تكتنزهما هاتان المجموعتان القصصيتان، ولكني سأكتفي بما ذكرتُه في هذه العجالة، مع الإشارة إلى أن هاتين المجموعتين الجديرتين بإعادة القراءة من جديد تعطيان فكرة وافية عن أحمد غانم الإنسان، والأديب، والمثقف الذي عاش حياته حاملاً همّ مدينته ووطنه، ورحل وهو يتوق إلى تجذير ما حلم به في تربة واقعه ووطنه.

* أحمد غانم والمُدوَّنة الصّوفيّة العربيّة

أحمد عزيز الحسين ( ناقد سوريّ)

      لم يكن أحمد عبدالحميد غانم (1951-2022) صديقاً حميماً وحسب، بل كان باحثاً وطنيّاً شريفاً كافح من أجل وطن مزدهر ومعافى… وما أكثرَ ما هفا إلى خلاص وطنه المفجوع من أزماته المستفحِلة، واجتهد في تحديد أزماته ومواجعه، وواجَه القوى الحريصة على إبقائها واستِفْحالها معاً، ولَم يكتفِ بإنزال الفلسفة والفكر إلى أرض الواقع، بل حرص على توظيفهما في قراءة مظاهره ووقائعه، رابطاً بين الظّاهرة الواقعيّة وقوانينها الموضوعيّة وتجلّيها بهذا الشكل أو ذاك، وباحثاً عن الآليّة المُجدِية التي تضمن لنا فهمَها وتحليلها بأجلى شكل ممكن. 
       وقد جسّد من خلال سلوكه العمليّ ما ينبغي أن يكون عليه المثقَّف الوطنيّ النّزيه الذي يهتدي بقيم أخلاقيّة ومثل جماليّة عليا تضمن له أن يُموضِع أحلامَه في تربة الواقع الذي يعيش فيه، ويجني رزقه بيديه، ولا يُضطَّرُّ إلى الانحناء أو الطّأطأة أو تقديم تنازلات عمّا آمن به، وجعله سقفاً له في حياته الفكريّة والعمليّة، وهكذا اضطُّرّ إلى أن يكون النّاشر والقارئ والمصحِّح وعامل الطّباعة والمخرِج الفنّيّ معاً في دار نشره الصغيرة التي أقامها في طرطوس، ووفّرت له الاستقلال الماديّ بشقّ النّفس، وحمتْه من اللُّهاث خلف لقمة العيش المُرّة، في ظلّ تآكُل الرّاتب التّقاعديّ الهزيل الذي كان يتقاضاه، وعدم توافُر منافذ ثقافيّة وطنيّة تتيح لكاتب مثله أن يتفرّغ لمشروعه الفلسفيّ والفكريّ، الذي نذر نفسه لنجاحه وتجذُّره في مجتمعه. 
      وقد ظلّ مع ذلك منشغلا بمراقبة الواقع الموّار من حوله، والكتابة عنه في صفحته الفيسبوكيّة، منخرِطاَ فيه حتّى العظم، ومترفِّعاً عن الصّغائر، والّلهاث خلف الشُّهرة الخُلبيّة، أو الانخراط في الشّلل الثّقافيّة المهيمِنة، كما أنّه انفتح على الأطياف السّوريّة كافّة، مقدِّماً نفسه نموذجاً للمثقّف الوطنيّ الذي يحترم الآخر، بكلّ ما يحمله هذا المصطلح من ثراء دلاليّ وعمليّ معاً. 
     وقد آمن بأنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ إلا إذا احتفى بالرُّموز الثّقافيّة التي تجسِّد هذا النُّزوع النّظريّ والسُّلوكيّ؛ ولهذا عاد إلى ماضي الفلسفة العريق وحاضرها الرّاهن، ووقف عند شخصيّات فلسفيّة وفكريّة شكّلت منعطفاً مهمّاً في تاريخ الفكر الفلسفيّ العالميّ والعربيّ، فوقف عندها مليّاً، واحتفى ببعض رموزها، وقد أولى اهتمامه للمدوَّنة الصّوفيّة العربيّة بشكل خاصّ؛ وانصرف خلال عقود إلى قراءة المئات من الكتب المنشورة والمخطوطة عن التّصوُّف والمتصوِّفين، وأتيح له أن يُصدِر كتابه الأثير حول هذا الموضوع تحت عنوان (نظريّة المعرفة في التّصوُّف) عن دار الحوار في اللاذقيّة في عام 2017 في (350) صفحة من القطع المتوسِّط. 
      ويلحظ القارئ لهذا الكتاب أنّه تجنّب الوقوع في أشراك الفقهاء السّلفيّين الذين رفضوا التّصوُّف، ونظروا إليه على أنّه خروج عن الإسلام الحنيف، كما تجنّب الوقوع في إسار من رأى في التّصوُّف نوعاً من الهذيان، وحاول تخليصه من الهالة القُدسيّة التي أُحِيط بها، ونظر إليه على أنّه يمثّل تجربةً فكريّة شديدة الخصوصيّة، وأكّد في كتابه أنّ التّصوُّف شكّل ثورة روحيّة عميقة في الإسلام بتمرُّده على العبوديّة الطّقسيّة التي كرّست كهنوت رجال الدّين، وقدّمه بوصفه ثورةً روحيّة اختزنت فهماً ديموقراطيّاً رحباً للإسلام وعمقاً إنسانيّاً قلّ نظيره، ورأى أنّه شكّل ردّاً على المذاهب الإسلاميّة التي بدأ يُكفِّر بعضُها بعضاً، وعبّر عن وحدة الإسلام في وجه المذاهب المتناحرة التي مزّقته، فتجاوز ضيقَ أفقها، وأخرج الإسلامَ من الحرفيّة النّصيّة المتّصفة بالسّطحيّة والانغلاق والتّحجُّر إلى آفاق رحبة لفهم الكون والعالم.
    وقد شكّل التّصوُّفُ، في رأيه، الاستمراريّةَ الأصيلة لثقافة المنطقة الرّوحيّة ذات التّوجُّه التّوحيديّ، ومنهجاً سلوكيّاً ومعرفيّاً جديداً وأصيلا، وكان أساساً ومنطلقاً لفلسفات إنسانيّة وأخلاقيّة كبرى في الغرب والعالم عُدَّت لبَّ الفلسفة الغربيّة الحديثة، وكشفت عن إمكانيّة ارتقاء الإنسان معرفيّاً وروحيّاً إلى مستويات سامية.    
    وفي ظنّي أنّ صديقنا الرّاحل قدّم في كتابه المذكور نظراتٍ ثاقبة وجهداً خلّاقاً وكبيراً، وقراءة فلسفيّة وفكريّة للفكر الفلسفيّ عموماً، عموديّاً وأفقيّاً، كما أنّه اتّكأ على المصادر الأساسيّة للفلسفة والفكر العربيّ والإغريقيّ والأوروبيّ، وأضاف بعداً جديداً إلى موضوعه، على كثرة ما كُتِب عن هذا الموضوع في مشرق الوطن العربيّ ومغربه.
       ويُلاحَظ على مجمل ما كتبه حضورُ الجدل الفكريّ الخلّاق بمعناه العميق، وغيابُ السُّخرية المُبطَّنة أو الظّاهرة عمّن كان يناصبهم العداء، أويختلف معهم فكريّاً أو أيديولوجيّاً، كما نلحظ غيابَ العنفِ اللّغويّ المكتظّ بعبارات الإقصاء والنّبذ، والانشغال عميقاً بالتّأسيس لمنهج فكريّ رحب ومرن يتّسع للأنا والآخَر معاً، وقد ترك بين أيدينا، قبل رحيله الجزء الأوّل من مشروعه الفكريّ والفلسفيّ الذي حمل عنوان (رؤية فلسفية / ميتافيزيقيّة جديدة في اللّاوجود والوجود والعدم)، والمأمول أن يجد هذا الجزءُ من مشروعه الاحتفاءَ الذي يستحقّه إذا قُيِّض له رؤيةُ النّور قريباً. 

* أحمد غانم .. ورؤيته الجديدة للفلسفة

حسن محمود ( ناشط ثقافيّ)

    حاول الصديق الباحث أحمد غانم في نتاجه الفكري والفلسفي أن يجيب عن التساؤلين الآتيين: الأول، لماذا كانت مشاركة العرب في الفكر الفلسفي العالمي الحديث محدودة أو معدومة؟ والثاني: هل يستطيع مجتمع ما أن يصنع حضارة خاصة به إذا لم يمتلك فلسفة يبني عليها ما يشاء من فن أو ثقافة أو علم أو مدنيّة ؟ 
      و في ظنّي أن الفرد لايستطيع أن ينشئ فلسفة لأمّة بعينها؛ لأن ذلك يحتاج إلى مجموعة مفكرين ومؤسسات داعمة لهم، ولكن الأستاذ غانم اتّـكأ على رؤية عميقة بادئاً بإصدار سلسلة سمّاها (سلسلة الكنوز الفلسفية) وتوجّه بها إلى الأجيال، وبدأها بأرسطو ذاهباً إلى أنه يمثل ذروة الفكر اليوناني، و قمة يصعب تجاوزها. وقد تناول نتاجه الفلسفي بالشرح والنقد والتوضيح، واختار من نتاجه كله كتابه (سرّ الأسرار) ثم أتبعه بكتاب آخر هو (النّفس). وقد حرص عند تقديمه للكتابين على استخدام مصطلحات يسهل فهمها من قبل المتلقّي العاديّ، منبّهًا إلى ما امتازت به كتب أرسطو من رؤية شمولية للطبيعة والنفس والمجتمع والسياسة والأخلاق والرياضة والوجود بعامة. 
      ولا بد من الاعتراف أولا بأنّ الإغريق أنشؤوا مذاهب فلسفية متكاملة، فضلا عما كتبوه في حقلي العلوم والمنطق، ولاسيما على يدي أرسطو. وقد نبّه الأستاذ غانم إلى أنّ الدارسين الأوروبيين يصفون الفلسفة الإغريقية بأنها (معجزة)، وهو ما يرشح بأنها نُسِجت من عدم وعلى غير مثال، وينفي في الوقت نفسه مدى تأثرها بغيرها، ويجعلها نوعاً من الأسطورة، وهو ما يتعارض مع العقل، ويخالف المنطق العلمي، ولا تُقرّه قوانين العلم والتطوُّر الاجتماعي، فضلا عن أنه يقع في مطبّ العنصرية والتطرف، وهذا ما جعل الأستاذ غانم ينصرف لمعالجة هذا الموضوع في كتاب آخر سمّاه (العنصرية الغربية والتطرف الإسلامي)، وأراد منه فضح عنصرية الغرب التي أفضت به إلى احتقار الشعوب الأخرى، وحصر العظمة والتقدم العلمي به وحده، ووصف الأمم الأخرى بالتخلف ـ 
   أما الكتاب الثالث من سلسلة الكنوز الفلسفية فقد أفرده الباحث غانم للحديث عن نتاج أستاذه الدكتور بديع الكسم، وتحدث فيه عن كتابه (البرهان في الفلسفة) الذي كان في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت في جامعة جنيف بسويسرا، ووُصِف صاحبها خلال مناقشة أطروحته بأنه
أعاد (الفلسفة إلى الفكر العربي) بعد أن نأت عنه طويلا، وقد رغب صديقنا غانم في توضيح أن هذا الكتاب يشكل مساهمة عربية خلاقة أثبتت أن العرب قادرون على إثراء العقل الفلسفي العالمي الحديث، والمساهمة في صناعة الثقافة العالمية والفن والعلم والأدب والمدنية على السواء. كما حاول متابعة ما بدأه أستاذه الكسم من خلال تأليف كتاب فلسفي موسوعيّ يكمل مشروع أستاذه، وبستكمل ما وقف عنده، وأنجز منه الجزء الأول، وسمّاه (رؤية فلسفية / ميتافيزيقيّة جديدة في اللّاوجود والوجود والعدم)، وكان على وشك أن يكتب الجزء الثاني لكن القدر عاجله، فرحل دون أن يتاح لمشروعه الاكتمال.  
ولابدّ من الإشارة إلى أن الجزء الأول المنجز من هذا المشروع والذي لايزال مخطوطاً يعالج قضايا ومشكلات فلسفية عديدة مجترحاً منهجًا جديدًا في معالجته لها، ومصحِّحا الكثير من المفاهيم الخاطئة التي استقرت في الأدبيات الفلسفية منذ قرون، وهو يتناول، في كتابه، الوجود وكيف نفهمه، كما يناقش دور اللغة والفكر في الكشف عن الوجود، وأهمية الميتافيزيقيا في العلم، كما يعيد النظر في المصطلحات التي أسيء استخدامها ذاهباً إلى أن العدم قضية زائفة، ومؤكداً على ضرورة التوحيد بين مفهومي اللاوجود والعدم، ومنبِّهاً إلى أن الجمع بينهما خطأ معرفي وقع فيه كثيرون من الفلاسفة، ومبرهناً أن اللاوجود هو مصدر الوجود، ولذلك يناقش بعمق الفهم الخاطىء للزمن عند الفلاسفة والعلماء على السواء، ويضع حدًّا فاصلا بين (الوجود بذاته) و(الوجود لذاته)، ويوضِّح مفهوم الوجود، وقانون الصيرورة، والتعالي، والضرورة، والحتمية، والكلية والموضوعية...وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي فهمها آخرون على نحو مغاير، واستثمروا مفاهيمها استثماراً خاطئا في بحوثهم وتحليلاتهم. 
     وفي ظنّي أن الكتاب المشار إليه يمتلك أهمية كبرى في حقل الفلسفة تضارع الأهمية التي تمتلكها (مقدمة ابن خلدون) في حقل علم الاجتماع، وعسى أن يطبع قريباً ليتاح لمحبي القراءة والاطلاع اكتشاف ما قدّمه صديقنا الراحل في كتابه من اجتراحات علمية ومفاهيمية تجعله أحد باحثينا الكبار الذي ينبغي علينا الاطلاع على ما كتبوه، ووضعه في سياقه التاريخي الذي يستحقه بجدارة.  







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=9811