فراس حج محمد| فلسطين
بالتزامن مع الذكرى التاسعة والعشرين لرحيل توفيق زيّاد (5/7/2023)، صدر للباحث الدكتور نبيل طنّوس عن دار الرعاة للدراسات والنشر وجسور ثقافيّة في رام الله وعمّان، كتاب "توفيق زيّاد- شاعر الأمّة والأمميّة" (دراسات وقصائد مختارة)، ويضمّ بين دفّتيه ثلاث مقالات: توفيق زيّاد من الأمّة إلى الأمميّة، والسجن في شعر توفيق زيّاد، وبين العنوان والمتن في قصيدة توفيق زيّاد رسالة عبر بوابة مندلباوم"، بالإضافة إلى مقالة رابعة للكاتب حسن عبّادي بعنوان "توفيق زيّاد بوصلة تتجدّد".
وعدا التوطئة التي كتبها الباحث، ويرى فيها أنّ زيّاداً، مثله مثل كلّ صاحب "مركز اجتماعي"، كان يتمتّع بثلاث صفات، وهي: العارف، والماهر، والإنسان، كان لابنة توفيق زيّاد؛ وهيبة، كلمة باسم الأسرة، تستذكر فيها والدها- رحمه الله- وممّا جاء في كلمتها: "مرّت قرابة ثلاثين من الأعوام افتقدناك فيها كلّ يوم، افتقدناك أباً وقائداً وملهماً، وفي أشدّ الأيّام حلكة بحثنا عن نورك فوجدناه بين صفحات ما تركت من إرث خطابي، وطني، سياسي ومجتمعي، والأهمّ كانت قصائدك البوصلة التي أعانتنا، إذ عبّرت عنك وعن أفكارك بكلّ صدق وشفافية، وعمّقت فينا الأصالة".
لم يغفل الباحث في هذه المقالات عن أن يثبت مجموعة من المراجع والمصادر التي اعتمد عليها في التحليل وتدعيم وجهة نظره البحثيّة أو التمهيد لها، ليبني على جهود الباحثين السابقين، على الرغم من أنّ هناك مراجع ضروريّة غابت عن الباحث، فيما يتعلق ببحث الأمميّة عند الشاعر زيّاد، لاسيّما ما كتبه غسّان كنفاني عن هذا الجانب في كتابيه عن أدب المقاومة الفلسطينيّة.
كما ضمّ الكتاب (28) قصيدة من شعر توفيق زيّاد، اختارها الباحث لتراعيَ موضوع المقالات المدروسة، ولتمثّل تاريخ زيّاد الشعري الممتدّ من (1966) حيث صدر ديوانه الأوّل (أشدّ على أياديكم)، وحتّى عام (1994) حيث صدر ديوانه الأخير "أنا من هذي المدينة" بعد وفاته. كما تضمّن الكتاب- بعد هذه المختارات- ترجمة عربيّة لنشيد الأمميّة الذي كتبه (أوجين بوتييه Eugene Pottier). وبذلك يكون للشاعر عشرة دواوين، كما صدر للشاعر كتب غير شعريّة؛ دراستان في الأدب الشعبي، وكتاب يوميّات، وكان آخر ما صدر له من كتب أدبيّة في حياته مجموعة حكايات فلكوريّة بعنوان "حال الدنيا" عام (1975).
بمعنى آخرَ، فإنّ الشاعر زيّاد انصرف عن الأدب منذ وقت مبكر، وانغمس في العمل السياسي والهمّ العامّ الاجتماعي، وهذا ما أكّده الباحث د. رياض كامل في قوله: "انحسر انتاجه الأدبي بسبب انشغاله في العمل البرلماني وفي رئاسة بلديّة الناصرة، بل قد توقّف لعقدين من الزمن تقريباً، حتّى عاد إليه في أواخر حياته فكتب مجموعة من القصائد جمعتها العائلة ونشرتها في ديوان بعنوان "أنا من هذي المدينة". (صورة العامل في شعر زيّاد والقاسم، الحوار المتمدّن- العدد: 6136- 5/2/2019).
يولي الباحث طنّوس في هذا الكتاب عنايته لدراسة ظواهر محدّدة في شعر زيّاد، ويتتبّعها في القصائد، كما في بحثه الأوّل الذي يتناول مفهوم الأمّة والأمميّة، ومن اللافت للانتباه في هذا البحث تركيز د. طنّوس على علاقة زيّاد باليهود، ونظرته لهم، وكيفية التعامل معهم، في بند "أمميّة توفيق زيّاد نحو أبناء الشعب اليهودي". وقد كان لانخراط زيّاد في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي (ماكي) ثمّ "القائمة الشيوعيّة الجديدة" (راكح) بعد الانفصال عن الحزب لآخر يوم في حياته، تأثير في هذه الناحية على شعره ومواقفه السياسيّة، عدا أنّ اشتغاله بالعمل السياسي ضمن دائرة الكنيست، ورئيس بلديّة في الوسط العربي ربّما جعلته يرى إمكانيّة التعايش مع اليهود ضمن دولة واحدة ديمقراطيّة بحقوق متساوية، وهي الفكرة ذاتها التي يتبنها حزب "راكح".
وفي بحثه الثاني الذي يستعرض فيه ثيمة السجن في قصائد زيّاد، يستطرد فيه بذكر أسماء الباحثين قبله الذين اشتغلوا بأدب السجون، كما يستعرض كثيراً من أسماء الأدباء الذين مرّوا بتجربة السجن، فكتبوا فيه تجاربهم، عربيّاً وفلسطينيّاً، قديماً وحديثاً، مع تركيز واضح لتتبّع مجموعة من الكتّاب الواردة أسماؤهم في كتاب "الكتابة على ضوء شمعة" (تحرير حسن عبّادي، وفراس حجّ محمّد)، فيقتبس من أقوال المحرِّرَيْن وأقوال الكتّاب الأسرى الذين بلغ عددهم في الكتاب (36) أسيراً كاتباً، مؤكّداً رسالة الكتاب التي دارت حول أهمّيّة ممارسة الأسرى للكتابة داخل السجون.
ويخصّص المقالة الثالثة للدراسة والتحليل النصّي لقصيدة "رسالة عبر مندلباوم"، وفيها يحلّل المسائل الآتية: العنوان، وماهيّة الرسالة، والتعريف ببوابة مندلباوم، والشعار، والمتن، واللغة الشعريّة، فتناول في البحث: "الموسيقى والقافية، والفصل، والمخاطبة أو المناداة، والتشبيه والتشخيص، وعلامات التعجب وعلامة الاستفهام"، منطلقاً من آراء الناقد جيرار جنيت في تحليل النصوص، والوقوف عند عتباتها، وبنيتها اللغويّة.
يعدّ زيّاد من أكثر شعراء المقاومة الفلسطينيّة داخل الأرض المحتلّة تحدّياً، ومباشرة، وتحريضاً؛ لطبيعة قصيدته المناضلة التي ظلّت على طزاجتها الأولى، فجعلت زيّاداً في المواجهة الدائمة مع الاحتلال، فيُعتقل عدّة مرّات، ويتعرّض أيضاً لمحاولات اغتيال، ومداهمة بيته وتخريب محتوياته، هذا ما سعت مقالة حسن عبادي أن تقوله، لذلك جاءت مقالته "توفيق زيّاد بوصلة تتجدّد"، فيستحضره خلال زيارته للكتّاب الأسرى الذين رأى فيهم صورة من المقاومة من خلال الكتابة، مقدّماً لهم نموذجاً واقعيّاً هو توفيق زيّاد المناضل الموصوف بالبوصلة التي تتجدّد، ويتّفق موضوع المقالة مع ما جاء في الكتاب حول حضور السجن في شعر زيّاد، يقول عبّادي: "وتبقى ذكرى توفيق زيّاد الشاعر خالدة في سجل فلسطين وتاريخها، والحركة الأسيرة تتذكّره وتذكره بالخير، تتناقل الصور والقصائد التي تحدّى بها الاحتلال وجبروته، أشعار حثّت على الصمود ورفض الاحتلال، محافظة على هُويّة الأرض، عروبتها، وفلسطينيّتها دون مهادنة ومساومة".
بالإضافة إلى هذه المقالات، وهذه القصائد يوفّر كتاب الباحث نبيل طنّوس "توفيق زيّاد شاعر الأمّة والأمميّة" سيرة ذاتيّة تبرز فيها محطّات زيّاد النضاليّة والسياسيّة والشعريّة، والمنجزات الأدبيّة، ومسرداً لمجموعة من المقالات والدراسات التي تناولت حياته وإنتاجه الأدبي، وبلغت (51) مادّة موزّعة على الكتب والمجلّات والصحف والمواقع الإلكترونيّة.
ومن باب الاحتفاء بالشاعر الراحل يورد الباحث مجموعة من آراء المثقّفين والسياسيّين الفلسطينيّين واليهود بالراحل توفيق زيّاد، بصفته شاعراً، وسياسياًّ، و"رجلاً من الرجال الكبار العاملين من أجل السلام"، كما وصفه ياسر عرفات.
يأتي هذا الكتاب بفكرته ومقالاته ليُضاف إلى جهود طنّوس السابقة التي درست بالطريقة نفسها الشاعر محمود درويش بكتاب "اقتفاء أثر الفراشة"، وكتاب "راشد حسين ويسكنه المكان"، وكتاب "سميح القاسم شاعر الغضب النبوئيّ"، وبذلك يكون الباحث قد درس الشعراء الأربعة، بوصفهم شعراء مقاومة من جيل واحد، ويعدّون في عرف النقّاد أشهر شعراء المقاومة الفلسطينيّة في جيلها الأوّل؛ بعد النكبة.
كما تشكّل هذه الكتب الأربعة حلقاتٍ مترابطة في مشروع بحثي نقدي متكامل بمنهجيّة خاصّة اعتمدها الكاتب الدكتور نبيل طنّوس في بناء هذا المشروع، ويفتح الباب لدراسات مماثلة لاستكمال المشروع بحلقات أخرى تمتدّ إلى شعراء آخرين من شعراء المقاومة، من مجايلي هؤلاء الأربعة، أو من شعراء الجيل الثاني للمقاومة، أو من أجناس كتابيّة غير الشعر، كالنقد الأدبي، والبحوث بشتّى أصنافها، والألوان الأدبيّة كالرواية، والقصّة القصيرة، والسيرة الذاتيّة واليوميّات، والمذكّرات، وغيرها. لتكون أقرب إلى القارئ المعاصر، ليتعرّف إلى هؤلاء المبدعين ليسهُل عليهم قراءتهم والتعرّف إلى أفكارهم، لاسيّما طلّاب المدارس، إذ تمدّهم هذه الكتب بخطوط عامّة حول ما كتب هؤلاء الكتّاب، مشفوعة بنماذج من أشعارهم وما قيل عنهم، وما يمثّله كل واحد منهم في الحركة الثقافيّة الفلسطينيّة.