ما يتجاوز المثال الواحد:
بصدد ما أثرته سابقاً، يمكن ممارسة مقاربة أكثر، من خلال أكثر من مثال، لشاعر واحد، وكيفية يكون انبناء العالم لديه، عبر مقارنة ضمنية، بين مجموعة من الفصائد.
هنا، أتوقف عند ثلاثة نماذج متفاوتة قيمةً شعرية، ثمة نموذجان بالعربية، هما ديوان ( قوافل المطر) لأفين شكاكي Shkakî Evîn، والمنشور منذ سنة ، ونيف، والآخر، صادر حديثاً، وهو ديوان ( ابنة الجن) لشهناز شيخه، أما الديوان الثالث ، فهو بالكردية، فهو منشور بدوره حديثاً، وهو ( مهرجان الدم : Festîvala xwînê) لكرديار دريعي Kurdyar Dirê,î.
يمكن للقارىء المتتبع لحركية العلاقة بين بنية الكلمات وكيفية إقامة شعائرها الشعرية، وتميزها عن سواها، في المجالات الأخرى، وأي موسيقى تتآلف في أثرها، يمكنه أن يتلمس الكثير من حدود صدى النص الشعري، والأفق الذي تتحرك صوبه الموسيقى.
تبدو الشاعرEvîn، في متضمناتها الشعرية، شديدة التفاوت بين نص وآخر، أو قصيدة وآخرى، وهي مختلفة طولاً وقصراً، حتى ليذهب الظن بالقارىء بعيداً، إلى أن حقيقة الشاعرة، هي فيما أورته بداية، بوصفه أقرب إليها، ومنذ لحظة العنوان، وأكثر تمثيلاً ذاتياً لها، وأعني بالتفاوت، ليس الجانب الشكلي، وإنما حدود الرؤيا الشعرية، هذه التي تباغت القارىء، ومنذ أول قصيدة، بما لا يكون شعراً، وهي تعتمد القافية، كما لو أنها تعرّف بذاتها عالمة بالوزن بالمقابل، وهو أثر، مؤطَّر ليس بسوء فهم متوارث فقط، وإنما بسوء إدارة ما للمتوارث، ولخاصية الوزن ، ومدى ارتباطه بالموسيقى. في قصيدة ( عيناك)، وهي الأولى كما ذكرت تقول :
عيناك مطر غامض
العيش فيها ولادة
الوقوف أمامها
تراتيل حب وعبادة
اعذرني
إن نصبت أمامهما خياماً
لابتساماتي
لأنها منذ زمن في تشرد،
وضياع وإبادة. ص 9.
هنا يكمن وبال الأثر الشعري، إذ ما عدا أول جملتين، لا يبدو الاستقرار ميسماً للقصيدة، عدا عن الخطأ في التركيب اللغوي ( فيها: فيهما-أمامها: أمامهما)، والتكرار، فالتذكير بالولادة، يمكن أن يستثير الكثير من الصور في متخيَّل القارىء، ولكن تماهي الشاعرة مع ذاتها، مع مشاعرها المندلقة، أفقدها توازن المعنى، أو تجلي الموسيقى المنشودة، ولو نسبياً، والقافية بدورها، أضفت على النص بعداً خدمياً سلبياً، بلبل العلاقة الشعرية أكثر، كما لو أن نظماً خالصاً يتبدى هنا.
وفي المشهد الأخير، لماذا إيراد ( التشرد والضياع والإبادة) معاً، حيث مفردة( التشرد) تفي بالمعنى كثيراً، عدا عن أن مفردة ( إبادة) إقحامية اجتثاثية، وتحت إلحاح وزن متوهَّم هنا.
وهذا ما يمكن تلمسه في قصيدة ( قوافل المطر)، أي القصيدة التي تعنون الديوان بها، وخراب المعنى أقل، ولكن الهوس بالقوافي، يبرز مطيحاً بكل جمالية ممكنة:
خيم الصمت بيننا زمناً طويلاً
دون أن ينكسر
قال دون أن يتكلم:
سامحيني إن عبر طيفي مساءاتك
دون جواز سفر،
واستوطن الحزن في قصائدك
وتبختر.... الخ . ص 13.
ثمة اعتماد لقافية، في غير محلها، لعدم لزومها، لعدم وجود وزن ( بحر ما)، وكونها غير مؤدية للمطلوب ذاته، بالعكس، جاءت تثقل على المعنى.
تُرى ماذا يحدث لو جاءت البداية هكذا : الصمت خيم بيننا طويلاً طويلا؟
لا لزوم لذكر الزمن، فهو محسوب، ولا لزوم لذكر ( دون أن ينكسر)، لأن الشاعر لا تشرح ما هي فيه.
وماذا يحدث لو أنها كتبت ( قال صمته) بدلاً من ( قال دون أن يتكلم)؟
وما دور حرف جر ( في) السياق المذكور، سوى أنه يضعف ما هو إيحائي في الجملة؟
ثمة مفارقات الصور، وتناغمها، لا يُعلَم لماذا الشاعرة، لم تكتشف الصدع الكبير، بين ما أوردته سابقاً، وما هو وارد في قصائد أخرى، تشهد على شفافية ملموسة : إيقاعاً وتخيل موسيقى، كما في ( حين أراك):
لماذا حين أراكَ
تنثر على جرحي الحنين ؟
تستعير من شفاء الفجر وردة.
ونصبح عاشقين
في ضيافة المطر . ص 33.
إن هذا التفاوت الكبير، والملحوظ، بين قصيدة وأخرى، يثير الظنون، بما ليس في مصلحة الشاعرة، ولا أعنيها وحدها هنا، بل أغلبية الشعراء الكرد، من خلال قراءات لنصوص أخرى، وكيفية الكتابة في ظلها، وأخص بالتذكير، من يعرَفون عبر رصيد أنترنيتي بداية.
شهناز شيخة تبدو أكثر تناغماً مع ذاتها، وسيطرة على كلماتها التي تكون فصيدتها، وإن تجلى لجوءها إلى الغموض، مقلقاً من جهة الالتباس في المعنى، أي في المبتغى من اللعبة اللغوية، وهذا له تأثيره على البعد الإيقاعي، على التردد الموسيقي في المحصّلة.
كما في أول قصيدة ( شهرزاد)، وكيفية الحديث باسمه، من الداخل:
صرخة تتلاشى بين البحر والشفق
دموع الشمس يجلدها الغروب
شراب النار في شفة الزمن
أنا ... نورس الشرق
الراقص فوق زوبعة العذاب
زبد يهيم فوق رهبة المحيط
فوق الوجود.... الخ . ص 11.
ثمة بحث عن صور غير اعتيادية، وإن كان في التوليف، ما يستجوب المساءلة، عن مدى التصويب في التركيب، مدى اختراق المألوف، لتكون الموسيقى، في حدود المتخيَّل قيمة.
وربما ظهرت شهناز، مستجيبة لنداء روحها اليومي، أحياناً أكثر من روحها، في الجانب القصي مما هو يومي، أي : ديمومة الشعر، في قصيدة ( موت)، تقول:
هكذا... دون مقدمة
تماماً كزوبعة في الفراغ
تخترق عمق وجودي
تمضي عبر بوابة قلبي
جرحاً...
يغتال أحلامي البرئية. ص 21.
أرى أن ثمة إيقاعاً، يتلون، من خلال تردد الكلمات، بين اليومي والميتايومي: المباشر وخلافه، ويمكن توقع رنة الموسيقى عبر ممارسة شعرية من هذا النوع، ولكن، لو تم تشذيب للوارد قليلاً، لمارس القول فتنته الشعرية أكثر:
... دون مقدمة
كزوبعة في الفراغ
..........
يغتال أحلامي ..
ربما، تقديراً مني، على أن القارىء، متروك له مجال أوسع، للمضي مع ما لم تسمّه القصيدة بعد، أو أكثر، ليكون له دوره في تلوين الخفي، إثر الكلمات المنثورة على الورق هكذا .
إن مفردة ( هكذا) ذات القيمة النسخية، تطوق المتخيَّل كثيراً، وتبقي الطريق سالكاً أمام الشاعر وحده، أو الشاعر هنا، ليكون القارىء تابعاً، وتكون طاقة المتخيل أجدى، في مسارات عدة.
ففي ( عصافير الشتاء)، ثمة رونق في الكلمات، أعني تجويد في الصتعة، وحس رؤيوي بالآخر:
أحبك ..
... هكذا تقول أصابعنا
عند كل لقاء
أحبك ..
هكذا ..
يقول ..
البريق المتفجر
.. في عيوننا. ص 76.
تلعب النقاط المتتالية دورها، في التأني، أو في خلق انطباعات، كما لو أن فراغاً ما، يفصل بين بروز حالة، بوتيرة ما، وأخرى، بوتيرة أخرى، وتصور الموسيقى، في منحى إيقاع الكلمات، يتجلى من خلال توزيع الكلمات والفراغات المعمولة، ولكن ، أليس وضع ( هكذا) جانباً، يضفي على انسيابية الكلمات حراكاً دلالياً أكثر شافية ؟ إن فضاء المعنى يتعمق أكثرهنا !
في ديوان كردياردريعي، بقدر ما يختلف الوضع، يكون مساوياً لما تقدم، لأن الاختلاف هو في اللغة، وما إذا كان اعتماد مفردة دون أخرى، يجري ، بوعي جلي، بمناخاتها الدلالية، أو الوظيفية، أم لا، رغم أن هذه الصفة، موجودة، في كل ممارسة لغوية، ولكنني أتحدث، عن الكردي، حين يقيم علاقة ثقافية، شعرية، مع لغته، وكيف يؤرخ للحظة ما من حياته، بجعل لغته لغة شعر، أو حين يتحدث بلغة أخرى، وهو الكردي، كما أسلفت، ويطعَم اللغة، بحضوره شاعراً شاعراً، وهو هنا، يوشح ديوانه بالدم، وأظنه عنواناً ينز عنفاً، والمهرجان مخدَّم باسمه.
ثمة معايشة لما هو شعري، ولكنها تتطلب المزيد من التجمهر داخل الذات، التقريب بين سلسلة النسب الخاصة بما هو شعري، باعتماد كلمات تتعاقب، دون تتعاقب من ذات الشعر.
في القصيدة الأولى ( أيا ليل Hey şev)، ثمة انزياح إيقاع، تلكؤ المعنى في الربط الدلالي:
Bê denge şev
Sitêr disincirîn
Perçeyên ewran li asoy
Hin sor … Hin tarî
Di bejna şevêde
Avjeniyê dikin. R:5
نعم، ثمة حركة، لها صداها الحسي في المقبوس السالف، ولكنها حركة لا يمكنها أن تخفي ما هو حسي مختل فيها بالذات، إذ كيف تكون الغيوم ملحوظة، تغطي السماء، وتكون النجوم مشعة مرئية؟ هذا خطأ لم يفكَّر فيه، وإنما كان هناك تلبس بالحالة، وعدم مراعاة لخاصية الصور ومنطقيتها واقعاً .
كرديار، لديه رغبة داخلية، في أن يكون شاعراً، وثمة حضور لنفس الشعر، خلل كتاباته، ميل إلى الإيقاع، أو ذائقة الشعر الذي تحدده صياغة مسترسلَة من الكلمات، وإن كان في العديد العديد، مما يصيغه أطياف شعراء آخرين، وإن لم يُسموا، أي أن ثمة نوعاً من التأثر الموضوعي، وحتى التركيبي بما قدمه آخرون قبله، وهو يجهد، في أن يكون المدوَّن أثره، موسيقاه المنبثة، كما في قصيدة ( ندم : Poşmanî) ، حيث يقول :
Ji min re digot:
Tu li kube
Tê li min vegere
Dilê yekemîn
Maça yekemîn
Kî dikare ji bîr bike …?!R:82
ويمكن الإشارة إلى قصيدة، تكون أكثر تذكيراً، بصدى أصوات آخرين، حيث حضور الآخر الشعري، وإن تمت محاولة تركيبها بطريقة ما ، مختلفة، لا يمكن تجاهله، وبالتالي، تتركز الموسيقا خلف الستارة، أعني، تأخذ حركتها، من حضور موسيقي آخر.
أشير هنا إلى قصيدة ( فكرة Ramanek):
Peyalek mey
Yarek rû li ken
Tembûrek zîz
Qutyek tûtinê
Hêlînek biçûk
Besî jiyanamine
Û hinek azadî
Xweş tir dibe . R:150.
القصيدة بكاملها، تستعيد معها، ما كتبه الشاعر الكردي كوران عبدالله Goran1904- 1962، وفي قصيدة يقول فيها :
كردي .. وكيس تبغ..
حفنة زبيب.. وبندقية..
ثم صخرة..
وليأت العالم..
كل العالم
( انظر : كَوران عبدالله شاعر كردستان الخالد، إعداد: محمد علي توفيق، ط 1990، ص95).
مع الفارق الجلي، حتى في الإيقاع المتخيَّل، ومنحى الإيقاع هذا، بسبب بنية القصيدة.
كوران، يقيم في قلب العالم، وكان هذا دأبه قبل نصف قرن تقريباً، يعيش تحدياً متعدد الجبهات، وكرديار، يقيم في الداخل( وهذا ليس مقارنة، وإنما إبراز علاقة مختلفة، وكيفية ترتيبها)، ليقدَّم قدح الشراب أولاً، ومن ثم فتاة بهية، وطنبور صداح، وعلبة تبغ، وعش صغير، يكفي حياتي. وقليل من الحرية، يكون أطيب.
العبارة الأخيرة شرح يفسد الإيقاع الذي يترجم حيوية الداخل، هذا الداخل الذي يظهر لعيان القارىء ما عليه القائل.
وكان يجب البدء بالداخل أولاً، إن أردنا منطق مكان : عش صغير، وما يتضمنه.
وثمة تفهم ضرورات المكان والزمان، وأعني مكانة ( علبة تبغ) في القصيدة، وصاحبها ثمل بالشراب، وداخل في حداثة المكان، إنها غفلة طاعنة في ذات القصيدة.
وبالوسع المضي أكثر، مستعيناً بأكثر من مثال، ولكن، وكما نوَّهت، ما أردته، هو أن الشعر ولكي يكون شعراً، أن تكون موسيقاه من صميمه الروحي، يتطلب وعياً مركزاً، ليكون الصوت المسترسل صوت شاعر، وحده الإيقاع يتكفل، بتجديد معناه في الزمن، إنه الإيقاع الذي ينبثق من كليانية الجسد اليقظ للشاعرسرمدياً، وإلا فلا نامت أعين الشعراء كافة !
أقول هذا، وأنا أترك باب المثار مفتوحاً على مصراعي النقد ونقد النقد طبعاً، وإمكانية العودة لاحقاً، إنما – ربما- في مكان آخر، ولكن الذي يمكنني قوله، ومن خلال ما تقدم، هو التشديد على مفارقات العلاقة بين مدى اهتمام الكرد بالشعر، والوضع التشرذمي لهم، بأكثر من معنى، مدى تولعهم بالشعر، أكثر من أي فن قولي، كتابي آخر، حتى وهم في أمكنة متباعدة، كما لو أنهم بذلك يؤكدون ويؤكدون انتماءهم للعالم، بالطريقة هذه، هم والذين يؤكدون تجاوبهم الشعوري مع ما يقولون أو يكتبون، على أنه الشعر الشعر، ومدى تفجعهم في وضعهم الشعري المختلف.
أقول هذا، وأنا أستعيد ما أثاره الباحث السعودي عبدالله الغذامي، في كتابه ( القصيدة والنص المضاد- منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت ، 1994)، وفي فصل ( جماليات الكذب)، مبيّناً كيف أن الكذب، وكما رأت العرب، كمصطلح، يعني الشيء ونقيضه( ص 115)، لهذا تم الربط بين الشيء الأكثر جمالاً، بقدر ما يكون الأكثر إيغالاً في الكذب، وعليه أختم قولي:
والكرد بدورهم يتصرفون هكذا، وأعني به شعراءهم، وأحدد أكثر مَن أشرت إليهم، ومن يرادفوعهم بصور مختلفة، ممَّن لم أسمّهم، ومن ينفعلون مع انفعالهم، ولكنهم يستسهلون أمر الكذب، وفي الشعر هنا، كثيراً كثيراً، ربما أكثر في نصفه الآخر، سواء فيما يعتبرونه إبداعهم الذاتي، أو بتأثير قراءات أخرى، دون الكشف عن ذلك، أو كونهم لا يصرّحون بكذبهم الشعري هذا، ومدى تناقضهم في هذا المضمار، وذلك أمر، له صلة بعمق الخبرة الحياتية، بحكمة البصيرة، بشجاعة الاعتراف بالواقع الذاتي، برحابة الرؤية الروحية لمأثورهم الجماعي والفردي، ولهذا، يظل الأجمل في انتظار أكثرهم .....!!!!