ترجيع صدى
التاريخ: الثلاثاء 27 حزيران 2023
الموضوع: القسم الثقافي



أحمد اسماعيل اسماعيل

عجائز في أعمار متقاربة، يجلسون في حلقة صغيرة قرب مقعد عتيق مثبت في ساحة وسط الحديقة، تكسوها الحشائش، وتحيط بها أشجار متفاوتة الطول ومختلفة الأشكال، وجوه متشققة مثل لحاء الأشجار الكبيرة، وأياد تجعدت جلودها، وعيون كليلة ترسل نظرات زائغة مليئة بأسى ممزوج بالسخرية، منكبون على رقعة من الكرتون المقوى وهم يلعبون الدامة تارة، ويتبادلون الأحاديث بأصوات متعبة تارة أخرى، وحين تصدر عن أحدهم ضحكة من علامة واحدة، أشبه بقرار دون جواب، سرعان ما ينعكس ترددها على الوجوه الأخرى بارتسام ابتسامة صغيرة، تنفرج عن أسنان غير متناسقة وقد اصطبغت بلون قاتم، ليهبط الصمت فجأة على الجميع، حتى يخيل للناظر إليهم أنهم تماثيل، لولا حركة بطيئة ليد أحدهم، يرفعها ليحك بها رأسه، أو يدفع آخر ذكرى طفت على سطح الذاكرة إلى الأعماق، وقد يلتقط غيرهما عصا صغيرة ينكش بها الأرض كطفل لاه.
التقطت نظراتي هذا المشهد الناهض من وراء قصبان سور الحديقة التي أمر بها وأنا أتوجه يومياً إلى مركز امتحان الشهادة الثانوية. حدث الأمر مصادفة، وحين تكرر في الأيام التالية، قررت أن أدخل إلى الحديقة واقترب منهم أكثر.
لماذا؟


لا أعرف، ما أعرفه أن الفتيات في مدينتنا لا يذهبن إلى الحدائق للتنزه وحدهن، كي لا يتحولن إلى فرائس  لذئاب في هيئة شبان ورجال، فالبلد الذي تحوله الحرب إلى غابة، تصبح الأنثى فيه الفريسة الأولى، فكان عليّ اصطحاب إحدى الزميلات إلى الحديقة.
ولكن محاولاتي مع الزميلات والصديقات كلهن باءت بالفشل، بل أصبحت مادة للسخرية والشفقة بينهن، علمت ذلك حين نصحتني واحدة منهن بعدم التورط بالزواج من عجوز كما فعلت بعض الفتيات، هرباً من الفقر أو العنوسة، فأنا مازلت صغيرة، ومجتهدة، والحرب التي جعلت الشباب يغادرون المدينة هرباً من الجوع والموت على جبهات القتال، ستنتهي قريباً، ولكن ثمة مشاعر غريبة كانت تشدني لداخل الحديقة، فتجاوزت أحاديثهن وسخرياتهن غير المبررة، وتسللت إلى الحديقة بمفردي بعد الانتهاء من الامتحان في مادة الرياضيات، متسلحة بيقظة غزالة ابتعدت عن القطيع.    
جلست غير بعيدة عن العجائز وشرعت أتصنع تصفح كتاب الرياضيات، المادة الجافة التي لم أحبها يوماً، أسترق النظرات إليهم، واقرأ لغة أجسادهم أثناء تبادلهم الأحاديث بأصوات منخفضة، وما يرتسم على وجوههم حين يركنون إلى الصمت، لا أعرف كم من الوقت مضى وأنا على هذه الحال، ولكنني حين رجعت إلى البيت، سألتني أمي، وعلى غير عادتها،  وقبل السؤال عن أسئلة امتحان المادة وإجاباتي عليها، عن سبب تأخري باستغراب، فاخترعت لها حجة، وأسهبت في الحديث عن أسئلة الامتحان الصعبة وجو القاعة الذي تحول إلى سيرك والمراقبين إلى مهرجين، فضحكت كثيراً، وأثنت على ما قد تجود به الحرب الدائرة في البلد من حسنات.   
في نهاية مساء ذلك اليوم، وبعد أن انتهيت من مراجعة المادة التي سأقدم الامتحان فيها صباح الغد، أطفأت ضوء الغرفة، وانسللت إلى فراشي وأغمضت عيني، فأطبقت العتمة الشديدة على أشياء الغرفة: المرايا، والخزانة، والكتب الموضوعة على الطاولة، وحتى السقف، ولكن نور القمر الشاحب الذي تسلل من النافذة؛ أضاء مشهد عجائز الحديقة في داخلي. 
في صباح اليوم التالي، وما أن انتهيت من تقديم امتحان مادة الفيزياء، والتي كدت أعيد ورقة الإجابة بيضاء إلى المراقبين، لصعوبة الأسئلة، أو لاختفاء الإجابات من ذاكرتي! حتى تسللت إلى الحديقة كفتاة على موعد غرامي، وتوجهت من فوري إلى الساحة التي اعتاد العجائز الجلوس فيها. لم يكن رواد الحديقة من فئات أخرى كثر: ثلة صغيرة من الفتيان يتراكضون بين الأشجار بمرح، وشابان يسيران على ممشى ترابي يحاذي سور الحديقة من الداخل وهما يتحدثان بصوت خافت ومتقطع، ورجل ستيني يمارس رياضة المشي خلفهما بخطوات متثاقلة.
اقتربت منهم، كانوا يلعبون ويضحكون بمرح خجول، درت حولهم نصف دورة، ثم توقفت على مسافة قصيرة منهم، متصنعة مرة أخرى التفكير وأنا أتصفح كتابي بعيون فارغة وآذان مصغية لأحاديثهم: شذرات من أحاديث شتى عن مهارات هذه اللعبة، ثم عن الجيل الجديد الذي أضحى وقوداً لحرب مجنونة، وعن الأشجار العطشى ونهر جقجق الذي تحول إلى مكب نفايات بعد أن خاصت السياسة في مياهه، وأخبار الأسعار وانقطاع التيار الكهربائي في حارات البلد كلها وزواياه عدا مربع واحد، جلست على المقعد القريب منهم، ورحت أتشاغل بقراءة الكتاب، أكتم ضحكة من طرفة أطلقها واحد منهم، وأخفي حزن على عبارة ذكرها غيره.
- هل أنت طالبة بكلوريا يا ابنتي؟
- نعم يا عم.
باغتني أحدهم بالسؤال حين ضبطني قريبة منهم جداً: 
- لاشك أنك أبليت بلاء حسناً؟ 
سأل بلهجة من يريد تغيير الموضوع، أو يظهر حسن نية لتفويت الفرصة عليّ كما لو كنت جاسوسة لسلطة البلد.
- نعم يا عم.
أجبت واقتربت منهم بوجه أردته أن يكون متعاطفاً وبشوشاً، فالتفت أكثر من واحد منهم نحوي وقالوا كلمات طيبة، واكتفى بعضهم بالنظر إليّ وهو يهز رأسه ببطء، وابتسم لي آخر، فيما رفع العم يعقوب رأسه وذراعيه إلى الأعلى ودعا لي بالنجاح، والعم يعقوب الذي كان يكثر من التعليقات الطريفة على أصحابه؛ هو الذي سيجعل أبي يكبر دفعة واحدة من عمر الخمسين إلى الثمانين، وذلك حين تحدث لأصحابه عن معادلة تقول: إن الزمن يسير بطيئاً في الطفولة والشباب، ويهرول في المراحل العمرية المتأخرة، ومرور سنة لدى العجائز أسرع من مرور يوم لدى الشباب، فجعلني هذا الحديث أركض في الشوارع المؤدية إلى بيتنا للحاق بأبي قبل أن يشيخ أكثر ويموت، غير مكترثة بعربات الباعة المتجولين والمارة على الرصيف، أو السيارات في الشارع.
لم يهرم أبي في ذلك اليوم، فقبلته ألف قبلة، ليعانقني بقوة وقد انفرجت أساريره فرحاً، فيما تقلص وجه أمي متأثرة بوخز إبرة الشك، وربما الغيرة من أبي! 
في اليوم التالي، وكان اليوم الأخير في الامتحانات لطلبة الثانوية، وما أن انتهيت من تقديم مادة العلوم الطبيعية، حتى توجهت من فوري إلى الحديقة، قلت لنفسي: سيكون اليوم هو يوم وداع هؤلاء العجائز، سأطيل الجلوس معهم وأبادلهم الأحاديث وأروي لهم بعض النكات، وسأحرص على أن تكون نكات مناسبة لأعمارهم، وما أن وصلت إلى حيث يجلسون، وشاهدت حلقة من الرؤوس التي أشتعل فيها الشيب، والظهور المنحنية، وهي تتبادل أطراف أحاديث متقطعة، حتى فوجئت بالعم يعقوب يجلس على مبعدة منهم، يسند رأسه المتعب بكف متشققة ونحيلة وهو يرسل نظرات ساهية نحو امرأة في العقد الثالث من عمرها، جالسة مع طفلها الصغير على مسافة غير بعيدة عنه، في الساحة المعشوشبة ذاتها، كانت المرأة تلاعب طفلها تارة وتحتضنه تارة أخرى، ثم تضع أصبع الشوكولا في فمه، لتقبله بعدها وتمسح بلسانها طرفي فمه من أثار الشوكولا. اقتربت منه بخطوات قطة وقعت على قطعة جبن، بدأت أوزع نظراتي بين العجوز والأم وطفلها، قلت في نفسي: رجل عجوز وجد شبها بين حفيده وهذا الطفل، أو بين هذه المرأة وابنته التي لا بد أنها غادرت البلاد مع من غادرها هربا من الجوع والحرب وغيوم تمطر نيرانا.
ولكن الدمعتين اللتين نفرتا من عينيه وسالتا بين أخاديد وجهه؛ جعلتني أقفز من مكاني وأجلس بالقرب منه لمواساته وأنا أرسم مصيراً مأساويا لحفيده وأمه: لعلهما ماتا في تفجير ما، أو غرقا في البحر أثناء عبورهما إلى سواحل اليونان؟
ساد بيننا صمت ثقيل، كف خلاله الهواء عن مداعبة الأوراق المتدلية من أغصان الأشجار، الصغيرة والكبيرة، وكأن الأرض تغلي تحتنا وتحترق، فاختفى كل من في الحديقة كفقاقيع انفجرت لتوها، وغادرت المرأة مع صغيرها الحديقة، فراح يتابعهما بنظرات حنان وحزن، كانت الأم والطفل يتسابقان في حركات مرحة وهما يطلقان الضحكات، وخرجا من باب الحديقة وقد تعلقت يد الطفل بكف أمه أشبه بشجرة تقود غصناً يتدلى منها وهي تحلق عالياً، وغادر العجائز المكان بصمت وهم يزبلون بأطراف أصابعهم ما علق بثيابهم من حشائش وما ترشح على جباههم من عرق، شيعتهم بنظراتي وهم يبتعدون عنا ويتسللون إلى جوف المدينة، مثنى وفرادى، كانوا يترنحون في سيرهم بأكتاف منهكة، وبقي العم يعقوب في مكانه دون حراك، حتى أنه لم يمسح العرق الذي بدأت حبيباته تتجمع على سطح جبينه وتنحدر نحو أخاديد وجهه، فيما بللت أكمامي بالعرق الذي كان ينز من كل مسامات وجهي. 
قال وهو يرسل نظرات الحسرة إلى ما وراء الأفق: 
- لا شيء يضاهي سرعة الضوء سوى مرور الزمن.
نظر إلي وظل ابتسامة يطوف حول شفتيه، كطفل مجتهد ينتظر الثناء، فقلت له بسرور  جعلت تقاسيم وجهي كلها تردده بقوة:
- اينشتاين، هل قرأت الفيزياء؟! 
-  ولا كائن يشبه الشجرة سوى الأمهات.
قالها وهو ينظر ناحية باب الحديقة بوجه طافح بالبشر والفرح، وأكمل:    
-ذلك الطفل كان أنا، وتلك كانت أمي!
أطلق تنهيدة انتشلها من أعمق أعماقه، فسقطت في داخلي دهشة كبيرة، وانداحت دوائر كثيرة حتى تلاشت، حمل جسده من الأرض ونهض، التفت حوله للحظات ثم ابتعد عني بخطوات بطيئة ومتثاقلة، فتبعته بنظرات انبجست من دموع حبستها في عيني، تضاءل حجمه وانكسرت قامته وهو يسير نحو باب الحديقة، كانت أوراق الأشجار التي يمر بالقرب منها تصفر وتتساقط. حتى خلت أن مساً ما قد أصابني أو أن العم يعقوب كائن غير بشري!   
وقبيل مغادرته الحديقة، وقريباً من بابها، تحول يعقوب إلى طفل صغير يخطو بتعثر وقد تعلقت يده في الفضاء كغصن يتدلى من شجرة، سرعان ما أسبلها بخيبة حين وجدها وحيدة وفارغة.
خارج الحديقة، وأمام بابها، وقف وحيداً على الرصيف، ثم أطلق نداء موجعاً تردد صداه في الفراغ الموحش.. وبكى.   


مجلة البحرين الثقافية العدد 113 يوليو 2023            







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=9444