أعمال كلحي نعمت محمد كشوفات جمالية بسماتها المكانية
التاريخ: الأثنين 05 حزيران 2023
الموضوع: القسم الثقافي



غريب ملا زلال

زاخو مدينة تتبع إدارياً محافظة دهوك في كردستان العراق، و تقع شمالها على بعد خمسين كيلو متراً تقريباً، كما تبعد عن نقطة إبراهيم الخليل الحدودية مع تركيا حوالي عشرة كيلو مترات، و على بعد خمسة و عشرين كيلو متراً من الحدود السورية العراقية، و زاخ يقال أنها تعني القوة و العزم باللغة الكردية، هذه المدينة الصغيرة لم تكن عاقراً، بل ولودة على إمتداد عمرها و يكفيها أنها أنجبت بلبلين من بلابل كردستان التي ما زالت سمواتها تصدح بهما، يكفيها أنها أنجبت لنا أياز يوسف و أردوان زاخولي و خلدتهما بنصبين لهما تزينان إحدى ساحاتها بإزميل أحد أبنائها ألا و هو الفنان و النحات دلير يوسف .


أسوق هذا الكلام و أنا مقبل على الحديث عن تجربة أحد فناني هذه المدينة و قراءتها، أقصد الفنان كلحي نعمت محمد ( زاخو - 1972 ) على أمل أن نوفق في ذلك و أتمنى أن تكون هذه القراءة بوابة للدخول إلى عوالم فناني هذه المدينة جميعاً، كل على حدا، بها نرسم بانوراما عن حركتها الفنية، و فناننا كلحي إبن هذه المدينة، فيها ولد و فيها عاش و يعيش، و فيها أبدع و يبدع، و هو الآن يعمل كمشرف فني في مديرية تربية زاخو، لديه رصيد كبير من المعارض، لديه سبعة معارض فردية، و أكثر من مائة و أربعين معرضاً مشتركاً، و كلحي يعلن عن نفسه في نصه / لوحته، في القديم منه و في الجديد، فلا يرسم حدوداً بين ضفتيهما، بل يشدهما إلى لحظتهما التاريخية التي هي لحظة ذاتها، و التي إبتدعها حين تراءت له مقدمات و تصورات تقطن الحاضر كما تقطن الماضي، تستمد سلطانها من قدرتها على توثيق الجمال صياغة و نسجاً و تصويراً، و من قدرتها على الفعل في المتلقي، و إستنهاضه و حفزه و إثارته، لا بوصفها كيفيات إنتاجية تجاهر بما تحتويها من رؤى محكمة فنياً، بل بوصفها كشوفات رؤيوية بها يجتاح الخطاب الجمالي السائد ملتقطاً منه ما هو محجب فيه، غائراً في خباياه، مستعيداً البعض من مقررات عملية تصنيفه، مشرعاً في قراءة ظواهره الفنية و التاريخية و المعنوية، ليمضي بهما نحو سجال فائق المقدرة في طرح الأسئلة التي تبقى لعقود و هي تحشد حركاتها و إشاراتها لعلها تتلقى ما يدعوها إلى البقاء في ديمومة الطرح، أو تتمكن من العثور على ما يشفي غليلها، فصحيح أنه يريد التجديد، لا تقليداً للمستشرقيين، بل إحياء ما يعتمل في صميم تصوراته، فهو الأقرب من محددات البيئة بتأثير كبير لعمليات التربية الجمالية البصرية، و لعله من أكثر الفنانين الإنطباعيين الكردستانيين الذين ينجزون مشاهدهم على نحو إدراكي، و أكثرهم في توثيق الطبيعة بأحاسيسه و ألوانه الخاصة، بإنطلاقته إليها، متربصاً بنوحها و بكل ما يجعله يهفو إليها، من مداراتها التي تحفظ جمالياتها و كيفية تناولها، إلى تداعياتها التي لا تكتفي بذاتها، بل توغل في بنيتها كمأوى لإستيهاماته الفردية التي تنبع من زخرفة معانيها و ما تحمل من طيب الحياة و شظفها، و يجعل أشكاله تتوحد مع ذاتها أولاً، و مع لهب حلمه بمكوناته البانية و العاصفة بحركية ملفوظاته ثانياً، فلا كآبة هنا، ولا إنكسارات، بل تجاذب خفي بين أسراب مدركاته التي تدخل في علاقات طافحة بالمرايا المتناظرة التي تلفظ المنطق و لا تكسر العلاقات التي تحكمه، فتتوالى على بياضه ما يسمح بإعادة إنتاج الطبيعة لإكتشافها، بدقائقها و جزئياتها، لإكتشاف سيرتها التي لا ترويها إلا بين أصابع فنان عاشق لها، تروي له تفاصيلها الصغيرة و كأنها قطع حلوة تقدمها له، تروي له ما حرثه الزمن في عمقها و جسدها، هذا الحرث الذي يزيد من قوة تعلقه بها فيبدأ في تصويرها بوصفها إبداعات ربانية بقدر ما هي تراجيدية إنسانية، و لهذا الذهاب إليها يحتاج إلى أكثر من سفرة، فهي لا تكشف مفاتنها لعاشقها دفعة واحدة، و لا تبث فيه من رائحتها إلا ما تيسر من روحه لإلتقاطها، و في كل قبلة لها أقصد في كل سفرة إليها ترسم فيك جزءاً من ملامحها لتعيد الكرّة علها تكتمل فيك، و قد تجعلك تنزف من داخلك ماشاءت من حركات هي رائحتها أو إنتحارها البطىء فيك إن لم تفتح بواباتك أمام نوافذها المطلة عليك ستجرف بك إلى حيث لا تشاء، فكلحي لا يسكن طبيعة كردستان، و لا تسكنه هي فحسب، بل كل منهما يسكن في الآخر، كل منهما يغرق في الآخر شوقاً و حباً و عشقاً لا حدود لها، فكل منهما للآخر وطن و موسيقاه، كل منهما للآخر حديقة غناء و إنتماء، حتى يغلفهما معاً مساءات بملامح فرح تأبى الرحيل بعيداً عنهما، بملامح حاشدة بالعناق و بوعود معلقة في الروح، لا إنتظار هنا بل عيون حبلى بأيام غنية بالشمس، و محدقة بجبال و أنهار تكسوها مفاصل العشق التي قد تتحول إلى وردة بيضاء أو حمراء، لا فرق هنا طالما تم سقايتها من أصابع فنان تجيد عزف الجمال و يفرشها كعشب بأكثر من لون على مساحاته البيضاء كروحه و كقلبه أيضاً .
كلحي نعمت محمد مع تكرار إستجاباته للمثيرات البصرية الطبيعية، و الحاملة لقيمها الجمالية فهو يحافظ على سوية جهد الإستثارة ذاتها، الجهد الذي ينبغي ألا يكون إنفجارياً / فوضوياً فذلك قد يفصله عن عمله سنوات ضوئية، و بالتالي يفصل ذلك العمل عن متلقيه بالمسافة ذاتها، فالحرص على وجود القيمة المعطاة للجدة هو جانب مهم يجعل متلقيه في حالة من الإكتشاف على نحو دائم تمنعه من الإنصراف عنه، فهو ( كلحي و المتلقي ) يحاول كل منهما أن يحقق قفزة بإتجاه الآخر و هذه معادلة جد مهمة في إختصار حركيته و بث الروح فيها عله ينظم ذاته و عمله و بالتالي متلقيه بعيداً عن أي إنهاك الذي قد يكون طارداً لأحدهما إن لم يكن لكليهما، فهو يقوم بفعل الخلق على أساس التواصل مع الآخر، هذا الآخر الذي يبقى حاملاً تنبؤاته الخاصة و هو يتابع مخلوقاته / أعماله في مستوياتها كافة، الذي يبقى حاملاً تخييلاته الخاصة مع ما يصاحبها من مشاعر مشحونة بالطاقة الإنفعالية حتى تكتمل البهجة، و يكتمل الإستمتاع بتلك الخبرات التي يجلبها من خلال عمله، و التي تجعل من المشاهدة القريبة له مفاتيح بيد متلقيه و هو يغور في جذوره المبكرة، فأعماله إنطباعية كردستانية بإمتياز يصوغها بغنائية لونية قادرة أن تعيده إلى إيقاعات المكان الخاصة به حيث حيوية اللمسات / لمساته تكون في ذروتها، تصنع فيه الإنسان / الفنان الذي سيأخذ الحالات كسيمفونية واحدة تعزف لحناً واحداً يكتمل مع ذاته الخارجة من الضوء، من ظلالها الداكنة و المتقاطعة مع الفصول حين تلامس الملامح المشبعة بأشياء لا حدود لها .
كلحي محمد لا يفتش كثيراً عن مفاتيح العالم المحيط به، فهي مرمية في طريقه الذي يسير فيه، ما عليه إلا إلتقاطها حتى تبدأ تصوراته لذلك العالم بالهطول، راسماً إياها و بماهيتها و بكل ما تكمن روحها جوهرية تجربته الفنية، التجربة التي لا تنقل طبيعة بلاده إلى ألوان تزخرف فضاءاته، بل هي كشوفات جمالية تحمل سماتها المكانية التاريخية و يوثقها فنياً بخصائصها الإيجابية إلى درجة الذهول، فتصويراته هي تفصيلات عميقة و نفاذة إلى عوالمها الداخلية المتخمة بموضوعية التعبير التي ستشكل فلسفته في ترجمة هذه الحياة، هذا العالم، هذه الطبيعة، هذا الإنسان .
































أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=9403