فرهاد خليل لا نهايات هنا، الكل يمضي إلى بداياته
التاريخ: السبت 15 تشرين الاول 2022
الموضوع: القسم الثقافي



غريب ملا زلال 

يحدث كثيراً و أنت تستعرض أعمال فنية أن تداهمك عمليات الإنصياع لمعايير معينة، قد تكون إجتماعية، أو سياسية، أو مهنية، أو طبقية، أو ثقافية، أو ....إلخ، و ما عليك إلا بذل الجهد المضاعف من إكتساب المعلومات و الفهم المفتوح على الجميع، و البحث عن المثيرات الجمالية فيها لإضعاف تأثيرات تلك المداهمة، أو التقليل من شأنها و فرصها على أقل تقدير، حدث ذلك معنا و نحن نستعرض أعمال فرهاد خليل ( 1970 الحسكة - قرية وادي النجمة )، قد تكون لكثرة الخصائص الجمالية لتكويناتها الفنية، أو قد تكون لوجود أشكال بسيطة و أشكال مركبة في الوقت ذاته، و ربما لغزارة الوجع فيها و تزايد صعوده إلينا في كل مرة نطيل الوقوف عندها، أو ربما لتعدد المداخل إليها، فخليل يعزف بنغمة خافتة لكن فاعلة و عميقة، بنغمة ناعمة هادئة، لكن لها قوتها الظاهرة و الواضحة


 فهو يمزج بين ألوان صوته و أمواجها، و إن كانت الآلة التي بين أصابعه تردد النغمة الأساسية ذاتها، فهو يدرك بأن سلسلة النغمات التي تسمع من فضاءاته تتسم بدرجة عالية من الجدة و الإدهاش، بتعبير قائم في جوهره على الإستثارة و التنبؤ، و على الهوس بالجمال، و كثيراً ما يحاول خليل الحفاظ على ذلك بإزدهار و تألق، فمن أبرز التجليات المعبرة عن ذلك جذوره الضاربة بقوة و صلابة في أعماق التربة الفنية، و إسهاماته الكثيرة و الكبيرة في ذلك، هي ليست محاولات متواضعة في الإقتراب منها بل رد فعل حساس ينطلق بقوى الخيال و العاطفة، و بأشكال عدة تعاود النمو و الصعود و إن بالتداخلات الجمالية الوارفة و المتألقة بين الداخلي و الخارجي، أو بين المادي و المعنوي، دون أن يهمل ما حوله من الموجودات و كأنه يعيد فكرة هيجل للجمال حين يسعى إلى إتحاد الفكرة بمظهرها الحسي، محاولاً الإحاطة بعمليات نمو السلوك الإدراكي، و هكذا توالت أعمال خليل ملخصاً وجهة نظره من عالم في أوجع حالاته و من الأشياء في أعلى لاإنسجاميتها، و رغم ذلك يسعى خليل جاهداً لحدوث التآلف بين مكوناتها الأساسية و إن كان إلى الحد الأدنى على الأقل، أو بين الشكل و المضمون في الجانب الذي ينبعث منهما رموز جمالية فنية تعكس داخل الذهن ذاته، أو ما تسر الرؤية لا من تعدد تفسيراتها بل من محض كونها موضوعات للتأمل، فإكتمال الوعي الحسي يمكن أن يوجد في أنقى حالاته خلال الإدراك الفائق للجمال، و الإيقاع الجمالي المتجدد و المتنوع هو ما يدفع العملية الإبداعية إلى الأمام، و خليل يوقن ذلك و هذا ما جعله يمضي بتجربته بإتجاه يكون الإنفتاح فيه في أوجه، و لعل ذلك ما أبعده عن الخمود و التكرار، و عن السقوط في ظاهرة فضفاضة يصعب التحكم فيها، يصعب إخضاعها للمحاكاة و التمثيل، عن السقوط في ظاهرة كل سطوحها لا تزدهر بالحركة و الحياة، فهو يسمو بنا بمنطلقاته الإبداعية و الإنسانية إلى عالم الجوهر و التعبيرات المجازية، تعبيرات بها تكتشف تلك الإشارات التي تدل على أن الجمال ليس واحداً، فقد يكون مادياً أو معنوياً، الأهم عنده الإحاطة بمظهره و روحه، بشكله و النور الذي يشع منه، و يظهر ذلك في تلك الأشياء التي كانت تبدو و كأنها غير منتظمة بل نافرة و تفتقر إلى التنوع، لكن أخذها صياغات صغيرة و عديدة و في درجة عالية من الجمال جعلته يحقق بها أشكالاً فنية تثير الإنفعال و لو إلى حين، و تثير أفكاراً مهمة بالقدر ذاته، مرتبطة بالتوازن و التناسب مع مكوناته المستمدة من وجهة نظره الخاصة، إن كانت حول ما ينتجه، أو ما كانت وثيقة الصِّلة بالواقع، فهو في كل الأحوال قادر أن يحقق ما يسمى إكتمال الشكل في ذاته، و هذا يعطي مشاهده نوعاً من التوافق مع الخارج ( الواقع أو الطبيعة )، بإعتباره تجليات للإرادة و الشعور معاً .
الفنان فرهاد خليل و بصمت بعيد عن زحمة الزوايا المهملة يدفع بلوعته و شغفه محمولة على صدى بارد و زاخم بمعطيات جديدة نحو الضوء و إهتزازاته، نحو الشمس بغبارها و ألقها، يدفع بألوانه المتشبعة به و برائحة ما تبقى من الخبز في جوف تنور كان ملتهباً في الأمس القريب، نحو قدر يضع أياديه على وجع جديد أو قديم، لا فرق فالعذابات ذاتها بزخمها و سنواتها، بذاكرتها و دبابيسها، يدفع بها إلى وجوه أهلكتها الإنتظار و آلام الحب المقدس و ما تحمله من الإصرار من أجل البقاء و من أجل أن تكون الحياة أجمل، يدفع بألوانه نحو غابة لا أخضر فيها، لا أشجار، لتعانق و بحوار طويل و صامت رائحة تراب مبتل بدموع الحيارى و المتعبين في الأرض، لا بدموع السموات، فهذا الإحساس الكبير الذي يحمله خليل كمسؤول عن الحياة و إستمراريتها من أجل الحب لا من أجل الحرب، من أجل الحصاد كما من أجل الزرع، فمهما كانت الآلام مقدسة، و مهما كانت غير صالحة للعرض في المتاحف، فهي التي تملأ الساحات، إن كانت ساحات البلاد، أو ساحات خليل المؤطرة به، و هي الحاضرة دوماً في الذاكرة الإنسانية كملتقى لسيرة لم تكتمل، و لن تكتمل طالما اللوحة للواحد الأحد، أو طالما الطبيعة بفصل واحد .
المناخ الذي يتحرك فيه فرهاد خليل مناخ له أسراره و لغته، مناخ فيه من الصقيع و الجوع و السعال الكثير بقدر ما فيه من دفء و حنين، مناخ أشبه ببحر يمتطيه خليل بمركب حزين، و يشقه بعزف إنساني يتقنها جيداً حتى يسمعها لكل شواطئه البعيدة منها، المتشحة بالتعب و نشيج النايات، أو القريبة منها المحتفي بشغف و لهفة عاشق لم ترهقه همس الحقول عند الفجر، فخليل يمنح المناخ نفسه و يتعامل به كسر يحتاج إلى فك شيفراته، فليست البيئة القاسية هي التي قد تشعل الفنان، و لا مبررات اللحظة، و إنما الطاقة المرعبة التي تعيش فيه لا بد أن تصرخ بملىء تمزقها، و بملىء حلمها، حتى تجعل سطوحه أقل تعقيداً، و العتبات الحاسمة لوجوه شخوصه أكثر تعبيراً، فالملامح لا تجدي، و التقارب بين المفردات لا تشكل جملة مفيدة، وحدها حتمية اللحظة الإبداعية إذا قررت الحضور لا بد أن تكون، فلا نهايات هنا، الكل يمضي إلى بداياته مهما كانت قائمة الأسماء غنية، و مهما كان التأمل مثمراً و فارشاً داليته في صدورنا، فاللهفة دائماً تبقى للبدايات .


















أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=8985