كي يسدّوا ذلك الفراغ الهائل الذي بات يظهر على نحو لافت ، بين السّابقين عليهم ، ومرحلتهم ، تلك ، مبدعين ، أو حالة تراثية ، كي يدفعوا ضريبة خيارهم الصّعب ، على أكثر من صعيد، دون أن يتردّدوا- آنذاك - حتّى عن خوض غمار لجّة الأدوات غير المعرفية ، من أجل شعب مذرذر ، يعاني أسوأ صنوف الاضطهاد على أيدي حفنة عصاة ، من أردأ أنظمة العالم طرّاً.........!
والشّاعر كلش، وهو الآن في العقد الثامن , كان يتمتّع بروح الشباب حتى تلك اللحظة التي اشتدت عليه سطوة المرض العضال , ،حيث ظهور الانتفاخات الكتلية الثلاثة في الدماغ، لايفتأ يكتب قصائد الغزل ، التي ندعوه لسماعه،هذه الانتفاخات اللعينة, ربّما سببها سقوطه في البئر في ثمانينيات القرن الماضي ، وكانت – وياللمصادفة المريرة-شقيقة لي آنذاك، وهي طفلة ذات السنوات الثماني في غرفته ،في المشفى الوطني في قامشلي ، وقد سقطت بدورها في بئر آخر، واجتمعا في غرفة واحدة من المشفى نفسه ، وأنقذا في مصادفة أكثر غرابة .....!
كان كلش يتمتّع بألق الشّباب , وروح الطفولة , وحكمة الشيوخ , وهو الذي تجرّع علقم المرارات, مرّة تلو مرة , وكيف لا ،ما دام إنه واحد ممن أسهموا في وضع اللّبنات الأولى ، معرفيّاًَ ، بحسب إمكاناته ، بل و نضاليا ًـ على حساب حياته ، من أجل ثقافة ، ومستقبل إنسانه الكرديّ، وهو يمارس أحد الأعمال الشاقة ، بنّاءً معمارياً ، ليؤمّن الرّغيف لأطفاله الصّغار، زغب الحواصل ....!
ثمّة الكثير، الكثير ، الذي يمكن أن أتحدث به عن هذا الشّاعر الذي تعود علاقتي به إلى أيام شبابي الأول , حيث توثقت به هذه العلاقة، أسريّاً , في الوقت الذي كنت أتردّد فيه على الشاعر جكرخوين – معلمه الأول ، معلم القصيدة الكردية ،وهما يقطنان شارعين مجاورين لمنزلي - رغم إن هذه العلاقة الأخيرة، وئدت , في مهدها، حيث هجرة جكر خوين المفاجئة إلى السويد ، لكي أشهد كلّ ضروب معاناة هذا المثقف الكرديّ , كلّما ضاقت به لحظة العيش , نتيجة الاستبداد المثولث الذي يمارس عليه، و أمثاله من المثقفين الكرد، أصحاب الموقف، كي أتحدّث عن علاقتي بالشاعر كلش , هذه العلاقة التي لم يعكّر صفوها شائبة , وليس أدل ّعلى هذا الكلام إن بيتي الذي أسكنه- الآن- كان قد أشاده بيديه، لبنةًًً لبنةًًً , وتشاء المصادفات أن أقطنه لاحقاً مع أسرتي ، حيث سيكبر فيه أطفالي، بل إنه سيصاب في هذا البيت نفسه، قبل حوالي سنوات عشر ، بنوبة قلبية , وهو يحضر ندوة ثقافية ، كنت قد دعوت إليها مثقفي المدينة، تكابر الشاعر على ألمه الجسيم , ولم يعلن عنه لأحد ، حتّى انتهاء الندوة , بل وحتى بعدخروجه من المنزل , مع بعض الكتاب ، كي يسعفه بعض جيرانه، بعد ذلك......!
أجل , ثمّة الكثير الذي يمكن أن أقوله في مقام كلش , بيد إنّني أختصر كلّ ذلك كي أسأل وبحرقة: كلش الذي اكتشف مرضه , وهو يتابع في دمشق،في النصف الثاني من آذار الماضي ، شؤون الموافقة على الدّعوة التي وجهت إليه ليذهب إلى كردستان العراق - يحضر إحدى الفعاليات الثقافية، هناك , وهو ما حدث له، لأول مرّة , ولكن, صفعة يد المرض العضال ، كانت أقوى ـ وأسرع ،من أن يحقق حلمه , وحجّه إلى كردستان....!
ترى ، كيف لم نفكّر – مثقفين وساسة ،ومؤسّسات، بالقيام بأية خطوة , تريح ضمائرنا تجاهه , لمعالجته خارج سوريا , فقط لنقول : إننا عملنا ولو شيئاً قليلاً له...............!
خلال زيارتي الأخيرة إلى منزله , لم يشأ نجلاه كسرى وكاوا، أن يقود اني إلى غرفته , وهو يصارع المرض العضال , حيث ينال السقام شيئاً فشيئاً من جسد الشاعر، كي يبقيه جلداً على عظم , لأنّهما يدريان كم أنا متعلّق به , ولا أتحمّل أن أراه إلا كما عهدته باسقاً كطود كرديّ , صلداً ككلمة " لا " حانياً كنبع يحتضن العطاش، لحظة لوذهم به....!
شخصياً , أعلنت عن مرض الشّاعر في الأول من حزيران ,أثناء افتتاحي المهرجان الخطابيّ لإحياء ذكرى الشهيد الخزنوي ، بعد أن أعلن ذووه , عن حالته ، هذه ، وعلمت بها بدوري ,بعد أن شعرت على غير العادة بافتقاد تواصله الحميميّ ، وأنا أواجه بدوري لجّة الحياة ، ناقلاً تحياته - في هذا المهرجان- إلى ذلك الحشد الكبير , ولا أدري كم منّا , قد عايده في بيته في امتحانه هذا، إزاء هذا المرض الجاحد , ولا أقول : من منّا فعل له ولوشيئاً .....بسيطاً...بسيطاً...........!.؟
- كلش ، صديقي..........!
ليس لديّ ما أقدّمه لك غير أن أدعو لك بالشّفاء
أجل , ليس لدي سوى ذلك....
ليس..........
ليس...
ترى هل سأتعّظ كمدعي ثقافة وإبداع، مرّة أخرى ، ككثيرين سواي ، لنحبّ بعضنا بعضاً؟، أم سنمضي ممارسين -ثقافة البغضاء- الذّميمة التي تضرّبنا جميعاً، في نهاية المطاف........!
- كلش
كان يحبّنا جميعاً
ما أحوجنا إلى الحبّ.......!
.........
......
......
........