قُبلتي الأولى
التاريخ: السبت 08 اب 2020
الموضوع: القسم الثقافي



د آلان كيكاني 

تأخر القطار السريع عن الانطلاق في رحلة الساعة الرابعة عصراً من إيستبورن إلى هيستنغز لأكثر من نصف ساعة. وراح الركاب يبحثون عن مقاعد في المحطة يقتعدونها ريثما يأذن لهم المسؤولون بصعود العربات. كانت الشمس ساطعة، ونسمات لطيفة تهب من ناحية الغرب، بينما شرعت غيوم بيضاء صغيرة ومتناثرة ترسم على السماء الزرقاء لوحةً بديعة قلّما تجد مثلها في أجواء إنكلترا الدائمة الشحوب بفعل كثافة الغيوم والضباب. كنت منهكاً بعد تسع ساعات من العمل المتواصل في المستشفى الذي أتدرب فيه، ولهذا قمت بالتفتيش عن مقعد شاغر على رصيف المحطة، وما إن وجدته حتى ألقيت بنفسي عليه، وأخرجت من حقيبتي علبة بسكويت وبدأت أخدع بها معدتي الخاوية منذ عشر ساعات دون أن أنسى أن وجود ما يؤكل في اليد في المدن الإنكليزية الساحلية يجتذب النوارس ويجعلها تتسول بذل وتملق. وبالفعل جاء نورس وحط على المقعد على بعد شبر مني وصار يقاسمني لقمتي المتواضعة، ويصرخ غاضباً إن توانيت عن إطعامه.


ولم أزل في صراع مع صديقي الأنيس حتى لمحت عاشقين يافعين يدخلان من بوابة المحطة ويسيران باتجاهي. كان الشاب طويلاً، نحيفاً، يرتدي قميصاً أحمر، نصف أزراره سائبة والبقية مثبتة في غير مواضعها، أما شعره الطويل فكان مصبوغاً بألوان متعددة وقائماً على ناصية رأسه مثل عرف الديك. بينما كانت الفتاة متوسطة الطول، وممتلئة بلطف، وتلبس بلوزة زرقاء قصيرة، تتشمر عن حمالة ثدييها وعن شعر إبطيها كلما رفعت يديها وعانقت صديقها. وبعد أن ذرعا الرصيف جيئة وذهاباً لبضع دورات وقفا أمامي وتعانقا صامتين لدقيقة، ثم ما لبثت شفاههما أن انطبقت على بعضها بحرارة. كان الأمر ملفتاً لرجل شرقي مثلي وهو في أسبوعه الأول في بلد أوربي، لهذا لم أتوانَ عن طرد ضيفي المتسول وإعادة علبة البسكويت إلى الحقيبة والاستمتاع بمشاهدة العاشقين وهما يلتحمان ببعضهما ويمارسان القبل بحميمية على الملأ. 
وبلهفة استقر ناظري على موضع التقاء الشفاه وهي تنزلق بسهولة وانسيابية على بعضها بفعل لعاب الاشتهاء الذي يتدفق بقوة من الفم بنداء من الرغبة الجامحة والشهوة العارمة. وعندما استوت تلك الشفاه وتندت جيداً رأيتها تغوص في الأفواه حيث يتم مصها، لتخرج متورمة حمراء يقطر منها الرضاب وكأنها قطع حلوى مغموسة بالعسل، ثم تعيد الكرة على أنغام الأنّات والتأوهات. 
ولكيلا أبدو سوقياً أو أبله لا يراعي خصوصية الناس، لجأت إلى التلصص عليهما من زاوية عيني بحيث أبدو وكأن ما يحصل أمامي لا يعنيني ولا يلفت انتباهي، وهكذا شهدت حفلة القبل كاملة ودون حرج. 
ما كان لصراع الشفاه المتقابلة أن ينتهي بسهولة، فعندما انفصلت عن بعضها لبرهة من الوقت، تبادل خلالها العاشقان نظرات مشفوعة بالعطف والحنان وهمسات دافئة لم أسمعها جيداً، عادت والتصقت ببعضها في جولة أخرى أقوى وأشد سخونة وعنفاً، وصارت الألسنة تنوب عنها في الولوج إلى الأفواه والاستلذاذ بالمص والتمرغ باللعاب. ثم ما لبثت الأسنان أن اصطكت هي الأخرى ببعضها محدثة صريراً، وكأنًّ كل حبيب يدفع بنفسه في جوف الآخر ليستقر في قلبه. 
وبعد فاصل كلامي قصير انتقلت المعركة إلى الأسفل حين دسّ الشاب يديه تحت تنورة الفتاة القصيرة من الخلف وأخذ يتحسس إليتيها ثم يربت عليهما مداعباً، وعلى مدار الحفلة لم تتوقف فخذاه عن جس فخذيها العاريتين والتمسح بهما في إيماءات جنسية أفضت إلى تقبب بارز في بنطاله في ناحية العانة. وهكذا ظل العاشقان يتماديان في عشقهما المحموم جهراً حتى سمعنا صافرة القطار.
وكما فعلا قبل قليل اختارا المقعد المواجه لي وجلسا عليه بحيث لم يفصل بيننا في العربة سوى طاولة صغيرة بعرض نصف متر، كنت قد ضعت عليها حقيبتي وصرت أشاهد من النافذة السهول الفسيحة الخضراء وفرق الغولف المنتشرة عليها بينما راحا يتناقشان بصوت خافت حول مواد دراسية تخص المرحلة الثانوية. وما إن صرنا قريبين من محطة بيكسهيل، البلدة الواقعة في منتصف الطريق، تقابلا في جلستيهما وتعانقا، ثم ما لبث أن انقض الفم على الفم في جلسة أخرى من القبلات تتخللها وشوشات ناعسة وتأوهات مثيرة. وعلى أنغام قبلاتهما استحضرت بدوري قبلتي الأولى في بلدي. 
كنت في السنة الثانية من كلية الطب، وكانت لي صديقة لم تتجاوز علاقتي بها حد اللقاءات في الأزمنة الفاصلة بين المحاضرات والجلوس في مقهى الكلية وتناول الشاي والقهوة، أو السير معاً في الممرات الفاصلة بين الكليات والمعاهد. لكن الحب كان موجوداً، وإن كان من ذاك النوع الطفولي البريء وغير الهادف، وعبارات الغزل كانت حاضرة وإن كانت لا تتجاوز، من جهتي، الإشادة بجمال عينيها، وروعة بسمتها، والسلام الذي يغمر روحي حين سماع صوتها، أما من جهتها فقد كانت تكرر دائما عبارة شاعرية ظلت تطن في أذني لردح من الزمن: "اكتئب في اليوم الذي لا أراك فيه، لا أدري لماذا."

وبعد مضي أكثر من سنة اقترحت عليها بتردد وحياء أن نقوم بممارسة (قبلةٍ)، لنعرف ما هي متعتها وما هو طعمها، تلك التي يتغنى بها الشعراء على أنها أشهى من العسل، وألذّ من جرعة ماء على قلب ظمآن... والحق أن الدافع إلى التفكير بالقبلة كان الفضول، وليس الرغبة في ممارسة ركن من أركان الحب، ذاك الركن الذي ينظر إليه المجتمع على أنه نوع من أنواع الرذيلة في حال غياب رخصة شرعية له. وبعد أخذ ورد، وتمنع وحياء طال شهوراً وافقت صديقتي على اقتراحي ووعدتني بخلوة معها. ومن يومها بتنا نبحث عن الزمان والمكان المناسبين لممارسة طقسنا المنشود، حتى تصدق علينا أحد أصدقائنا وقدم لنا مفتاح بيته في فترة غيابه عنه لمدة أسبوع كان سيقضيه مع أبويه في قريته. والمشجع أن البيت كان في حي ذي غالبية مسيحية، ما أعطانا دافعاً جديداً وأملاً في غياب رقابة الأعين ونحن ندخل البناية. أو لنقل غضّ الطرف وليس غياب الرقابة.
في اليوم الموعود سرنا باتجاه هدفنا بخطى بطيئة. وكنا، كمن يتلقى امراً بتنفيذ مهمة لا يؤمن بها، نسير قليلاً ثم نبحث عن حجة تلهينا عن السير. وهكذا جلسنا قليلا في حديقة كانت في طريقنا، ودخلنا محلاً للسمانة وقضينا فيه عشر دقائق دون أن نشتري شيئاً، وأوصلنا عجوزاً تعاني من مرض الباركنسون إلى بيتها في الطابق الثاني بعد أن استنجدت بنا، حتى كنا قريبين من مدخل البناية التي فيها بيت صديقي. تثاقلنا في خطانا حتى بتنا كمن يمشي إلى حتفه. نظرت إلى صديقتي فرأيتها شاحبة ترتعش. وقد قالت لي فيما بعد إنني كنت أرتعش أكثر منها وأن وجهي كان مائلاً إلى الصفار كوجه من به آفة في الكبد. ومثل دابتين حرونتين ترفضان السير والانقياد انتهى بنا المطاف إلى الوقوف جامدين عند مدخل البناية. ولكي نخرج من الورطة التي أوقعنا نفسينا فيها اقترحت هي أن نؤجل الموضوع إلى يوم آخر، ولم يكن لدي مانع في ذلك!
في اليوم التالي تكرر نفس السيناريو وإنما بصورة أقل حدة. وكان علينا أن نصعد أربعة طوابق حتى نصل إلى البيت. وعند الطابق الثالث كاد يغمى علينا بسبب التسرع الشديد في قلبينا نتيجة التوتر، وتوقفنا قليلاً ثم تابعنا الصعود ونحن نلهث بقوة. فتحنا الباب وتسللنا إلى الداخل مثل لصين محترفين. وبصوت متهدج طلبت منها الدخول إلى الغرفة الوحيدة في الشقة والاستعداد للحدث الذي جئنا من أجله، فدخلتْها متشوشةً دون أن تخلع خفيها ووقفَتْ في منتصفها ناسية كيف تجلس. كانت طويلة وتلبس معطفاً بنياً يمتد إلى أسفل ركبتيها مما أعطاها صورة تمثال برونزي وهي تقف جامدة في وسط الغرفة. أحكمت إغلاق النافذتين المغلقتين أصلاً وأسدلت الستائر عليهما. ثم عدت وأقفلت باب الشقة من الداخل وتركت المفتاح في القفل تحسباً لأي محاولة فتح من الخارج، ووقفت على باب الغرفة أبحث عن طريق إليها! كنت شديد التوتر والاضطراب. بدأ قلبي يخفق بقوة، وشرعت فرائصي ترتعد. شعرت أن العالم كله يرانا ويترصدنا، لذا قمت بمسح جدران الغرفة بعينيّ أبحث فيها عن عيون تراقبنا أو آذان تتنصت علينا. لملمت قواي وخطوت خطوة إلى الأمام باتجاهها. تصورت سماع صوت أبي من الغيب وهو يوبخني وينهيني عن ارتكاب معصيتي التي أقدم عليها. ثم تخيلت يد أمي وهي تمتد إليّ لأقبلها بدل قبلة محرمة قد تودي بي إلى الوقوع في الرذيلة والفاحشة. تجاسرت وقطعت المسافة المتبقية ووقفت على بعد خطوة منها. كانت جامدة في مكانها دون حراك. خمنتها تبكي. لم أحرك يديّ ولم أحتضنها. وكل ما حدث هو أن عنقي اشرأب حتى كان فمي قريباً من خدها. وما إن حدث التماس حتى قفز كل واحد منا خطوة إلى الوراء، ثم قمنا بما يقوم به جمهور السينما عندما تعلن الشاشة انتهاء الفلم، فأسرعت هي إلى حمل حقيبتها والانصراف دون أن تنتظرني أو تودعني بكلمة، بينما هرعت أنا إلى فتح النوافذ وتهوية الغرفة لأنني شعرت بالاختناق. وبعد أن هدأت أعصابي قليلاً جلست أحاكم نفسي: 
هل أنت هنا للدراسة أم لارتكاب الموبقات؟! 
كيف ستواجه ربك غداً وأنت تمهد لفعل الزنى، إحدى كبائر الذنوب عند الله؟!
 وهل ترضى أن يقبّل أحدٌ أختك أيها الوغد؟! 
ألم توبخ إحدى بنات عمك الصيف الماضي لأن حجابها كان يشف عن شعرها؟! 
ماذا إذا سمع أهلك وأقرباؤك وجيرانك وأبناء منطقتك بفعلتك المشينة هذه؟! لابد أنهم سيسمونك غداً الطبيب الداعر الذي يستدرج النساء لفعل الفاحشة بهن، وسيكفون عن التطبب عندك! 
ثم ماذا ستقول عنك أختك الكبرى؟ ستواجهك، بلا شك، بنفس المسّبة التي شتمتك بها قبل عشر سنوات!
كنت في العاشرة، وكان بيتنا الريفي متواضعاً، مضافة للرجال ويليها غرفتان من الطين بينهما ردهة تفضي إلى مطبخ، ثم إلى حمام. نعيش فيه نحن ستة أخوة وأربع أخوات بالإضافة إلى والدينا. وكان أخوتي الثلاثة البالغون ينامون في المضافة، بينما تنام أختاي البالغتان في إحدى الغرف. وفي الغرفة الثانية ننام، بالإضافة إلى والدينا، نحن الخمسة غير البالغين، أكبرنا في الثانية عشر وأصغرنا رضيع في شهره السادس. وفي إحدى الليالي استيقظتُ عند الفجر ورأيت على ضوء الفانوس الشاحب أبي واقفاً يمسح البلل عن جسمه وهو عار إلا من قطعة قماش رفيعة تستر عضوه، بينما كان صوت الماء يشرشر في الحمام استطعت أن أفسره بوجود أمي فيه. بذهول واستغراب صرت أسأل نفسي: حمام عند الفجر! ما الذي يجري في هذا البيت يا ترى؟ لم أملك الجرأة على السؤال من أبي، لذلك عزمت على الصمت والتجسس. عادت أمي من الحمام بكامل لباسها. وارتدى أبي ثوبه. ثم صلى كل منهما ركعتين وخلد إلى النوم. بينما صرت أتقلب في الفراش ساهداً، والسؤال الذي علق في ذهني ولم يبرحه أبداً هو: حمام عند الفجر؟! 
في اليوم التالي سألت أختي التي تصغرني ثم أخي الذي يكبرني فلم يكن لديهما تصور حول الموضوع. ولم أزل أتدرج بالسؤال حتى وصلت إلى أختي الكبرى، قلت لها: كان أبي وأمي يستحمان فجر الليلة الماضية ما السبب برأيك؟ فتقطبت ملامح وجهها وحدجتني بنظرة مهددة وقالت بازدراء واحتقار: 
- قليل أدب. سأقطع لسانك وسأفقأ عينيك إن عدت إلى التفوه بمثل هذا الكلام مرة أخرى، هل فهمت؟
قلت لها وأنا على وشك البكاء: فهمت.
وقد حافظت على لساني وعينيّ حتى جاء كتاب التشريح في السنة الأولى من كلية الطب ومن بعده كتاب التوليد لينقضا العهد الذي بيني وبين أختي.







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=7425