«وطأة اليقين» رواية سورية تستلهم لغة جبران..
التاريخ: الأثنين 29 ايار 2017
الموضوع: القسم الثقافي



هيثم حسين

هوشنك أوسي يكشف في روايته زيف التاريخ وخداع المؤرّخين وارتهانهم لتوجّهاتهم وأهوائهم.

تتبدى رواية "وطأة اليقين" للسوري هوشنك أوسي فصولا من سيرة الكاتب الذاتية مدرجة في سياق وقائع معاصرة، أحداث تاريخية يعود إليها، مضمّنا رأيه المباشر فيها، ذاك الذي ينسبه لقرينه، الراوي الذي يختار له اسم ولات، في حين يتطابق معه من حيث الارتحال والتجربة الحزبية والسياسيّة والكتابية، كأنّه يقدّم بيانا سياسيّا في أكثر من فصل وموقف.


يحاول أوسي، وهو كاتب سوريّ كرديّ مقيم في بلجيكا منذ سنوات، ونشر عددا من المجموعات الشعريّة، في روايته الأولى (دار سؤال، بيروت، 2016) الإحاطة ببدايات الثورة السوريّة والتقاط المنعطفات التي مرّت بها، وصولا إلى حالة الاحتراب السائدة في البلد، وظهور التنظيمات الإرهابيّة إلى جانب النظام الإرهابيّ الذي هيّأ لها أرضيّة عنفيّة انتقاميّة للتفريخ والانتشار.
ينطلق أوسي من تجربته ككاتب ومحلّل سياسيّ، ليحفر في ما وراء الأحداث والعناوين والأخبار، ليفنّد ما قيل وأذيع على ألسنة الأقوياء والمنتصرين، يبحث عمّا وراء السطور، عمّا لم يقل وما لم يتمّ التصريح به، يطعن في تلك الحكايات التي قدّمت للجماهير على أنّها أساطير بطوليّة، يكشف عن زيف التاريخ وخداع المؤرّخين وارتهانهم لتوجّهاتهم وأهوائهم.
يبني عمله على حكايات متشعبة تتداخل لترسم مسارا للأحداث والثورات المغدورة منها والمعرّضة للتشويه، وكيف أنّ هناك ثوّارا سابقين باتوا مجرمين لاحقين، دخلوا ميادين العصابات وتخلوا عن مفاهيم الثورة وأحلام الثوار التي كانت تسكنهم، أفسدتهم الظروف والوقائع، وقد يكون فسادهم نتاج ما عاشوا فيه من بيئة فاسدة كانت توصف بالثوريّة، في حين كانت ترزح تحت أعباء الخراب الشامل.
يجمع أوسي أطيافا مختلفة من شخصيات كثيرة في عمله، شخصيات من الشرق والغرب، عرب وأكراد وأوروبيون وأميركيون وأفارقة، يرسم من خلالها سير ثورات وتواريخ تراكمت حكايات كثيرة عنها، بحيث اختلط الأمر إلى درجة تداخل فيها الواقع والمتخيل، التاريخ الحقيقي مع المزوّر، وباتت الغربلة واجبة والمحاولة ضرورية لذلك.
تخيّم صور الواقع المرعبة وفصول من خفايا التاريخ المعتّم عليها على أحداث “وطأة اليقين” التي يختار لها أوسي عنوانا فرعيّا “محنة السؤال وشهوة الخيال”، هذا العنوان الذي لا ينفلت من سطوة الشعر التي يسبغها على روايته، وكأنّ المحافظة على موسيقى الشعر في العنوان محاولة منه لإثارة فضول مفترض لدى القارئ، في حين أنّه يكاد يكون عنواناً فرعيا لقراءة أو دراسة أكثر منه لرواية، ولا سيما أنّ العنوانين “الرئيسي والفرعيّ” جاءا تجريديين منطلقين في فراغ التخييل والتخمين.
لا يخلو المفتتح الاستهلالي للرواية من وصائيّة ما، يتماهى فيه أوسى بلغته مع لغة جبران خليل جبران في بعض أعماله، وبخاصة “النبي” حين يتوجّه بوصاياه إلى رعاياه المفترضين، وذلك من خلال توجّه الروائيّ إلى قرّائه ومخاطبتهم وتأكيده عليهم بضرورة التمعّن في الخراب الشامل الذي يعيشونه ويرونه ويعلونه وأهمية التشبّث بالذاكرة، ثمّ التأكيد على الانتظار لرواية الحياة كما عاشتهم وعدم مواراتها، ورواية الموت لا “لا كما متمّوه، بل كما عاشكم”.
يحاور الأشخاص الذين تجمعهم المصادفات في ساحة بلجيكية عن أسباب التعاطف التي تربطهم بقضية الشعب السوريّ بداية، وعوامل تغيّر شخصيّاتهم وميولهم واهتماماتهم، وظهور علامات واهتمامات جديدة لديهم، بحيث يجدون أنفسهم مهتمّين بالوضع في الشرق الأوسط، يتابعون الأخبار ويشاركون في التظاهرات المنددة بالحرب وإجرام النظام، وبعد تداول وبوح واعتراف في ما بينهم يكتشفون أنّ هناك ما يجمعهم، وأنّ ما يجمعهم روح أقوى من النسيان والزمن.
تتعاون المجموعة التي تجمعها روابط الأعضاء العائدة للشخص نفسه، وتتفق على ضرورة الكشف عن هوية مَن يفترض أنّه تبرّع بأعضائه، وذلك من باب الوفاء له، وتكتشف أنّ ذاك الشخص كان شاعرا علويا معارضا للنظام السوريّ، يتعرّض لأشدّ صنوف التعذيب والعقاب قبل انتزاع بعض أعضائه والتمثيل به وقتله، ويكون له أخ مقيم في تركيا، ضابط منشقّ يعيش في مخيم للضباط المنشقين، تفرض عليهم الحكومة التركية طوقا أمنيا مشددا، يعيش بدوره مأساة الانتماء بين أمسه وراهنه ومستقبله الضبابيّ في ظلّ تصاعد العنف والكراهية والعنصريّة بين أبناء بلده.
الأعضاء المزروعة في أجساد أشخاص من خلفيات مختلفة (أفريقي، ألمانية، وإيطالي) تحدث تغييرا في نفسياتهم وميولهم وتوجهاتهم من حيث لا يدرون، يجدون أنفسهم في مواجهة عالم مختلف، يحاولون الإحاطة ببعض تفاصيله وحيثياته، يستدرجهم الأمر ويصلون إلى درجة من التورط بالتقصي لا يستطيعون التخلي عنها، وكأنهم عثروا على ضالتهم في بحثهم عن شخصية المتبرع المجهولة لهم.
يحاول أوسي إضفاء جانب بوليسيّ على أحداث الرواية من خلال اجتماع عدد من الشخصيّات التي تعرّضت في وقت قريب متزامن لعملية زرع أعضاء بشريّة لهم، وذلك في مستشفى بلجيكي، واكتشافهم قربهم من بعضهم بعضا، وكأنّهم يعيدون تجميع أعضاء شخص راحل غائب، يستحضرون شبحا متخيلا ويبنون تصورا له، ثم يقتفون أثر حلمهم بالعثور على الرابط الذي يجمعهم، وبعد تيقنهم من أنّ الأعضاء المزروعة في أجسامهم تعود إلى شخص واحد، يقررون البحث عنه، وتقودهم رحلة البحث لكشف الستار عن شبكة تجارة أعضاء بشريّة عالمية، يكون النظام السوريّ أحد أبرز أطرافه الرئيسة والبائع للأعضاء التي ينتزعها من أجسام المعتقلين المعارضين في سجونه.
تكون المكاشفة بين الإيطالي وشخص يُدعى “ذو الفقار” وهو ضابط مخابرات سوري في لبنان، يتحرك بجنسية لبنانية، يخفي شخصيته الحقيقية كمتورّط في تجارة الأعضاء البشرية، يكون صلة الوصل بين النظام والعصابات الوسيطة للمستشفيات الأوروبية، ويكون الإيقاع به من خلال الإيقاع بصحافيّ مشبوه يكون صلة الوصل معه.
يترك أوسي خيوط الرواية مفتوحة، وكأنّه أراد للأحداث والشخصيّات أن تظلّ تائهة في بحر ضياعها وتشتتها، وعدا وضعه نهاية مفجعة للكاتب الأرمني والشخصيات التي استدعته وكانت معه، إذ يقضون جميعا في حادث سير يختم به روايته، تبقى الأحداث وبعض الشخصيات في حيرتها وغربتها، ولا تكون هناك أيّ إشارة إلى المصائر، وكأنّه يبقي الباب مواربا لجزء ثان من العمل، أو كأنّه يحيل إلى أنّ إفلات المجرمين من العقاب سنة من سنن الواقع المضني والرواية معا.
قد يتساءل القارئ عن حصر الغاية في معرفة شخصية المتبرع وإعادته بطريقة رمزية إلى الحياة وإبقاء الأحداث معلّقة في فضاء الترقّب والحيرة، ولعلّ ذلك من دواعي الاقتصاص للأبطال المجهولين الذين ينبغي التأكيد على تضحياتهم وجدارتهم بالاستمرار في الحياة التي انتزعت منهم رغما عنهم، وكيف أنّ صورهم وتأثيراتهم تستمرّ في الظهور والتجدّد بصيغ غرائبيّة.
يطغى الأسلوب المباشر على الكتابة، برغم محاولات الكاتب إسباغ لغة شعرية عليها بين الفصل والآخر، ومحاولاته الاستطراد في تأويلات وتخييلات الأبطال وتقديمهم وصفاتهم ورؤاهم لعناوين وشعارات بعينها، وإعادة تعريفهم بمصطلحات ومفاهيم متداولة بمعان وتوجّهات مختلفة وبلغة هائمة في بحر الشعر والتجريد.
يعتمد أوسي في بناء روايته على تقنية الرسائل، كأحد محاور الاشتغال الفنّيّ، وهي طريقة كلاسيكية مطروقة في عالم الرواية، وتكاد تكون عبئا على الرواية الحديثة، وتخفّف من ترابط النصّ وتناغم أحداثه وفصوله. ويكون اعتماد أسلوب التراسل بالموازاة مع التضمين المباشر للرأي السياسيّ المنسوب إلى الشخصيّات، والتي يكون محورها ومركزها “ولات أوسو” الذي يكون ظلّ الروائيّ المحرّف لضرورات العمل الأدبيّ، لكنّه يبقيه صوته المباشر الذي يكون مرساله ومحاميه في تحليلاته السياسيّة وآرائه الأدبيّة ومحاكمة تجربته الحياتية بشقيها الحزبي والأدبي.
يتّكئ أوسي كذلك على الاستحضار التاريخيّ لأسماء وشخصيّات ومقاربتها بعين العصر، ووضع تجربتها على محكّ المساءلة والنقد والتشريح، مستخرجا عبرا ممّا جرى ويجري على هامشها أو تحت ظلالها التاريخيّة تراكمات حاصرت صورة الحقيقة المخبوءة في عتماتها وما بين سطورها.

جريدة العرب اللندنية







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=6017