تاريخ كردستان... إمبراطورية الكرد الأيوبيين (الجزء الثالث)
التاريخ: الأحد 24 نيسان 2016
الموضوع:



  عبدالرحمن محمد

قليلة هي الكتب التي تتحدث بشفافية وموضوعية عن التاريخ الكردي القديم وحتى الحديث ومن أهم أسباب ذلك أن جُلَّ تلك الكتب كانت بأقلام كتاب لم يكونوا كرداً، فكانوا عرباً أو فرسا أو مستشرقين، وما يؤلم حقاً أن التاريخ الكردي حُرّف في كثيرٍ من الأوقات، بل وزوّرت الكثير من الحقائق لكن لا يخلو الأمر من بعض الكتاب الذين كتبوا التاريخ والتراث بأحرف مذهبة يستحقون عليها كل الثناء.
وكتاب (تاريخ كردستان- الجزء الثالث- إمبراطورية الكرد الأيوبيين) من نوادر الكتب التي تبحث في علم الكردولوجيا وقد قام بتأليفه الكاتب والشاعر الكبير (جكر خوين) الغني عن التعريف باللغة الكردية، وقام بترجمته الكاتب والباحث (خالص مسور) الذي كرس سنيناً من عمره في البحث والتأليف وله العديد من الكتب والبحوث في هذا المجال.


في مقدمة الكتاب يتحدث الكاتب خالص مسور عن صعوبة ترجمة هذا الكتاب التي يلخصها في اختلاف نطق بعض الحروف ومخارجها بين العربية والكردية أحياناً، وعدم إشارة المؤلف أحياناً، إلى أرقام الصفحات في المراجع التي استند إليها مما اضطره أحياناً لقراءة كتب بأكملها من أجل التحقق من صحة المرجع أو الوصول إلى معلومة صغيرة.
ويشير المترجم إلى مشقة الترجمة التي تتطلب أمرين أساسيين؛ أولهما أن يكون المترجم ملماً باللغتين المعنيتين بالترجمة لغة الهدف واللغة المترجم منها، ثانيهما أن يكون المترجم ملما بشكل كاف بالموضوع الذي يترجمه، ويؤكد إن عدم توفر هذين الشرطين يضيعان جهود المترجم وخيبة الرجاء في العمل المترجم.
وبالتجول بين صفحات الكتاب موضوع القراءة الذي جاء في مائتين وأربعين صفحة من القطع الوسط فهناك في البداية إشارة إلى أن الكرد ناضلوا طويلاً وعلى ممدى التاريخ وأن الحروب التي مرت على الكرد كانت ارهاصات ومخاضاً لولادة امبراطورية كردية كبرى أسس لها ورسخ أركانها يوسف صلاح الدين بن نجم الدين أيوب. 
وفي سرد مشوق موثق نرى بداية قدوم (شيركو) للمرة الأولى إلى مصر سنة 558 هـ، وحصاره للقاهره وانتصاره على (ناصر الدين سوار) وأخيه وسيطرته على (بلبيس) رغم  تعاون الصليبيين في القدس مع (شاور) أمير جيوش مصر آنذاك، ومبادرة الصليبيين لعقد صلح مع شيركو ليعود إلى الشام ويتحضر للاستيلاء على مصر من جديد عام 562 هـ. وكان صلاح الدين  المولود في تكريت عام 532 هـ على رأس الجيوش، وبدهاء وتكتيك حربي استطاع مع شيركو الانتصار على الجيوش الصليبية وجيوش شاور في الجيزة والاستيلاء على الاسكندرية وتولي صلاح االدين الحكم عليها.
يستمر الكاتب في سرد تفاصيل ممتعة عن مجريات الكثير من الحروب والحملات، وكيف امتدت رقعة السيطرة الأيوبية في مصر وتحريرها من قبضة الصليبيين ويورد الكاتب كيف أن "شاور" أحرق الاسكندرية التي بقيت النيران تشتعل فيها أربعة وخمسين يوماً، حتى استباب السيطرة الكاملة على مصر.
وتعود مرة أخرى قضية المطامع والنزاعات بعد وفاة شيركو الذي بقي وزيراً على مصر خمسة وستين يوما فقط، ليحل التتنازع والتخاصم بين نوابه لتمكن صلاح الدين من تقلد منصب الوزير بذكائه وحنكته وشجاعته.

 

في الكتاب بعض الاضاءات على مواضيع وتفاصيل صغيرة لكنها هامة، حيث يلقي الضوء على سيطرة السودانيين على تسيير أمور الخليفة الفاطمي آنذاك ورفضهم القاطع لأي نفوذ كردي ومعاداتهم لذلك بل واستنجادهم بالصليبيين من أجل التخلص من الكرد.
أحداث كثيرة يرصدها الكتاب ويؤرخها ويتناول تفاصيلها التاريخية وأسبابها ونتائجها وربما لم يغفل عن أية حادثة مميزة منذ عام 558 هـ وفيما يليه، فهو يسرد أحداث كل عام بالتفصيل كأحداث معركة النوبة في السودان والمعاهدة المشهورة بين السلطان صلاح الدين وحاكم الموصل قبل رحيله عنها, والتي كانت كمعاهدة دفاع مشترك وكان أهم ما فيها أنها جاءت كإعلان اكتمال قيام امبراطورية كردية تحت راية  صلاح الدين عام581هـ.
ويبدو أن مقاومة الصليبيين كانت على عاتق الكرد وحدهم، كما يبرز المترجم أن الكرد لم يستغلوا الدين كغيرهم للمنافع الشخصية والقومية، وكيف أن اللصوص والمفسدون في الأرض حققوا أهدافهم  من وراء استغلالهم الآثم للدين.
في الكتاب تفاصيل دقيقة تبرز مدى حكمة صلاح الدين وعقلانيته؛ وكيف كان بإمكانه  أن يدير البلاد الواسعة ويرضي العباد، كما تبرز فيه الحنكة السياسية في إدارة أمور الإمارات والولايات والمناطق وتوزيع القيادة فيها بين عائلته وأعوانه وعدم افساحه المجال لهم للتقاتل والتناحر في أوقات كان الكثيرين يسعون لزرع الفتنة والفرقة، وكان جل اهتمامه منصباً على الإعداد لمعركته الفاصلة في حطين .
عقد السلطان معاهدات مع ملوك وحكام الموصل وماردين وحصن كيف وأربيل والجزيرة وسنجار والتي بموجبها خضعت هذه البلاد لحكمه كما نصب ابنه على فارقين وجهز جيشاً عظيماً عام583 هـ.
(معركة حطين من أشهر المعارك الفاصلة في التاريخ وفيها استطاع الكرد ان يعرفوا بأنفسهم للعالم وأن يسطروا بمداد من ذهب ملاحم بطولية على صفحات التاريخ)، هكذا يصف الكتاب معركة حطين، كما وصفت من قبل في سير التاريخ وقصص الفتوحات الكردية.
يتابع الكتاب مجريات الأحداث، بتفاصيلها الدقيقة من استعداد الطرفين للمعركة الفاصلة وتحشيد الجيوش والقوات والمؤازرة عسكرياً وماديأ ومعنوياً، وتدخل الكنيسة في المصالحات بين الأمراء الصليبيين وحشدهم للموقعة الأهم وتحت راية الصليب، ويستشهد الكتاب بما دونه ابن الأثير المعروف بمصاحبته لصلاح الدين في العديد من حروبه، الذي يعد كشاهد عيان على عصره، علماً أن ابن الأثير مشهود له بالحيادية والموضوعية والنقد الصارم وبخاصة في كتابه (الكامل في التاريخ).
وعود على بدء؛ فنحن نرى تفاصيل مجريات الحروب وتحركات الجند والكر والفر عبر تكتيكات ومناورات حربية عرف بها صلاح الدين ومن  كان معه من القادة ليلحقوا الهزيمة بالصليبيين، ولا يغفل الكتاب جوانب النقد والمآخذ على المسلمين والصليبيين على حد سواء، ومما يذكره عن بعض المآخذ على المسلمين (أرسل السلطان إلى حاكم دمشق المدعو الصفي بن القايض يقول: أعرضوا الإسلام على فرسان الداوية والإسبارتيه؛ ومن يرفض منهم اقتلوه بالسيف كائناً من كان) وأن حاكم دمشق قتل أولئك الأسرى فعلاً لأنهم لم يعلنوا إسلامهم.
كما ينتقد تهاونهم مع الأسرى وتسامحهم المفرط في بعض الأحيان الأخرى، وما كان الأسرى من الطرفين يلاقونه من إهانة لإنسانيتهم عند بيعهم كعبيد وسبايا.
ومن التفاصيل الشيقة المتتالية والتحليلية ذِكرُ أسباب تراجع الامبراطورية الأيوبية وخسارتها في بعض المعارك،  ومن ثم سقوطها بعد التنازل عن بعض ممالكها كـ عكا وغيرها، ومن تلك الأسباب؛ التنافس على المناصب العالية والانشغال بجمع الغنائم والسبايا، والمكائد التي فرقت بينهم وزرعت بينهم الضغينة وأدت إلى الهزيمة.  
ولا يغفل الكاتب عن ذكر بعض آلات الحروب التي صنعها الصليبيون وقتذاك كـ(الدبابة والمنجنيق والآلات البرجية وغيرها). 
المتجول بين صفحات الكتاب يلقى العديد من الاتفاقات والمعاهدات التي عقدت بين السلطان الأيوبي الكردي والصليبيين وملوك اوربا وما كانت عليه الحال وما آلت إليه الأحوال.
بعد رحيل السلطان صلاح الدين في عام 589هـ1193م، عن عمر ناهز السابعة والخمسين، وبقائه سلطاناً تسعة عشر عاماً على مصر وأربعة وعشرين  عاماً على دمشق، وتركه سبعة عشر ولداً وبنتاً واحدة، بدأ عصر انحطاط الإمبراطورية الأيوبية التي يرى الكاتب أنها  انهارت للأسباب التالية: أولاً: فقدان الدولة للكثير من شخصياتها وقادتها وأركانها. ثانياً: التناحر بين الكرد وممالك السلطان بعد وفاته. ثالثاً: الثراء الفاحش لبعض القادة وتسلل الفساد وإدخال الأجانب إلى مؤسسات ومرافق الدولة. رابعاً :النزاعات الدائمة مع الصليبيين ومع خليفة بغداد، وكانت مهاجمة عزيز مصر للشام سنة590 هجرية بداية لانحدار الدولة .
في الفصول اللاحقة من الكتاب نرى ازدياد النزاعات البينية في العائلة الأيوبية التي تؤدي في النهاية إلى تقاسمها وتشتتها بين مصر والشام، وانكماش الإمبراطورية التي امتدت في وقت من الأوقات حتى اليمن وضمت بلاد الشام ومصر، وكما تظافرت الجهود في بناء دولة بل إمبراطورية كردية بالعمل الدؤوب والمثابرة والتخطيط والبناء, تظافرت الأسباب التي أدت لانحطاطها، ليخبو سراجها يوماً بعد يوم بعد أن أنهكتها الحروب والنزاعات من كل حدب وصوب، ولا بد لنا أن نتمعن في صفحات الكتاب بل وأن نقرأَه أكثر من مرة لنرى حقيقة الأمور التي أدت إلى ازدهار إمبراطورية بمعنى الكلمة في ظروف كتلك الظروف التي قامت فيها وفي الأحداث التي أدت إلى سقوطها. 
أما فيما يخص الكتاب فتكمن أهميه في إنه سرد مفصل للتحالفات والخطط والحنكة السياسية والعسكرية التي تجسدت في شخص صلاح الدين، الشخصية التي تركت وأثارت الكثير من الجدل، وأسرته التي ترك لها أمور البلاد فيما بعد، وفي الكتاب تسليط للضوء على مرحلة هامة من التاريخ الكردي قد يغفلها البعض، إضافة إلى أمر هام وهو أن كلا من الكاتب والمترجم هذه المرة كرديان ويستندان في الكثير من المرات لمراجع أرخها أعاجم. مما يضيف المزيد من المصداقية لما جاء في الكتاب.
الامر الآخر التوثيق والمراجع الهامة التي استند إليها الكتاب وإلقائه الضوء على العشرات من الأحداث الفاصلة في التاريخ الكردي وتفاصيل العديد من المعاهدات والمواثيق التي كانت تبرم بين القادة والأمراء والملوك الذين تنازعوا على السلطة والسيادة.
كتاب (تاريخ كردستان، الجزء الثالث، امبراطورية الكرد الايوبيين) دراسة متعمقة في المسألة الكردية بتفاصيلها الدقيقة لحقبة امتدت لاكثر من مئة وعشرين عاماً، وتفاصيل قيمة عن قيام امبراطورية امتدت على رقعة واسعة وأنقذت كل البلاد التي سيطرت عليها من براثن الصليبيين والعديد من الطامعين والعابثين، وفيه بيان لما كانت تتمتع به العائلة الأيوبية من حنكة وتكتيك حربي، تجلى في الانتصارات المتلاحقة التي أدت إلى قيام الامبراطورية الكردية، وربما إن دراسة عادية لا تكفي للإحاطة بالكم الهائل من المعلومات القيمة التي تضمنها الكتاب، الذي نشرته مؤسسة العلم والفكر الحر في روج آفا، وكناحية فنية جاء حجم الخط صغيراً وتقاربت الخطوط مما أوجد صعوبة في القراءة، إضافة لبعض الأخطاء اللغوية والنحوية، ولكن الكتاب يبقى من الكتب المميزة والجديرة بالقراءة، ومن الكتب الفريدة في المكتبة الكردية والعربية والتاريخ الكردي.    








أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=5707