ما تبقى من حب
التاريخ: الأثنين 22 حزيران 2015
الموضوع: القسم الثقافي



أحمد اسماعيل اسماعيل

حين أصبح في الشارع وهو يلهث، وقلبه ينبض كقرع طبل، شكر، ولأول مرة، تدبير الأقدار على خلِّو هذا البيت بالذات من أصحابه.
كان صوت التفجير الذي هزَّ كلَّ ركن من أركان بيته، وحيِّه، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، قد جعله يقفز  هلعاً من فراشه ويهرع إلى الشارع ليشاهدَ، مع جمع غفير من أهالي الحي، ما أحدثته قذيفة سقطت على البيت المقابل لبيته، لم يدرِِ كم من الوقت مرَّ وهو يتأمل بذهول وشرود ما أحدثته القذيفة في البيت الذي بقيّ قبلته حتى بعد أن غادره ساكنوه.


في المساء، وحين انطفأ مصباح السماء تاركاً المدينة لظلمة لن تجد ما يبددها من نور مصابيح باهتة، واطمئن لخلوِّ الشارع من المارة، تسلل بحذر إلى الدار المهجورة التي أحدثت القذيفة في سقفه فتحة كبيرة، وكشفت عن مشبك الحديد الذي تقطَّعت أذرعه وعروقه، راجياً ألا يُسلَّط عليه في تلك اللحظة من عتمة المدينة ضوء مصباح محمول لعابر سبيل فضولي أو خائف.  
أخذ يتجول في الدار التي دخلها، لم يترك مكاناً يمكن أن تكون قد مرّت به تلك التي أسرت روحَه إلا وتوقف عنده، يتأمله ويتحسسه برقة، تاركاً لخياله نسج الحكايات وترتيب الأحداث والمواقف الطريفة وغير الطريفة.. مضى وقت طويل من الليل وهو يتجول في الدار كسائح في متحف أو قلعة عظيمة، حتى بدأ الصباح بالتنفس، وهمَّ بمسح سواد الليل عن الأشياء، وهو ما لم يكن يتمنى حدوثه بهذه السرعة مُذ هبط على المدينة شبح ليل أفقدها القدرة على إنارة شوارعها، ونشر التوجس والضيق في نفوس أبنائها رغم توسلهم المصابيح المحمولة لإنارة دروبهم حين يضطرون إلى الخروج ليلاً، حتى أصبح الليل بالنسبة له، بل ولجميع أبناء مدينته، مصدر كرب وقلق، يرجون انجلاءه بسرعة، ويشكرون ربهم حين ينجلي دون وقوع أي مكروه، من سرقة أو اغتيال أو خطف. غير أنه، وفي هذه الليلة بالذات، تمنى على الليل أن يطول دهراً.  
كان دخول هذه الدار حُلمه المؤجل مُذ تعلق قلبه بابنة صاحبه الوحيدة، ذات الشعر الأسود الطويل، والذي يؤطر قمراً له عينان واسعتان تجعل كل من يشاهدهما يغوص في أعماقهما وهو ذاهل، عينان تشع منهما نظرات أشبه بالبرق، تنطلق من خلال فتحة باب الدار مرة، ومن خلف زجاج نافذة بيتها المطلة على الشارع مرة أخرى، ومن فوق سطح الدار  وهي تنشر الغسيل مرات أخرى؛ سهام نارية لا تخطئ الهدف، فتخترق القلب وتتركه حيث كان يقف، جثة حية، وشجرة وحيدة عرَّتها ريح مجنونة، تسعى لاقتلاعها من الجذور.
كرَّت الأيام كحبات المسبحة ولم يتغير الحال، وبقيَّ كما عهده كل من عرفه، متخلفاً عن جميع أصحابه وأقرانه في الرقص حول وردة الحب.
وفي يوم سيظل يذكره بمرارة ما بقيّ هذا الحب الأخرس حياً في قلبه، كان حينها عائداً من مدينة الحسكة التي تتبعها مدينته قامشلي إدارياً، فشاهد سيارة من نوع "الفان" واقفة أمام باب هذا الدار، وعلى سقفها حقائب صغيرة وكبيرة، وثمة نسوة ورجال من الجيران يقفون بالقرب منها بوجوه ارتسمت عليها تعابير بائسة، التقطت نظراته وجهي صاحب البيت وزوجه والتي كانت تكفكف دموعها وهي تلوح للجيران من خلف زجاج باب السيارة، التي سرعان ما غادرت المكان لحظة وصوله.
ما أثار استغرابه أكثر في تلك الأثناء أنه لم يرَ فتاته، ابنة صاحب الدار، داخل السيارة جالسة مع والديها، فسرى إحساس دافئ في داخله وهو يتخيلها في الدار وحيدة، جالسة في مكان ما من باحته وقد أسندت وجهها الجميل بكفّها البضّة، ازداد سروره حين مضى وقت غير قصير على مغادرة تلك السيارة للمكان دون أن تعود لاصطحاب الفتاة ، بزغت في رأسه هواجس كثيرة، هاجت وماجت مثل أحصنة جامحة:
(ولكن أين هي؟ ولماذا لم أشاهدها تغادر الدار برفقتهما؟ وهل يعقل أن تكون قد رفضت مرافقة والديها وأصرت على البقاء في الدار حتى تراني وتودعني؟ ) مضى وقت لم يحسبه بمقياس الساعة وهو يقلّب الأمر على وجوهه، حتى وجد نفسه منتشياً بإجابة ملأته غروراً:  
(ولم لا، أليست هي ابنتهما الوحيدة والمدّللة كما كان يُشاع عنها بين الجيران، إذن لا يمكن أن يُردا لها طلباً! ولابدّ أن تظهر الآن ويسمع صوتها وهي تودعه، ولكن بماذا سيرد عليها؟) 
بحث عن كلمة مناسبة للرد، كلمة معبرة تحمل كلَّ ما في داخله من لوعة ولهفة، وراح يبحث في خياله عن نوع صوتها، وعن جرسه، طبقته ونبرته.. وحين لم يستطع ذلك راح يطابق بين صوتها وأصوات بعض الفنانات اللواتي لهن صوت أنثوي رقيق ومحبب يتسلل إلى القلب كنسمة، أو نفحة عطر، ووجد نفسه وهو لا يزال في مكانه يغوص في أحلام يقظة يرتب فيها ما سيحدث المرة بعد المرة.
هكذا، وبكل بساطة، ستقف أمامه وتقول له وهي متحفزة للارتماء بين ذراعيه: لم أرغب في مغادرة الدار حتى تعود من سفرك وأشاهدك، قلت سأبقى هنا حتى لو هدمتما الدار على رأسي، وسيقول لها: لن أسمح لأحد أن يفعل ذلك بك حتى لو قدمت حياتي ثمناً لذلك، وستخصه بنظرة امتنان وحب، تلك النظرة التي كانت تصله بسرعة أيام زمان وتطيش بلبه، ولقد أصبح في مقدوره الآن تأملها والغوص في أعماقها الصافية، وستتقدم منه وهو يسبح في بحر عينيها وتضع رأسها على صدره باطمئنان، ثم ستطوق خصره بيديها الرقيقتين، حينها سيجد هو الآخر الفرصة سانحة لشمِّ شعرها الطويل والكثيف وسيقبل جبينها الأبيض الناصع واللجين كما تقول فيروز، وقد يمدُّ يده ويحيط كتفيها ويشدَّها نحوه بقليل من القوة والرغبة، كما كان يسمع من أصحابه حين يجتمعون بمن يحبون من الفتيات، وسيطول بهما الحال هكذا زمناً لم يفكر في تحديده أو إنهائه والانتقال لحالة أخرى، ولن يكون غبياً كعادته في مثل هذه المواقف ويسألها كيف سمح لها أبواها بالبقاء في الدار وعدم مرافقتها لهما؟! كيلا يفسد قدسية هذه اللحظة، فيذكرها بما قد غاب عن بالها وهي معه، حينها قد تبعد يديه اللتين كانتا تحيطان كتفيها المدورين والمغلفين بثوب رقيق كقطعة شوكولا وتهرع خارج الدار لتلتحق بوالديها، فلا يمكن التنبؤ بتصرفات المرأة كما يقول له أصحاب الخبرة بعالم النساء، لأنهن مزاجيات ومتقلبات، وإذا حدث ذلك فلن يسامح نفسه. وقبل أن يمتلئ فمه بطعم المرارة ويفقد كل ما رشفه من حلاوة العناق، أسرع إلى تغيير تفاصيل الحكاية وترتيب أحداث جديدة وهو يحذف دفعة واحدة كل ما يتعلق بوالديها، أو كلَّ قول أو سلوك أو حدث يجعلها تغادره. 
لا يعرف كم من الوقت مضى وهو واقف في مكانه ذاك، أمام باب داره، على الرصيف المقابل لباب دارها، غافل عما يجري حوله، يرتب الأحداث وينسج الحكايات. ولكن حتى الأحلام، مثل الأحوال في الحياة، لا تدوم. ففي صباح اليوم التالي، وقبل أن يغادر فراشه؛ سمع صوت أخته تتحدث عن حبيبته وتقول لأحدهم: إن الفتاة كانت قد سبقت أهلها إلى تركيا برفقة خالها، حينها فقط أحس أنه استيقظ من حلم تمنى لو أنه امتد دهراً.            
لم تنطفئ رغبة دخول هذه الدار في نفسه، بل بقيت حية متأججة رغم خلوّها من ساكنيها ومن روحها التي جعلت منها قِبلة نظراته وشجرة عصفور قلبه العاشق. 
جاب كل زاوية من زوايا باحة الدار الواسعة، ودخل غُرفها الإسمنتية الثلاث وكذلك المطبخ والحمام أيضاً. لامس كلَّ ما وقعت عليه يده: أبواب الغرف الداخلية، نوافذها، قواطع الكهرباء، النافذة المطلة على الشارع، باب الدار، مغسلة المطبخ.. وحتى حبل الغسيل الذي كان يتأرجح متهدلاً فوق سطح الدار المتهدم . 
ما أثار دهشته، بل وعجبه في كل تجواله التفقدي على تضاريس الدار ومعالمها، أنه في ملامسته لكل واحدة من تلك الأماكن والزوايا كان يحس بملمس ناعم وطري، ويسمع صوتاً غريباً أشبه بالهمس، أنثوياً ورقيقاً، ينبعث منها بوحاً ضارعاً وحنوناً يخترق جسده كبرق ويسري في دمه كمصل مُسكر، فراح، وهو موزع بين الحلم واليقظة، يتابع تحسس كل ما تقع يداه عليه ويصيخ السمع لذلك البوح بذهول لا يخلو من سرور وراحة.    
النافذة المطلة على الشارع:
كفّ عن إصدار الصرير أيها الشباك، فالشاب الذي أنتظر ظهوره في الباب المقابل لك لن يطول، الوقت صباح وموعد خروجه من البيت قد أزف، لن يطول وقوفه حتى تخرج أمه أو أخته وتناديه ليتناول طعام الفطور، وأنت أيها الشاب الجميل هيا اخرج قبل أن تناديني أمي كي أعدَّ طعام الفطور لأبي، اظهر بسرعة وانظر نحوي كي يكون وجهك فأل حسن وزاد روحي لهذا اليوم، أريد أن أرى وجهك وعينيك وهما تنظران إليّ، لماذا لا تنظر ناحيتي؟ ألا تريد رؤيتي أم أن الخجل هو من يمنعك ؟ أنا أيضاً مثلك خجولة، لم يحدث أن نظرت إلى شاب مثلما أفعل الآن، حتى نظرات شباب الحي لم أكن ألتفت إليها وهي تخترق كل مسامة من جسدي؛ نظرات أشبه بهذا الرصاص الذي يمزق هواء سماء مدننا. ( قفز إلى ذهنه حديث شباب الحي عنها: فتاة عصية، جميلة جداً، ما أشبه مشيتها بمشية جندي غرِّ في دورة عسكرية.. وكلام كثير كان يبعث فيه السعادة والاعتزاز بها) إلا أنت، أنت وحدك من أتمنى عليه أن ينظر إليَّ، أن تلتقي نظراتي بنظراته، لقد كنت أوجه نظراتي كلَّها نحوك، بانتظار أن تبادلني نظرة واحدة، ولكن بلا جدوى. ما بك أيها الحبيب ألا تهتم لأمري؟ أم أن قلبك مرهون بحب واحدة أخرى غيري؟ أما أن ما يحدث في الوطن من قتل ودمار هو ما يشغل بالك؟ مثلما يحدث لأبي وخالي اللذان يكفان في كل لقاء يجمعهما عن الحديث عن هذا الصراع الدموي الذي أدمى الأرض والقلوب. لا أعرف هل أشتم المحطات التلفزيونية التي لا تكف عن عرض مشاهد القتل والدمار أم أشكرها مثل أبي الذي لا يترك نشرة أخبار تفوته ولسان حاله يقول: لولا هذه المحطات ما كنا سنعلم بمسيرة هذه الثورة في المدن الأخرى، وما يدبر لنا ويحاك في الخارج من مؤامرات أسموها مؤتمرات؟
اللعنة، كم أكره الحديث في هذا الأمر.          
قلبي يقول لي أنك تبادلني الشعور ذاته، وأنك تحس بنظراتي وهي تلامس ظهرك ورأسك وحتى وجهك، كل حركاتك تدل على ذلك، تململك وحكَّ رأسك المتكرر وتوجيه نظراتك في كل الاتجاهات كتائه. وأجزم أن وقوفك المتكرر أمام باب دارك أو على ناصية الشارع ليس مجرد عادة مثل عادات بعض الشبان وحتى العوائل التي اعتادت الجلوس أمام باب دُورها بقصد قتل الوقت، أو هرباً من حرارة الغرف أثناء انقطاع التيار الكهربائي المتواصل، بل هو من أجلي فقط.، قلبي يقول لي ذلك، وأنا لا أكذبه، لطالما كان قلبي صادقاً معي كما كنتُ أنا معه دائماً، ولكن لماذا لا تنظر إليّ أيها الحبيب؟ لو كان بمقدوري أن أكتب لك على نافذة هذا الشباك ما في داخلي لفعلت، ولو كان لهذا الشباك لسان لأعلمكَ بحالي. غير أنه أخرس ولا يكفّ عن الصرير كلما فتحته، وصريره هذا سيفضح أمري يوماً، حينها أخشى ما أخشاه أن يلغي أبي وجوده تماماً، وينزع خشبه وزجاجه ويسدُّ النافذة بالإسمنت، قد يفعلها، صحيح أنه يحبني كثيراً، فأنا ابنته الوحيدة التي لم يرزقه الله غيرها رغم زياراتهما المتكررة، هو وأمي، إلى أكثر من طبيب، داخل المدينة وخارجها، من أجل إنجاب ذكر يحمل اسمه ويكون له سنداً وعكازة في قابل الأيام؛ الأيام السوداء القادمة لا محالة كما يقول، ولكن شكراً للتلفزيون الذي شغله عن كل ما يحدث حوله، ولولا هذه النافذة المطلة على العالم، كما يقولون، لربما فعلها، نعم يسدُّ نافذتي المطلة على السعادة، وقد يفعل ما هو أكثر من ذلك، كأن يقاطعني ويكفَّ عن الحديث معي، وربما يضربني، نعم قد يضربني بقسوة تتجاوز ما يمكن لي تصوره وتوقعه، إنه أبي وأنا أعرفه جيداً، يتسامح معي في كل شيء إلا في أمر كهذا، وخاصة بعد أن كَثُر الحديث عن خطف البنات والأطباء في مديننا ومدن أخرى، وذلك لمقايضتهم بمبلغ من المال.
خط أحمر، هذا ما بدأ يكرره هذه الأيام، كلمة جديدة لم يكن يتلفظ بها قبل الثورة، كنا فقط نسمعها من أفواه السياسيين الذين يظهرون لنا على شاشات التلفزة صباح مساء. ويحدثوننا عن خطوط النار والتماس والخط الأحمر والأخضر ووو... أوه لقد عدت للحديث عن الساسة والسياسيين.
 أقسم أن أبي لو حدث ونفّذ وعيده فإني سأُجن، سأفقد عقلي بفقدان منفذ أسترق فيه النظر إليك. وأنت يا شباكي العزيز، أيتها الكوة المطلة على الفرح، ليتك تكفّ عن الصرير كعادتك كلما فتحتٌ إحدى درفتيك، وليتك تقول له حين تصادفه يوماً وهو قريب منك، أو حين تجده واقفاً هناك مثل تمثال، بهمس حنون كما لو كنت ناياً من قصب لا نافذة من خشب عتيق: إنّي أحبه.    
باب الدار:
أواه يا باب دارنا كم كنت أتمنى أن تكون من زجاج خالص، وليس كما أنت عليه الآن، حديد أصم وكتيم؛ كي يتسنى لي رؤية من أحب مدة أطول دون أن ينتبه أحد من أولئك المتطفلين لوجودي خلفك، أو أنّ تظل مفتوحاً دائماً، تنفتح إحدى درفتيك من تلقاء نفسها كلما تم إغلاقها، ويستعصي أمر إصلاحها على كل الحدادين المهرة وصناع الأقفال، كي أشاهد من أُحب كلَّما مرّ من أمامك، أو وقف غير بعيد عنك، حتى أروي ظمأ عينيّ برؤيته، إني أرى نظراته الخاطفة كيف تتجه نحوك كلما ظهرتُ من خلالك، نظرة خاطفة ملتهبة يذوب لها كلّ ما في صدري، كنار خلفته قذيفة مجنونة في دار، ليبدأ عصفور قلبي بالخفقان وصفق الجناحين طوال اليوم.
 ليلة أمس، وحين حدث أن التقت نظراتنا راح عصفور قلبي يزقزق ويرفرف مثل طائر حبيس، وخشية من أن أضبط متلبسة بالإنصات لزقزقته سارعت إلى النهوض عن مائدة الطعام قبل أن أزدرد اللقمة الأولى التي ماتزال في فمي، ولم أتابع ما كان يعرضه التلفاز من مسلسل يعلم والداي كم أحب متابعته، إذ كانا قد تنازلا قبل دقائق عن متابعة نشرة الأخبار من أجلي، وما أسرع أن لحقت بي أمي واقتحمت غرفتي بلهفة حين طال غيابي عن المسلسل، وكادت تطلق صرخة هلع حين وجدتني مستلقية على سريري وأنا اتحسس صدري أرهف السمع لما يصدر عن قلبي من أنغام لا أحلى ولا أعذب، لولا ملاقاتي لها بسرعة وابتسامة فرح عريضة مرسومة على وجهي.  
(عَلْت دهشة كبيرة على وجهه وهو يتذكر ما حدث له ذلك اليوم الذي لن ينساه، وظل هو الآخر حبيس غرفته يتأمل تلك العيون التي طالعته فجأة مثل نجمتين لامعتين، ولم يبح لأحد بما حدث، لا لأهل البيت، وخاصة لأمه وأخته اللتين يمكن أن يفضحا أمره ويضعانه والفتاة تحت مراقبة عيونهما الطفيلية، ولا لرفاقه الذين سيحولون ما حدث إلى مادة للتندر )                      
أواه أيّها الباب، يا باب دارنا الحديدي، لو لم تكن أصماً وقاسياً، ولو كان لك قلب مثل البشر لبقيت مشرعاً عصياً على الانطباق والانغلاق، إذ أستغرب كيف تشاهد حبيبي، هناك في الشارع، واقفاً غير بعيد عني، ينظر حوله في كل الاتجاهات، باحثاً عن فرصة يرسل من خلالها نظرة خاطفة إليك وأنت مغلق! أيها الباب، هل تدري كم أتمنى أن يقتلعك صاروخ سكود من مكانك.
أمر حبيبي هذا غريب جداً، إلام ينظر هكذا دائماً؟! ولماذا لا يكفّ رأسه عن الدوران في كل الاتجاهات، إلى أعلى وإلى أسفل وإلى حيث اليمين واليسار حين يشاهدني متوارية خلفك أسترق النظر إليه؟! فيفوت علينا فرصة قد لا تعوض في ذلك اليوم أو في أيام أخر! 
قل له أيها الباب الحبيب برقة مشاعر الإنسان الذي صنعك على هذه الهيئة، باباً جميلاً وقوياً، وبلهفة الحبيب حين تصادفه يوماً، في الليل أو النهار، وحيداً حيث لا رقيب ولا حسيب، قل له: كم أحبه!              
المطبخ:
من قال إن المطبخ مملكة المرأة؟ ماكر من قالها وأحمق من صدقها، اللعنة على الاثنين، إذ كيف يكون المطبخ مملكة المرأة وهي ليست سوى خادمة فيه، خادمة لإعداد الطعام وملء البطون؟ وأنا؛ كيف لي أن أعدّه كذلك وهو يشغلني عنك أيها الحبيب؟
كنت أيها المطبخ سأعدَّك كذلك؛ مملكة وحديقة غناء، لو كان حبيبي هنا معي، يشاركني إعداد الطعام، أو يقف هنا أمام الثلاجة يروي لي كل ما حدث له في سحابة نهاره، كنت سأقدم له كرسياً يتربع عليه بالقرب مني، في زاوية منك، قريباً من البوتاجاز أو من جرن غسيل الأطباق، وبعيداً عن بابك كي لا تقع عليه عين أحد؛ عين أمي أو أبي أو الجارات اللواتي يكثرن من زيارة أمي، ليكررن أحاديث أزواجهن في البيت عن آخر أخبار الحرب الدائرة في المدن وبدء وصولها إلى محيط مدينتنا النائية، والحديث عن الارتفاع الجنوني للأسعار: أسعار الخضروات واحدة واحدة، وما يُشكل ذلك لهن من حيرة وقلق صباح كل يوم، يعقب ذلك حديث عن الهجرة وتمكن بعض الأُسر من اجتياز الحدود إلى الدولة الجارة تركيا بسلام، أو وصول ابن فلان إلى بلغاريا دون أن يمسه أذى، أو نجاح أولاد آخرين في الوصول إلى بلد أوربي وورود أخبار تتحدث عن تسيير بعضهم معاملة ضم الشمل.    
سأطلب من حبيبي الذي لن أملَّ من حديثه أن يتذوق ما أعددت له من طعام، وسأطلب منه إبداء رأيه بما صنعت بصراحة وبلا مجاملة، ولا بدَّ أن يقول لي وهو يمضغ ما في فمه بشهية: كم هو لذيذ طعامك يا حبيبتي! ويصفني بالطباخة الماهرة، والجميلة، والحبيبة، وقد يطبع قبلة على وجنتي تعبيراً عن امتنانه واعجابه، أو يُطبق فمه على شفتيَّ في قبلة ليتها تطول، حينها سأدير له ظهري متصنعة الزعل أو الخجل، وألجأ إلى عملي في إعداد ما تبقى من طعام أو غسل الأطباق كي يتسنى لي رشفَّ ما بقيّ على شفتي من عسل ريقه بتلذذ وانتشاء.
أواه أيتها المملكة، بل يا سجني وسجن كل امرأة، كيف السبيل للوصول إليه وأنت تأسرني داخل جدرانك لوقت طويل، وقت لم أكن أحس به قبل أن ينصح الطبيب أمي المريضة بالراحة. 
مسكينة أمي، إذ أنها، وقبل أن تصاب بهذا المرض الذي قد يكون نتيجة الأدوية والعقاقير التي تناولتها بكثرة لتنجب لأبي طفلاً يحمل اسمه، ليكون عوناً له، وسنداً لي أنا أخته الوحيدة، لم يحدث أن دعتني هذه الأم الحنون إلى هذه المملكة لمساعدتها. 
أيها المطبخ العزيز، كيف السبيل إلى حبيبي وأنا هنا؛ لا نافذة أطل منها على الشارع حيث يقف، ولا باب يؤدي إلى هذا الشارع. لا بدّ أن يكون الآن هناك، في هذا الشارع الذي أصبحت أحسد كل شيء فيه: رصيفيه، أعمدة النور على جانبيه ومصابيحها الفارغة من أية إضاءة تبدد ما في سمائنا من ظلمة دامسة، أسلاك الهواتف، النساء اللواتي اعتدن الجلوس أمام أبواب دورهن، الأطفال الذين يلعبون بالكرة وهم يتصايحون ويتشاجرون، السمان العجوز الذي يجلس أمام دكانه البسيط وهو ينظر إلى المارة بعيون فضولية ومتوجسة أيضاً، أطيل النظر إليه بلا خوف من قريب أو خجل من رقيب: 
إنّي لم أعد أطيق كتمَ ما في داخلي من حبّ له.              
جملة اعتراضية:
ضج داخله بإحساس ثقيل فراح يحدّثُ نفسه بضيق وبما يشبه الاعتذار:
لست غريباً ولا تمثالاً جامداً أيتها الحبيبة التي لم أكنْ أعلم أنها تكنٌّ لي كلَّ هذه المشاعر، كنت أرى عيونك وهي ترسل نحوي تلك النظرات كسهام تخترق الروح، ولكني لم أكن أجرؤ على مبادلتك النظر، لقد كنت أخشى من خداع العواطف، وتقدير الأمور، إذ كيف لفتاة جميلة مثلك، ومن عائلة ميسورة، أن تقع في هوى شاب فقير مثلي، ولم ينلْ نصيباً كبيراً من الوسامة، ولا يملك شيئاً من فنون إيقاع الفتيات في غرامه، مثل كثير من شبان الحي، أولئك الذين كانوا يسعون لاغتنام نظرة من عينيك، فكانوا يتسابقون في نسج الشباك المحكمة حولك، ورميها في طريقك بانتظار هبوطك عليها كطائر الحجل، ما كنت أتوقع الظفر بنظرة منك، ولا حتى في المنام.
لا أخفيك أنني، وحين وجدت كم كنتِ عصية على أحابيل أولئك الشباب وشباكهم؛ أصبحت نظرة خاطفة منك تصوب نحوي بمنزلة جائزة تهبط على مُعدم، تلك النظرة التي باتت ترافقني أنى حللت، حتى في المظاهرات التي كنت أشارك فيها في بدء الثورة، كنت رفيقتي الوحيدة فيها، رغم الكثرة الكاثرة من الناس، حتى في منامي، كنت أنت الزائرة  الوحيدة التي لا أحلى ولا أجمل.
لم يحدث لي أبداً؛ أنا الشاب الذي عاش حياة كلّها فقر وحرمان أن أفوز بقلب فتاة مثلك، بل حتى بامتلاك مشاعر الحب، فقد كنت أخال الحب، وحب فتاة جميلة، وغنية مثلك، ضرباً من الوهم والخبل، وتعريض النفس للسخرية، سخرية الجميع، أهلك وأهلي، بل وسخرية شباب الحي، فما كان لي سوى اللجوء إلى الحلم، بعد أن ألهب الواقع المرُّ روحي بسياطه كجلّاد في سجن تدمر.
وحين جاءت الثورة قلت لنفسي: خلاص، جاء وقت تحقيق الأحلام، سيصبح كل شيء ميسوراً، العمل، والحرية و.. أنت، نعم أنت، وأصبحت أنتظر انتصارها لأفوز بك بعد طول انتظار وحلم؛ ولكن ها هو الحلم يطول حتى أصبح وهماً.
يا رب هل أنا في يقظة أم في منام؟                            
حبل الغسيل:
يا للعجب!
إن ما يسري في هذه اليد هو ذاته الذي كان يسبب لي ما يشبه الصعق حين كانت تلك الفتاة تتحسسني بكفيها، وهذه اللهفة هي ذاتها التي كانت تنبض في كفها.. لابدَّ أن تكون هذه اليد هي يده؛ يد ذلك الشاب الذي كان مرآه يُحيل جسدها إلى كتلة مصعوقة بتوتر كهربائي عال وشديد، يجعلني أنا المصنوع من أسلاك عازلة عرضة لاهتزازات مختلفة.
لقد كانت، وكلما صعدتْ إلى السطح حاملة سلة ثياب الغسيل، وقبل أن تبدأ بإزالة الغبار عني، تلقي نظرات عجلى وملهوفة إلى الأسفل، حيث الشارع الذي كنتَ تقف فيه، لتعود بعدها إلى عملها الذي صعدت من أجله إلى السطح، وفي كل مرة كانت تلمسني فيه كان تيار قوي يسري في كل ذرة مني، ويعيدني إلى سيرتي الأولى، أداة توصيل الحرارة ومترجم أصوات واهتزازات، فكان من الطبيعي أن أترجم كل ما كان يحدث لها في تلك اللحظة، وخاصة حين كانت ترتد خائبة وهي تنشر الثياب بتثاقل وبيدين باردتين لا تخلوان من قسوة، وذلك لأنها لم تفز بمشاهدتك حيث تقف كالعادة.
أحياناً كثيرة كنت أخشى على نفسي من أن أتمزق بين يديها، وخاصة عندما كانت والدتها تطلب منها الإسراع في نشر الثياب، أو حين كانت تحظى فجأة برؤيتك وأنت قادم من بعيد، فتنطلق نحوي فرحة طروب، تمسح عني الغبار بعناية وهي تكرر ذلك مرات ومرات على أمل أن تصل إلى مكانك المعتاد وتخصها بنظرة، وحين كنت تخيب ظنها، كأن تدخل مباشرة إلى البيت، أو تقف في الشارع كتمثال، كان يحدث لها ما لا أستطيع الآن وصفه، حينها كنت أتمنى لو أستطيع الهبوط إلى حيث تقف في الشار ع والالتفاف حول عنقك مثل أنشوطة، وسحبك إلى حيث تقف على السطح. 
(ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة وهو يتذكر  كيف كانت تنفض الغسيل بتلك العصبية ظنها تعبيراً عن غيظ، وكم من مرة أصابه الرذاذ المتطاير من الثوب المبلول بالماء، فكان يمسحه دون أن يرفع رأسه إلى أعلى. وفي المرة الوحيدة التي نظر فيها إلى أعلى، كانت قد أدارت له ظهرها، فلم يتسن له رؤية وجهها إذ سرعان ما توارت وهي تسحب خلفها عجيزة صلبة ومدورة سيلتصق منظرها في ذاكرته بقوة، الأمر الذي جعله يغادر مكانه ويدخل داره خشية مشاهدة أحد شباب الحي له متلبساً بهذه الحالة، فيحوّل ما شاهده إلى طرفة ستتناقلها ألسنة الشامتين والعابثين من الشباب زمناً) 
كم مرة خشيتُ عليها أيها الشاب من أن تتعثر قدمها وتهوي إلى أسفل، من أعلى السطح، فقد كان القلق الذي يستبد بها حين لا تراك لا يمكن وصفه..وكم من مرة أسقطتُ الثياب على الأرض من شدة التيار الذي كان يجري في دمها ويصعق كل ما كان يمر به: الدماغ، القدمين  وحتى القلب الذي انطلق منه وعاد إليه، وقد سبب لها كلُّ ذلك سيلاً من توبيخ أمها ووصفها إياها بالكسولة المتراخية، ورغم ذلك لم تكن تهبط من أجواز الفضاء التي كانت تحلق فيها برفقتك، والتجول سوية في حدائق المدينة وشوارعها دون رقيب ولا حسيب.     
نقطة
حين فتح عينيه على أصوات التفجيرات التي مزقت شال الهواء وقميصه، وبعثرت أشياء البيت كلّها، وأطلقت أصوات الفزع والهلع في سماء بيته وحيه، ووجوه وأفواه كثيرة، صغيرة وكبيرة، تتأرجح أمام ناظريه؛ لم يحرك ساكناً، كانت نظراته معلقة بمرأى حبيبته، التي كانت تتهادى أمامه وهي تُعيد على مسامعه حديث الأمس بوجه راح يتلاشى أمام عينيه ويمتزج بالوجوه التي كانت تحيط به وهي: 
تستطيل وتتربع وتستدير.. كأشباح في كابوس طويل .
قامشلي 
تموز 2013
 (مجلة بيت السرد الصادرة عن اتحاد أدباء الإمارات(العدد المزدوج 13-14 أيار 2015)






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=5549