الشعر هيولى العالم والشعراء قادة جماله
التاريخ: الأثنين 05 كانون الثاني 2015
الموضوع: القسم الثقافي



إبراهيم اليوسف

أي عالم هو ذلك الذي لا شعراء فيه؟، إنه سؤال جدُّ مرعب، جد مفزع، جد صاعق، جد أليم، يمكن أن يطرحه المرء على نفسه، وهو ينتهي للتو من متعة قراءة قصيدة  آسرة، لشاعر فحل، في أي مكان في العالم، وأية كانت اللغة التي دونت بها قصيدته هذه، حيث أن استمرارية حضور الشعر في حيواتنا تعني استمرارية قيم الجمال، باعتبار الشعر إكسير الجمال الأسمى، وهو خلاصة عناصر الجمال كلها، مادام أنه نتاج انصهار المفردة الجميلة، والصورة المؤثرة، والموسيقى الاستثنائية، ورهافة الخيال، وشذى  الأنسام، و معجم الرؤى الإنسانية المائزة، ناهيك عن  روح الدهشة، وكيمياء الألق، وسوى ذلك مما لا يمكن اكتشافه في أي مختبر نقدي، من بين عناصر تشكيل الشعر، وهي جميعها مقومات لا تتأتى إلا في أرقى الفنون، أي الشعر، سيد الفنون على الإطلاق.


ولعل ذلك العالم الذي يخلو من الشعر والشعراء، لهو عالم مقفر، مجدب، قاحل ماحل، هش،  باهت، جاف، أعجف،  معتم، كئيب، موحش،  قميء، لن يكون إلا أشبه بمجرد آلة، مسيرة،  أو معمل، لا يعدو المنتمون إليه أن يكونوا سوى "لوالب" "براغ" لا أكثر، ولا دفء فيه، ولا أنس، ولا متعة، لأنه يخلو من الحياة، وأن ناظمه مجرد رتاباتٍ لا طعم لها، ولا نكهة، ولا أهمية، ويكاد يحول الكون برمته إلى مجرد ثكنة من الهواء المضغوط، والأصوات البلاستيكية، والضحكات البلاستيكية، والأحلام البلاستيكية، دون أشجار، وينابيع، وجبال، وسهول، وبحار، وكواكب، وآفاق، و سموات، وأنهار، ومسافات، بل دون حياة البتة.
لقد انبثق الشعر من رحم جمال العالم، فكان معادل حقائقه، وضحكات أطفاله، وأحلام عشاقه، وحفيف أجنحة فراشاته، واختصار أغاريد الطيور، ووقع خلاخيل حبيبات شعرائه، و هسيس ينابيعه، وأعشابه، ومفتاح المتعة، ومطهر الروح، وسرّ السعادة، وغير ذلك مما يصنع الغبطة في النفس، ويدفع المرء لأن يشرع نوافذ روحه، كي يتفاعل مع لحظته، ويقودها، وينفض عنها غبار الزمن، وعثاء المتاعب، ويشدّ نبضها، ويدفعها إلى الأمام، وفق مشيئة إيقاعات دورة الزمن الأعظم.
أجل، أي عالم هو ذلك العالم الذي لا شعراء فيه، ولا قصائد فيه، ولا جمهرات متلقين، في انتظار قطوف الشعر، من أشجار الشاعر، هي أسئلة واخزة، جارحة، أنى أطلقناها في لحظة استسلام أمام أوهام  ومزاعم ناعي الشعر، في لحظة يأس، انطلاقاً من استبصار ضيق الأفق، من لدن أحدنا، و هو تحت وطأة انحياز لبديل جمالي لا يرتقي إلى مقام وقامة  كائن الشعر الذي كان نتاج أول وعي جمالي من لدن الكائن الأرضي، وهو يتجاز، عبر أجنحة روحه، فضاءه الفيزيولوجي، في حالة وجد صوفي، ليتقرى ما هو مواز للمعرفي، أو مرادف له، في فهم غامض النفس، وتفكيكه، وسبره، في إطار فهم أكثر ما هو ممكن في أسطورة الخلق الأسمى.
و لعل الشعر دينامو دورة الزمن، ومحور ديمومته، وسجل محيطاته وغيومه التي تروي الظمأ السرمدي، ومعجم سيرة الخلق منذ أول قوس البدء وحتى لحظة صدى القصيدة المولودة للتو، لا يفتأ يجدد هواءه،  وهو يملأ رئاتنا التواقة إلى الأوكسجين والفرح، لاشيء إلاه يعيد أفراحنا الضالة إلى مهادها في دواخلنا، أنى انهزمت قطعانها، في براري اليأس، تحت وطأة أصداء ذئاب الوقت، وهو الذي يروض نفوسنا على تهجئة مفردات أبجدية الجمال، كلما تيبست في أرواحنا الأشجار، وذوت جذورها، وتساقطت مساحات اخضرارها، ليكون بوصلتنا، في أمداء التيه، ونحن نستجلي ما وراء الخطوات التالية، ناشدين موانىء الخلاص، وهي قناديلنا التي تذوب أردية الظلمات، تملؤها بالسكينة والأنس والحلم، تشحذ نفوسنا، وتطلق أحصنتها، لتحمحم، هادرة، وهي تنتقل من فتح إلى آخر.
  إنه الشعر، ملاذ الشاعر، والعالم، وهو تلك الجرعة السحرية التي تدلق التفاؤل في النفس، وتشعل فيها وجد الحياة، وتحرض على الحب والفرح،  أنى استكانت تحت وطأة سأم  عابر، وهو الذي يلئم  جراحات الروح، يؤوي طيورها الفزعة، الجافلة، في أصعب السويعات، ويدفئها، من برد وسقم، ليبعث في أوصالها الطمأنينة،  أنى انتابتها لحظة انكسار، راسماً لها خريطة طريقها، علامات ضوئية، ومنارات، وفنارات ، في قلب المتاهات، والمفازات، بل أمواج المحيطات العاتية، على حد سواء، كي يكون بذلك ضمانة للأرضين من أي زلل، أو ضياع. أوخطر
والشِّعر هو هكذا، في اطِّراد رياضي، لا نقصان في لوغاريتماه البتة،  لأنه –حقاً- شرط سلامة الحياة، المعافاة، كنسغ ضروري،  باعتباره صنو الحب، لأنه لا ينتشر البتة في أية بيئة لا تسودها القيم السامية، والنبيلة، وهو بذلك يغدو أحد أهم نواميس الكون.ولعل أي سهو عنه من لدن أي منا، هو سهو عن أهم كنوز العالم الروحية، أو أية محاولة لتصحير ذواتنا، وجغرافيانا، في طريق وأدها، من خلال وأد ذائقة الجمال، واستهداف باصرتها، ليكون بذلك ضمانتنا المثلى، ونحن نتبادل لهاث المسافات، في سباقنا نحو إحراز ما هو جميل لأبناء أسرتنا الكونية، في بيتهم السامق، المتعالي، بكل طوابقه، وحجرات شققه المتراصة، وفق مشيئة حكمة هيولى الافتراض الرقمي، كي نخرج من أسر الترقيم والتشيؤ، ونحتفل بذواتنا، وخصوصياتها، وعلامتها الشعرية الفارقة على نحو أشدّ، وأميز.
 
ولا يمكن للشعر، أن يمارس دوره، كمطهر مما يلحق بنا، طوال هرولاتنا التي لاتنتهي،  على دروب الحياة، و لا كراوٍ لأشجار أرواحنا، وهي تهدِّد على امتداد الساعات الأربع والعشرين من اليوم، وسبعة الأيام من الأسبوع، وثلاثينها من الشهر، والثلاثمئة والخمسة والستين منها في حساب السنة، من دون أن نولي ما يستحقه من اهتمام، يتجلى في أن نفتح له آذاننا، ومسامات أرواحنا المتعبة، وبوابات خوافقنا، وشرايينا، كي يعيد ضخ الدم، والهواء، والحلم، والفرح فينا، بعد أن شارفنا على افتقاد كل هذه الثيمات التي تستوي بها سيروراتنا، وصيروراتنا، ككائنات، باذخة،  متفردة، منهوبة، مسلوبة بتذوق الجمال، والعيش عليه، والحاجة إليه، أكثر من حاجتنا إلى الماء والرَّغيف، والهواء بل والحبّ.. بلى والحب ذاته، لأن كل هذه المفردات تظل بلا شأن، في ظل سقوط الشعرمن حيواتنا، ليغدو  مجرد قوقعة أيديولوجيا، ضالة، مضللة،  في إطارالتمهيد لسرطنتها، سرطنتنا، وفي بئس المصير-هذا-نهاية كل ماهو جميل، وجحيمه الأرضي.
ولعلنا، ونحن نحدِّق في ما يحيط بنا من دمار أرضي، باتت تتهاوى إثره أبراج الحضارة، و نواميس الطمأنينة، لتسير أنهار الدم، في أماكن كثيرة من هذا البيت الواحد، وتكاد إحدى مفرداته، الأثيرة، في سوريانا، تدفع الضريبة الأبهظ، بما يهدد بمحو أقنوم كامل، تحت وطأة تراكم جثث أناسيه، وأحلامهم، فما ذلك إلا نتاج إقصاء دور الشعر، هذا الكائن الذي من شأنه إشعال سمت المكان برمته، بيخضوره، وعبقه، وفرحه، أنى احتكمنا إليه، وإن كنا هنا، أمام مجرد أمثولة واحدة، باتت تحقق قياسي الأرقام، في زمن الموت الرقمي، والحياة الرقمية، منذ أن غيب الشعر، تحت وطأة الرقمية ذاتها، وحكم عليه، بأشكال متعددة تترواح بين الاختطاف، والأسر، والسجن، والإعدام، والدمار.
معنيون جميعاً، بأن نعيد الشعر إلى مساحاته الشاغرة في أرواحنا، مادام أن غيابه يعني تخلخل العالم، واهتزازه، وموات الفنون، والإبداع، لأنه الأسطون الرئيس في كل ثيمة جمالية، وهو للفنون، وللحياة، كما هو المحيط بالنسبة إلى الينابيع، وكما هو المحيط، اللجب، وغيومه التي تسترق رذاذه، وتستقوي به، بالنسبة إلى اليابسة، لئلا تغدو ارواحنا صحراوات مقفرة، ذابلة، متهالكة، في منأى عن فراديسه الغناء. 
elyousef@gmail.com
  افتتاحية ملحق الخليج الثقافي5-1-201
  





أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=5380