هل قرأتم معروف الرصافي «الملحد» ؟
التاريخ: الأربعاء 12 تشرين الثاني 2014
الموضوع: القسم الثقافي



 ابراهيم محمود

معروف الرصافي " 1875-1945 " الشاعر العراقي الكُردي الأصل، والمتبحر في الثقافة العربية والإسلامية وخلافهما، هو أكثر من كونه شاعراً، لا بل، وهو حين كتابته الشعر كان يطعّمه برؤية سياسية وتاريخية واجتماعية، فيأتي النص مركَّباً جامعاً بين الحدث اليومي المستجد والجمالي، ولعل ما عُرِف به هذا الشاعر المتنور، كما هو سجله الثقافي عموماً، كان كتابه الضخم والمثير " الشخصية المحمدية " والمنشور بحلة جديدة عن دار " الجمل ، كولونيا ، ألمانيا، 2002 "، وله آثار كثيرة لا أظنها نشرِت جميعاً.
هنا، أشير إلى بعض من مصار حاته تعبيراً عن دقيق موقفه من أمور كثيرة ومفصلية، من خلال كتابين، هما ( رسائل الرصافي" الرسائل المتبادلة بين الرصافي ومعاصريه " وهي من جمع وتقديم وتعليق : عبدالحميد الرشودي، دار المدى، دمشق،ط1،2009)، والآخر هو كتابه ( الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع ، يليه كامل الجارجي في حوار مع الرصافي، منشورات الجمل، دار الجمل، ألمانيا،2007 )، حيث الرسالة تسمّي طرفين على الأقل، وفي الآن عينه، تميط اللثام عن خفايا معينة .


وجه الحكمة في الإحالة هذه هو الحكمة المشتركة في كليهما، إذ إن قراءة كل كتاب تشد في أزر الآخر وتستدعيه، وتتداخل معه، وكأنهما وجهان لمؤثّر ثقافي واحد، لأن ما يصرّح به في الأول في حوارات مفتوحة مع مجايليه كتاباً وسياسياً وعلى أعلى المستويات، يتأكد من خلال الثاني، والعكس بالعكس تماماً.
في الأول توجد نقاط مضيئة ومستفزة، ولكنها هي الحياة في اختلاف توترات أبعادها وحالاتها.
إن أهم ما يمكن تعزيزه في هذه المواقف، هو حدته، كما هو الإزميل التبصري، حيث تستوجب الحدة، مع الإيجاز، خصوصاً وأن الرسالة تتطلب الاقتضاب، إلا في حالات استثنائية، عندما يكون الموضوع متعدد الأفرع، سوى أنه كان برماً بزمانه ناقماً عليه على الصعد كافة.
في رسالة له يقول ( اعلم أيها السيد أنني ما كتبت ولن أكتب إلا ما اعتقدت وأعتقد أنه هو الصواب.ص16 ).
وفي رسالة لاحقة ( هذا وإن سألتم عن القوم هنا فبلاطهم في انحطاط وهم في هياط ومياط أما السياسة فملعونة وأما الأفكار فممقوتة..ص28 ).
ومن الرسائل اللافتة، تلك التي أرسلها إلى ملك العراق " فيصل الأول، في 7 تموز 1923، حيث يوضح موقفه من مسألة أشكلت على الملك، إلا أن المؤثّر هو في تعبير الرصافي والذي ربط بين المصلحتين الخاصة والعامة( أنا يا سيدي أعتقد أن الوطنية الصادقة هي أن يجد المرء منفعته الخاصة ضمن المنفعة العامة..ص41 ) .
في السياق نفسه، ومقارنة بما تقدم، للقارىء أن يمعن النظر في رسالته الموجهة إلى مدير الدعاية العام في 28 تشرين الثاني 1939، وهو يعرّف بنفسه مقصياً بها عن عالم الأضواء ( ذلك لأني كما تعلمون لست من مشاهير الرجال لا في العراق ولا في غيره من البلاد وإنما أنا خامل مجهول الاسم والشخصية والجنسية ولكن أن تعتبروا قولي هذا وثيقة ناطقة بأني بريء من كل جنسية بشرية . و" ليورد التالي ":
دع الأناسي وانسبني لغيـــــــرهمُ     إن شئت للشاء أو إن شئت للبقر
فإن في البشر الراقي بخلقتـــــــه      من قد أنفتُ بـــه أني من البشر
وليكون التوقيع في غاية الاستفزاز " المجهول في الجاهلية الإسلامية " .ص76) .
ولا يظنن عاقل أن شخصاً يستطيع أن يوجه رسالة إلى ملك العراق إلا وهو في مقام معتبَر.
ولا يعتقدن أحد من ممتهني القراءة أن المدوَّن لا يترجم عنف سخرية وتهكماً مما يعاش آنذاك ، إذ السخرية تمثيل بالواقع نفسه، وقلب لمفهومه، وإضفاء مسحة من الأبدية على المسمى، تفتقدها الكتابة العادية .
وكما في رسالة موجهة إلى نوري السعيد ( أما عيوبنا التي أشرت إليها في كلامك في المجلس فحدث عن المستنقع ولا حرج وما أنا بغافل عنها .ص105 ) .
وقراءة بعض من " قبسات " الكتابة الرصافية في السّفر الثاني تقرّبنا منه.
فيما يخص العراق في عمومه بالنسبة إليه (يقال: إن أهل العراق اليوم لا يزيدون على خمسة ملايين. ومهما كان عددهم فهم ممسوخون في السجايا والأخلاق. إذا نظرت في سوادهم قلت متعجباً: ما هذه الأوباش، وإذا نظرت في أخلاقهم قلت متحيراً: ما هذه الأحناش.ص 42 ).
إنه لتصوير قاس جداً، ولكن ما الذي يشفع لهذه القساوة، ويخفّف منها، إزاء قسوة العلاقات القائمة وهي تفتُّ في عضد كل امرىء، بقدر ما تنزع عن الناس ما يبعدهم عن كونهم ناساً ؟
وفي نقده للمجتمع والفساد الذي أوجد أكثر من طبقة تثري وتنخر في المجتمع( كانت في العراق طبقة قليلة من الأغنياء المختلفي الدرجات في الغنى... ومنذ عشرين سنة تقريباً أي منذ قامت الدولة العراقية إلى يومنا هذا قد قامت في العراق طبقة من الأغنياء غير الطبقة الأولى. وهذه الطبقة الغنية الجديدة كلها من أرباب المناصب والرواتب الذين كان كل واحد منهم قبل ذلك صعلوكاً لا يمكلك غير دار يسكنها أو لا يملك داراً للسكنى...ص65 ) .
لا بد أن الذين يقرأون هذا المشهد المصور والقاسي دلالة، سيعيشون قلقاً داخلياً، أو تسخيناً للذاكرة، وتوتراً ييمّم صوب أشخاص أو أطراف، وربما يعنيهم الموضوع في المتن، لينظروا حولهم يمنة ويسرة....
وفي نقده للحكومة العراقية وقتذاك، وعجزها عن التعبير عن مكونات العراقيين جميعاً ( ولكن الحكومة العراقية شبه النعامة لا طير ولا جمل .ص89 ) .
وما يقوله في مسلمي عهده( ليس المسلمون اليوم بمسلمين وإن صلوا وصاموا.ص189).
وفي حواره مع كامل الجادرجي يتحدث عن  نشأته ( ولدت وعشت فقيراً، أشعر بضنك العيش، فيصادف طعامنا لم يكن غير الخبز والخيار.ص219 ) ....الخ.
وضمناً يتحدث عن تأليفه لكتابه الذائع صيته " الشخصية المحمدية " والذي اشتغل عليه حتى سنة 1941 "ص242 "، ولم يتم طبعه إلا لاحقاً...الخ.
ولعل المثار فيه حمل بصمته ذات الصلة بحياته الشخصية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
سوى أن الممكن قوله هو التالي:
كيفية مكاشفة الآخر في قراءتنا لآثاره، أو أي أثر له، في زمانه ومكانه، لتشكيل صورة حية تخصهما عنه.
معرفة أن ثمة استمرارية في الحياة وتشابه الأوجه بين ما كان وما يكون وسيكون كذلك، ولربما غلبت جرأة الموقف لمن كان بالأمس من يدعي الجسارة في الموقف والنقد راهناً، مع فارق المتغيرات الزمكانية.
محاولة القبض على المفاصل الحركية للحياة والتي تبرز في المصارحة، والابتعاد عن الافتعال أو الزئبقية، لأن التاريخ يسجّل ولا بد أنه معرَّض للقراءة في يوم ما.
في قراءة ما أشيرَ إليه لدن الرصافي، يمكن لأي منا أن يتلمس هذه الحيوية في الرؤية، والاستمرارية في الحياة، وتلك هي القيمة الكبرى التي توهَب لأي كان يريد ترْك أثر ينفع له ولمن يهمهم أمره تالياً، بمعنى أن الذين يحاولون تأكيد أنفسهم بسهولة، بالكولكة، أو الزعبرة، أو الشطارة، أو التزلف، أو التذيل، والشوبشة، ومنافسة " الشرفاء " ربما يكسبون الكثير حياتياً، سوى أن الذي ينتظرهم هو بؤس المردود .
أقول ذلك، وأنا أشدد على أهمية قول للرصافي " الملحد " كما اعتقد ضيقو الأفق، ويعتقد المأخوذون بغواية السطحية في الحياة، القول الذي أورده مقدم كتابه " الرسالة العراقية" وهو الباحث العراقي المعروف رشيد الخيون ( لئن أرضيت الحقيقة بما أكتبه لها لقد أسخطت الناس علي، ولكن لا يضرني سخطهم إذا أنا أرضيتها..ص5 ) .






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=5211