وأنت في جامعة (كُوْيـَهْ)
التاريخ: السبت 26 نيسان 2014
الموضوع: القسم الثقافي



إبراهيم محمود   المدن سياسات ومواقف، وأن تتحدث عن مدينة ما، فكأنك تشير إلى أهلها ومن عنوا بها قديماً وحديثاً، لهذا من الصعب الحديث عن مدينة ما دون تخيل من عاشوا ويعيشون فيها، لهذا أكسِبت المدينة قيماً وتصورات روحية. والمدن زيارات ومدارات، فثمة مدن تزار وتُدار في صور وتعابير، ولكل زيارة أو مدار فاعل نفسي وثقافي ومقصد، ولكن ذلك لا ينفصل البتة عن الحالة الأولى. فما أن تسمّي حتى يكون هناك جمع حي يعنى بما سمّيت في الحال.


ولعل " كويه " المدينة الكوردستانية " من إقليم كوردستان " كانت على موعد ما، وربما نحن كنا على موعد معها، من خلال زيارة: عمارة ثقافية، لأن ندوة انعقدت في رحابها  وكان موضوعها التاريخ، من قبل " جامعة كويه: كلية التربية: قسم التاريخ "، والعنوان هو" منهج كتابة التاريخ : المشكلة والحلول " ما بين 23،24/4/ 2014، وربما كان انعقاد هذه الندوة متجاوباً مع خضرة الأرض وشهقة جبالها المتألقة بأخضرها " جبل هيبة سلطان " حاضنها، في انتظار أخضر آخر، هو ما يمكن للمتردد في رواق التاريخ وعبر الموضوعات التي شكلت فروعاً مختارة له. لم أكن مشاركاً، إنما حضرت الندوة بمثابة ضيف كأخوة آخرين، وبودي القول هنا بأن المشارك بصفة ضيف يستطيع الاستمتاع أحياناً أكثر دون إغفال مسئولية المشاركة الأخرى: أن يتابع بأريحية ما يقدَّم من أنشطة، ويشارك في مناقشة مفتوحة هنا أو هناك أو على الهامش، حيث يفيض التوقيت على مدته الزمنية، وأن يعيش حرارة المكان وميزته بشكل مختلف، أكثر من المشارك الفعلي أحياناً أخرى، لأن المشارك مشدود على الأقل إلى موضوعه. تقاطر إلى المكان مشاركون وضيوف من داخل الإقليم: من السليمانية ورانيا وهولير ودهوك وزاخو إلى جانب " كويهين " إن جاز التعبير. انطلقنا الثلاثاء عصراً: الدكاترة زِرار صديق توفيق وزوجته د. نازلين ، وسالم جاسم، وهوكَر طاهر توفيق، وأنا من دهوك وبلغناها ليلاً مارّين بهولير التي تفترش المكان المستلقي في الهواء الطلق الربيعي المدى. في كل طريق يربط بين مكان الانطلاق ونقطة الوصول ينبسط بقدر ما ينعقد بقدر ما ينتثر ويخفى تاريخ آخر، يُرى بالعين، أو بالأذن ، أو بالمشاعر والوجدان، أو بها معاً، وتحديداً حين يكون للمكان خصوصيته ومجاهداته ومكابداته في الارتقاء إلى مستوى المنشود وقد عانى نيراناً حارقة محرقة لجلاوزة وجبابرة وطغاة على مر أزمنته طواهم ظلام القيمة السفلي. وربما يكون الاطمئنان على المنطلقين والمتوجهين إلى نقطة اللقاء " الكويهية " جزءاً حياً من بروتوكول المضيفين، كما الحال مع الدكتور مهدي سليفاني، ولأكثر من مرة، حتى وصولنا إلى مدخل جامعة " كويه " حيث عبارة " جامعة كويه " بحروفها البارزة وبالكوردية  يحملها شبه قوس هندسي لافت يسمح بمرور الحافلات ذات الصلة، ويظهر جبل " هيبة سلطان " من خلال المدخل الفسيح كما لو أنه الواقف أمامك مرحباً بك بحزامه الأخضر والناهض والمتوثب معاً. اللقاء مع من تراه لأول مرة فضولي، اكتشافي، سوى أن له نكهة أخرى تؤهلها علاقة قائمة، كما لو أن العلاقة تعرّف قبل اللقاء، كما الحال مع كل من الدكتور مهدي سليفاني والدكتور حيدر لشكري خدر، وعلى المدخل في وسط طبيعي مضاء، ومن ثم ونحن نتوجه إلى مطعم في الحرم الجامعي، ويكبر اللقاء وقد قدم إلينا الدكتور سعيد صالح حمد أمين عميد الكلية، ومن ثم الدكتور سعدي عثمان حسين والدكتور جمال فتح الله طيب وآخرون لا تسعفني الذاكرة بتذكرهم، لذا أعتذر عن هذا " السهو ". ولعلي حين أشير إلى هذا التداخل بين ما له صلة بالموضوع، وما يظهر أنه بعيد عنه، كما في حال الجاري على هامش المطعم وغيره، فلعلمي عن أن اللقاء هو ذاته تناول لطعام ما، وأن الكلام المصاحب للطعام طعام من نوع آخر، وأن المصاحبة خارج المطعم طعام مختلف أيضاً، وأكثر من ذلك بالتأكيد، كون الطعام، ومن باب البداهة إشباعاً لحاجة عضوية سوى أن الآخر تلبية لرغبة نفسية وعقلية ووجدانية واجتماعية قابلة للزيادة وتمثّل عمقاً في الزمان والمكان. الأهم من كل ذلك، يغدو المستهل في اللقاء ترجمة مسبقة أحياناً لما سيلي: الندوة- المؤتمر، وبثاً لأمان واطمئنان. ولعل موضوع الندوة كان مؤثراً واستجابة لمسائل وأسئلة لا تتوقف عن الطرح، من خلال أربع جلسات على مدى يومين،في صالة الأستاذ طاهر بكر، كلية التربية: بدءاً من الموضوع الأول صباح يوم الأربعاء " الكورد وكتابة تاريخهم " للدكتور زرار توفيق، حيث كان التساؤل الرئيس حول عدم سعي الكورد في التاريخ إلى كتابة تاريخهم خلاف الآخرين، بينما الكورد قد وردوا بصورة سلبية تماماً في كتابات الآخرين، مروراً بموضوع الدكتور سعدي عثمان حسين المتعلق  بمنهج كتابة التاريخ من خلال كيفية تقديم أطروحة جامعية تاريخية في إقليم كردستان والجانب التوصيفي للموضوع والمشاكل القائمة، ولاحقاً موضوع الدكتور قادر محمد حسن المتعلق بمن يعتمَد عليهم في كتابة التاريخ " أشير إلى بروديل مثلاً "،  وموضوع الدكتور هوكَر طاهر توفيق عن كيفية حضور الكورد في كتابات الأرمن ، وكتابة هاكَوب شاهبازيان ، كمثال، منهجياً، وكونه متخصصاً في هذا المجال، وموضوع الدكتور سامان حسين أحمد، عن تاريخ كتابة التاريخ الكوردي لدى المستشرق الروسي " لازاريف نموذجاً " وهو أيضاً موضوع مؤثر. وفي اليوم الثاني كان موضوع الدكتور كاوه محمد دستوره  عن مطلب الآن في كتابة التاريخ، وهو يشير إلى مناهج لها صلة بالمدرسة الفرنسية الحديثة " كما في حال فوكو "، ومن ثم موضوع الدكتور  كوزاد محمد أحمد، والمتعلق بالمنهج الجديد في كتابة التاريخ في الغرب، وما قدمه الدكتور كامران محمد قادر في موضوعه ذي الصلة بكتابة التاريخ والاستفادة منه من خلال طريقة الفرنسي فرناند بروديل، وانتهاء بموضوع الدكتور حيدر لشكري والذي أثار حماساً لدى الحاضرين في طريقة إدارته لموضوعه ذي الصلة بالمغزى بالمنهج المعتمد في كتابة التاريخ الكوردي. طبعاً أوردت المتعلق بحيثيات الندوة في كلمات مقتضبة جداً، لأن الهدف ليس التعرض لما تم تقديمه، إنما هو الانشغال بالتاريخ  وما يفيد الكورد وما يجب عليهم القيام به، وخصوصاً راهناً، وفي إقليم يمنح التاريخ في جامعاته مكانة استثنائية نظراً للاعتبار الخاص جداً لموقع الكورد وفي الإقليم بالذات، إذ إن معرفة التاريخ تمثل عصباً حياً لمعرفة الذات. سوى أن الأكثر تفعيلاً إزاء ما تم تقديمه هو جانب المناقشة تلك التي تفصح عن علاقات بينية ومدى قدرة الحضور على التجاوب والتحاور وقدرة المحاضر على التفاعل والتلقي وتقبل الآخر، وأعتقد أن  المناقشة كانت مؤثرة نظراً لانفتاح كل طرف على الآخر، وكون المناقشة بالذات تلوّن صورة الآخر في الجهتين، وتحدد قيمة الموضوع من جهة المتداول في إطاره، وما يمكن أن يعايش داخله، ومثّل وجهاً مدينياً بحق لهذه الندوة على أكثر من صعيد. إن مجريات وقائع الندوة " التاريخية " أضفت على كويه بعداً حيوياً، كما لو أن لقاء حميمياً مع شخصاً يحفّزك على توسيع المكان، وكأن العلاقة تستمد عافيتها أو خصوصيتها من المكان بالذات " الحِمى "، وهذا ما تم في اليوم الأول، من خلال تجوالات وانشغالات استدعت الذاكرة وجماع الروح، في عصر يوم أربعائه طبعاً، في المحيط القريب من كويه، وضمن كويه، إذ يستحيل أن تلم بـ " جغرافية " كويه بهذه البساطة، لأن أوكد ما يمكن قوله بالنسبة إلى أي مكان وفيه هو التنوع التضاريسي والذي يتجاوز بك حدود الصفحة والصفحتين، لأن الطّباق الموجود بين الجبل والوادي، الأخدود والمعبر، السهل والهضبة، المرتفع والهاوية، الصخرة والتراب الناعم..الخ، يشدك إلى أن تتخذ وضعية الإصغاء بكل جسدك إلى وضعية من يصيخ السمع إلى موسيقى تستغرق المرئي، لأن كويه التي تعني لغة " الجمع" إلى جانب الجبل، ولأن عراقة تاريخية لها، كما قيل لي " منذ أيام الساسانيين " من معززات الانطلاق إلى الهواء الطلق والنعومة الطلقة لطبيعة لا تخفي شذراتها الذهبية وغيرها. يا لصخرة كويه، يا لغرينها، يا لترابها، يا لجصها، يا لشجرها، يا لطيرها، يا لمفترق تاريخها. يا مهبط هوى شاعرها " كويه " سلام لك وعليك إذاً ! في كويه جبال تتساند، جبل يشدك ويسلّمك إلى سواه، ومنخفضات وتهضبات والتواءات تمتد وتنكسر وتتنوع عمقاً في " ثغر " جبل أو هضبة، ترجمة لغوية طبيعية، وكان اللقاء الأول مع المكان المقدس برمزه وإيقونته " ماربينا " بتاريخ يتجاوز مئات السنين، كما تقول رسومه المحفورة، وآثار الطواحين المائية في الجوار، إنما في المنبسط المعموم يواجهك المسيح الجليل وهو مصلوب،كما لو أنه وقد التوى رأسه، يسمح لك بمكاشفته وتلمس خفقان روحه وراء عملية الصلب، ووراءه تمثال للأم العظيمة بجمعها بين الأبيض اللافت والأزرق المهيوب. أمام ماربينا يبرز جبل خالخالان وكأنه في هرولة أو استعداداً لهرولة، وبعده يتراءى جبل " بيره مكَرون، وعلى مقربة يمتد جبل" هيبة سلطان، أخت صلاح الدين الأيوبي  كما قيل ويقال. ولنلتقي لاحقاً وفي المدينة الوادعة بأكثر من أثر تاريخي. كويه التي تستلقي على هضاب كأنها تتوسدها معاً، كويه التي تحفر في أكثر من منعرج محفور في التربة وهي تتلوى وتتقوى بما ترسمه أرضياً، كأنها تشير لماء السماء أن ينسكب، ولمن يبحث عن خفاء لعبة غميضة أن ينطلق، كويه التي تتزنر بأكثر من صلد جبلي على مقاسها كأنها تشد حولها حزاماً من حجر وجير وكلس ومنبثقات نبات صاعدة في الهواء لتثبت في الأرض، كويه التي تمسّد أرضاً تنفرش أمامها لتهبط عليها بسلام راحة للوادعين وملتقى للقادمين، كويه التي تجمع بين الأرضي الهابط والأرضي الشامخ لتحير الناظر وتبقيه في جلسة أرواح " كان يا ما كان ". وفي بعض مما رأينا كان الذي كان " لحتى كان "، كما في المدينة – القيادة الُأثرية لكويه " قشلاغ- ربما "، وهي تستشرف ما حولها من الجهات الأربع، مأخوذة بالمعتدل: لا المرتفع الشاهق ولا المستغور الغارق في الظل المعتم، إنما الحد المتوسط بين الوادي المستوفي لاسمه، والجبل المتوحد مع رسمه، ومراصد تري المتحرك خارجاً ولا تري المقيم فيها. حيث المساحة الرباعية الشكل تبث أماناً معلوماً في الداخل. ولشد ما لفت النظر في جانب مجاور لزاوية قشلاغية قبر العتيد دلدار مبدع " أي رقيب- توفي سنة 1948 "، كأن خضرة القبر، والهضبة التي تحمله تبقيه في منأى عن عوادي الزمن وتدع للمرتقي إليه من تدرجات حجرية كما هو مقامه مقدامه. هكذا الحال كان مع مأثور مكاني آخر، إنما دون أن يغيّب عن الأنظار" وضعه الطللي " نوعاً : خان محمود آغا ، ذو الميلاد المهيوب 1844، والسوق المعانق له، ولكم آلمني الخان المرنان بألم المهمل، بأصداء متخيلة لمن ارتادوه وعاشوا فيه لياليهم ومجالس أنسهم، بحيوات تداعت إلي، وكان يصل لغات شتى بالنسبة لقاصديه من حلب والموصل وإيران للتجارة وأخبار الإمارة وغيرهما، كم حز في نفسي أن يودع مكان هو أمكنة، هو جانب ملحمي ، عوادي الزمن، وفي الوسع استعادة حيوات عمرانية فيه ليخلب ألباب سواح ورحالة وهواة ما كان كأرشيف لا يقاوَم: أن يرمَّم ويسمح لباحثي كردستان الأخرى أن يصلوا بين لحظة ممتدة في الزمن، ولحظة تمتد في الآن. كم لفت النظر في الجوار حيث يربض على الأرض وينبض بحياة دينية: الجامع الكبير لكويه، والذي يرجع بناؤه إلى سنة 1844، حيث الفِناء الرحب واللافت أكثر هو رؤية النجمة السداسية لداوود على الباب الخارجي للفناء وفي الداخل لصق المحراب، كما لو أن " مهندسي " عمارته آثروا أن يترك هذه البصمة بوعي. والداخل في هدأة الروح تجاور الجامع والكنيسة في الجوار الآخر، كأنما يترجمان ما كان يُتداول ذات يوم . وليكون إمعان نظر في أمكنة أخرى لها تاريخها، وأمكنة قيد الإنشاء، وأساسات ذات نفَس حداثي، وجموح صوب الآتي. وجوه أمكنة، وأمكنة وجوه، وتفاعل لغات في حضرة الكوردي: اللغات كما هي العمود الفقري للندوة، ذات الأنس، ووجوه شابه ليافعين ويافعين لطلاب علم وطالباته، أو لنماذج من بدائع آدم وحواء بعض من إقليم كوردستان. ومن البداهة أن أسمي الدكتور جمال طيب وهو يعرّف بما رأيناه بلغة تغري بالمصغي إلى أن الحياة تستحق أن تعاش في كويه، كما هي فراهة الجغرافيا والتاريخ في كويه، فشكراً له. كل ذلك كان وصال تواصلات وتفاعلات وتعارفات وتآلفات بين مشدود إلى ماض تليد ومنهم بمتوسط فيه، ومتوجه إلى الحداثي فيه في التأريخ والتاريخ، وأن أعيد إلى الأذهان مجدداَ أسماء من ذكرت وتواصلنا ولو عرَضاً، وبعض من العرَضية يشي بسر تاريخي أو يعلِم بصحوة روح ثقافية وتآزرات في وجهات النظر بين أن يكون أحدهم ماضيّ الهوى والآخر متوسطيه وثالث يشير إلى ما قبل ميلاد الميلاد، ورابع يشير إلى شريف خان البدليسي وخامس إلى بروديل وسادس إلى ميشيل فوكو، وسابع إلى " خلطة " تعني المهم في النتيجة، وكل الحضور يحمل توقيع " كويه ". شكراً لكم يأصدقاء يوم أو يومين وبعض منهما، خميرة لا بد أن تتفعل في القادم الأثير من الأيام، شكراً لمن أعلمونا بما كان، وشكراً بمن أكرمونا برؤية ما هو كائن ولو في بعض منه، وشكراً بمن أتحفونا بأطايب مكرمات روح، وغدق ضيافة، وشكراً لمن أرادوا إعلامنا أن الحياة تستحق أن تعاش في إقليم كوردستان، وشكراً لمن أرادوا من خلال كل ما تقدم أن اللقاء في كويه يمكن أن يعزز في الروح شهوة الاشتياق الروحية إلى لقاء آخر وثالث، ونحن في الانتظار يا كويه ويا " شعب كويه " ...! دهوك





أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=4916